ثامر
الحلقة رقم – 4
. أدارت الأم وجهها باتجاه الرجل الغريب وأطالت التحديق في عينيه. نظر الرجل إلى عينيها هو الآخر. كان يتوقع بأنها ستوجه له أمراً ما، أو تطلب منه أي اقتراح بَيْدَ أنها ظلت صامتة صمت الأموات. كان هناك شيئاً خفياً في نظراتها لم يفهمه مطلقاً. كانت نظراتها تنطق بأشياء غريبة. بريق عينيها السوداويتين جعل شيئاً خفياً يتحرك داخل روحه المنهارة. سافرت نظراته تستطلع كل تلك التجاعيد الصغيرة المرسومة تحت عينيها. تستكشف كل خط صغير مرسوم على خدها وقرب شفتيها. شعور غريب بدأ يراوده. يبدو أن هذه التجاعيد الصغيرة على ذلك الوجه الأسمر قليلاً تحكي قصة إنسانة مناضلة قد صارعت ظروف الحياة القاهرة أياماً طويلة. يبدو أنها قد عانت الكثير في حياتها. يا آلهي لماذا هذا الشعور الغريب يتحرك داخل كل عصب من أعصابه. هاتين العينين السوداويين وهذا الوجه الأسمر ليس غريباً عليه، هل أنه كان يعرفها من قبل؟ هل سبق أن قابلها في زاوية من زوايا المدينة يوماً ما؟ لا..لا.. هذا مستحيل. هذه المرأة غريبة عنه تماماً. غريبة بالنسبة إليهِ مطلقاً. لقد شاهد نساءاً كثيرات في حياته ولكنه لم يسبق له أن شاهدها من قبل. يبدوا أن كثرة الصور القديمة التي مرت عليه في حياته الطويلة بدأت تتلاحق ألآن في محاولة لإخراج سراب صوري بشري لم يسبق له أن أطلّع عليه من قبل. ولكن لماذا هذا الشعور وهذا التقمص الروحي الذي يراوده الآن. أحياناً يشاهد المرء شخصاً ما في حياته ويظن أنه يعرفه من قبل، ولكن هذا مستحيل بالنسبة له ألان أو أن هذه القاعدة لا تنطبق عليه أبداً لأن هذه المرأة غريبة عنه تماماً . لكن هناك شبهاً ما لا يمكن أن يعرفه في هذا الوقت العصيب الذي يمر به ألان .من يدري، قد يتعرف عليها أو على تلك المرأة التي ترتسم صورتها أمامه . انه سراب وليس ألاّ سراب .سراب الأيام الماضية التي حطت إمامه في هذا العالم الدموي المترامي الأطراف . فليترك هذا الأمر، لينشغل بأموره الواقعية التي يتخبط فيها ألان. ظلت الأم تحدق فيه لم تأبه لحيرته التي كان يعوم فيها. كانت نظراتها تتحرك هنا وهناك، شعر بأن تلك النظرات تلتهمه التهاماً ولكن بصمتٍ مطلق لدرجة أشعرته بالارتباك.. حاول أن يبدأ الكلام بَيْدَ انه شعر بالعجز المطلق. لأول مرة في حياته يشعر بعدم القدرة على الكلام.. فتح فمه في محاولة لقول شيء ولكنها سبقته في حديث جهوري جدّي ” .. أسمعوا جميعاً. الوضع الذي نعيش فيه الآن خطر جداً. لا أدري ما هو الصواب الذي يتحتم علينا القيام به؟ ولكن كل ما أريد قوله هو يجب علينا التخلص من السيارة والجثتين وحتى الأغنام المذبوحة. لا أريد أن أرى تلك الأغنام. لو كان قد تم ذبحها في ظروف أخرى لكنت قد احتفظت بلحمها في ثلاجة البيت. أما ألان أشعر أن لحمها قد تم تحريمه علينا. أشعر أنها أجساد أولادي الممزقة في أحدى التناحرات الطائفية العقيمة التي تحدث هنا وهناك. أنت أيها الرجل النبيل- الذي لا أعرف أسمه حتى ألان- أذهب أنتَ وسميرة وتخلصا من كل شيء في مكان لا يمكن الوصول إليه أبداً. أقترح أن تلقوا كل شيء في النهر الكبير. ستختلط الجثث مع الجثث التي يتم رميها في النهر الكبير كل يوم. أما السيارة فستغرق في أعماق النهر مع جثث الأغنام. ستكون طعاماً جيداً للأسماك. يبدوا أن هذه الأغنام قد تم تحديدها رزقاً للأسماك من قِبل الخالق الجبار. سيعوضنا الله- سبحانه وتعالى- بأحسن من ذلك طالما نحنُ مظلومين ولم نعتدي على أحدٍ من قبل. هم اللذين هاجمونا. هم اللذين سرقونا. كنا ندافع عن أرضنا وحلالنا وأرواحنا. فليفعل الله ما يشاء فهو الرقيب على كل شيء. ماذا نفعل؟ لم يكن أمامنا أي حل أخر سوى الدفاع عن أرضنا وأنفسنا. أما أنا فسوف أصطحب- وفاق- إلى البيت سأحملها أمامي على الجواد. أما الأغنام الباقية سنتركها ترعى ستعرف طريقها إلى البيت عند حلول المساء. لقد اعتادت على الطريق حتى لو لم يكن معها أحد. الشيء المهم الأن هو الحفاظ على أرواحنا. سميرة ستقود السيارة وأنتَ تحمل البندقية لتحميها وتحمي نفسكَ. إذا لم تعودا قبل حلول الغروب سأعرف عندها أنكما في مأزق شديد أو أنكما فارقتما الحياة. سأهرب مع –وفاق- إلى الطرف الأخر من الأرض وأحاول الاختباء في الملجأ رقم واحد… لاتنسي أن تأخذي هاتفك النقال معكِ. سأكون على اتصال معكِ بين فترة وأخرى. لاتتصلي إلا إذا كنتِ على وشك الموت. لا أريد أن أقلق عليكِ أكثر من اللازم . أنتِ فتاة شجاعة… برية.” صمتت قليلاً وكأنها تريد أن تستجمع أفكارها المشتتة هنا وهناك. أخذت نفسا عميقاٍ وكأنها تذكرت شياٍ مهماٍ، بعدها استطردت قائلة ” ..العذراء الجامحة هذا ما كان والدكِ يطلق عليكِ منذ أن كنتِ في العاشرة من عمركِ. كان يقول لي على الدوام- أين العذراء الجامحة؟ أين العذراء البرية؟ ماذا فعلت العذراء الجامحة؟ لماذا تأخرت العذراء الجامحة في النوم؟. ” ثم راحت تمسح دموعها عندما كانت تستذكر تلك العناوين والعبارات التي كان زوجها يقولها لها باستمرار لدرجة أنها هي الأخرى بدأت تطلق عليها نفس العناوين والعبارات التي كان زوجها يقولها. تحفزت – سميرة – عند سماع كلمات والدتها …شعرت أن الدماء بدأت تتدفق إلى قلبها وكافة أنحاء جسدها بغزارة فتتحول ألى ثورة من الغضب لايمكن مقاومتها. نهضت بسرعة. تناولت البندقية. نظرت إلى الرجل الغريب دون أن تقول له أي شيء. نهض هو الأخر وكأنه فهم ما كانت ترمي إليه. كان قميصه الممزق ملقى على الأرض بجانب –وفاق- التي لازالت تئن من الألم. خطف البندقية من يد سميرة وأندفع راكضاً إلى الأمام عاري الصدر. ركضت سميرة خلفه وكأنها كانت تحاول توفير غطاء حربي له في معركة خاسرة. بسرعة البرق حمل الجثتين … الواحدة تلو الأخرى ثم صرخ بها ” أذهبي خلف عجلة القيادة. ” وبسرعة تفوق سرعته في الحركة إنطلقت كالسهم الخارق صوب مقصورة القيادة. انطلقت تشق عباب الهواء على الطريق الترابي الذي يؤدي إلى النهر الكبير. بين فترة وأخرى كان الرجل الغريب يلقي نظرة خاطفة نحو الخلف كي يتأكد من وجود الجثتين البشريتين فوق جثث الأغنام. كانت الأرض شاسعة مترامية الأطراف خالية من البشر تماماً. أما سميرة فقد كانت تقود السيارة بمهارةٍ فائقة أذهلته. كان ينظر اليها بين فترة وأخرى. وكلما فعل ذلك كانت هي الأخرى تستدير بوجهها إليه فتلتقي نظراتهما في انسجام خفي تنجم عنه ابتسامة باهتة ترتسم على شفتي العذراء الجامحة كانها تريد أن تقول له- لاتهتم أن الله معنا طالما نحنُ مظلومين في هذا العالم القاسي… أو أنها كانت تريد أن تطمئنه أنها سائقة ماهرة وتعرف ما تقوم به الأن. حينما وصلا حافة الجرف لذلك النهر الكبير، ترجلا من السيارة, التفتت أليه قائلة ” ماذا سنفعل الأن؟ ” . دون أن يجيبها تقدم نحو عجلة القيادة وراح يقودها بهدوء نحو الجرف وبحركة ماهرة طارت السيارة في الهواء ثم أستقرت فوق المياه المتدفقة. مكثا ينظران اليها وهي تندفع نحو القاع بحمولتها البشرية والحيوانية. وفي النهاية ذابت تماماً تحت الأمواج. ظل الرجل يتطلع بشرود ذهني نحو ذلك التدفق المائي الهائج. دون وعي راح يقول بصوت مسموع وكأنه يخاطب روحه المنهارة. ” ..أيها النهر الكبير. أيها الهبة الإلهية العظيمة. كم إبتلعتَ من الأجساد البريئة وغير البريئة! هل أنتَ نعمة أم نقمة على حياة البشر؟. هل أنت العقاب الإلهي لآلاف الأرواح التي أزهقت في هذا الصراع الدموي الطائفي؟ هل أصبحت لحوم الأسماك محرمة علينا لأنها تتغذى الأن على لحوم الناس؟ هل يحق أن نأكل الأسماك الأن أم أنها محرمة علينا كلحم الخنازير؟. من يدري قد نجد أجزاءاً من أجساد أقربائنا وأصدقائنا وجيراننا في بطون أو لحوم بعضاً من تلك الأسماك؟. من هو المسوؤل عن هذا الانجراف الإنساني نحو الهاوية؟ هل يحق لنا الاعتراض، أم ان هذا مكتوب علينا منذ بدء الخليقة؟ لماذا مات أمجد؟ ولماذا ماتت زوجتي؟ ولماذا قُتلت أبنتي؟ هل ان مصيرهم يشبه مصير تلك الجثتين أم أنه نفس الموت الذي ننتظره؟ أمجد لم يقتل أي إنسان كان شاباً جميلاً يشبه الزهرة في بداية تفتحها. أبنتي كانت تحلم بتكوين عائلة مع أمجد.. تبني حياة جديدة بسيطة معه. لماذا كان مصيرها كمصير هؤلاء القتلة؟ إنه نفس الموت وأن تعددت الأسباب والدوافع. ؟ هؤلاء القتلة قَدموا لاغتصاب حقٍ لم يكن لهم اي حق في اغتصابه, كي يأخذوا هذه الأرض من امرأة مسكينة وأبنتها التي لم تعرف معنى الحب الجسدي في حياتها . رغبن مواصلة الحياة بعد عاصفة هوجاء من البؤس والشقاء. ولماذا تتركني زوجتي بهذه الطريقة الوحشية، وماذا سأفعل بعدها. ماتت الزهور التي زرعتها بعناء وشقاء. من أجل من؟ وبسبب من؟. هل ولدنا في هذه الحياة ليسحق بعضنا الأخر؟ أم نسرق بعضنا الأخر؟. يا لهذا الزمن الغادر الخالي من التفاعلات الأنسانية والروحية .هل سأبقى هكذا كشجرة عقيمة في رمال ملتهبة؟. هل سأبقى وحيداً في ليالِ الوحدة والوحشة والعزلة لحين قدوم ساعة الاحتضار؟. إذن فلتنتهي حياتي هنا وأتخلص من طول الانتظار. وداعاً أيتها الأرض التي نَزفتُ عليها دموعاً وجروحاً واندحار. وداعاً أيتها الحياة .. وداعاً أيتها الحياة الخالية من المحبة والإيثار…” . وقبل أن يقفز من الجرف الشاهق نحو الانتحار.. وينهي حياته بلا رجعةٍ، بلا دمعةٍ، بلا سكرةٍ مسكته [العذراء الجامحة] بحركة بطولية تفوق صولات قادة الحروب في الأزمنة الغابرة، منعته من قتل نفسه وإنهاء حياته. كان ممدداً على بطنه و رأسه قريباً من الهاوية وبقية جسده يرفس في التراب ، حاول التخلص منها كي يقلل من آلام سكرات موته. لم يكن يعرف السباحة أبداً. كان على يقين من موته عند ارتطام جسده المنهك فوق سطح الماء. أما«سميرة» فقد ظلت تصرخ بأعلى صوتها تلتمس منه أن يساعدها للخروج من هذه الأزمة السوداء. كانت تنتحب بصوت هادر يمتزج مع حفيف الأشجار وخرير الأنهار ونعيق الغربان، تستجديه أن لا يتركها هنا وحيدة كما ترك شقيقها –أمجد- تحت التراب هناك ” ..أرجوك، أتوسل أليك، لا تتركنا وحيدين تنهش اجسادنا الطيور الجارحة، وخفافيش الليل، وذئاب الأدغال، فهذا محال. إذا فقدتَ حياتكَ سنكون ذرات رمال تذروها الرياح ، سنكون بدونك كرحيق في غربال ،سنكون مهشمين محطمين في أسوأ حال. نحنُ في حاجة ماسة أليك الأن، سنكون بعدك جثثٌ ممزقة معطوبة تأكلنا الكلاب والفئران. لا تهرب من الحياة بهذه الطريقة البشعة، لا زال هناك نورُ وهواء وغيوم منقشعة. أنت الأن بمثابة الأب المسؤول عنا جميعاً، إنظر إلى الخالق العظيم كيف نسّق الألوان وصّور كل شيء تصويراً بديعاً، من يدري قد نُكوّن حياة معاً ونلعب سوية مع حفيدتك وحفيدي. من سيدافع عنا إذا ذهبت؟، لا يوجد أحدٌ غيرك في هذا العالم، لا تكن عنيداً، لا تكن بليداً، لا تكن ظالما. ستكون جباناً أذا متَّ بهذه الطريقة. عدني بأنكَ ستكون مسؤلاً عنّا. لقد فقدنا أباً عزيزاً وأخاً عزيزاً فلماذا لا تكون عنهما البديل.. سنحبك ونحترمك وهذا عرفان بالجميل. سأترك قدمك أذا وعدتني بالحفاظ على حياتك، سأكون معك بكل لحظة وكل ومضة حتى بعد مماتك” . وراحت تبكي بشكل هستيري كمجنون لا يفهم ولا يدري ماذا يريد. بكت الطيور معها لسماع نحيبها وظلت تبكي وتبكي حتى أرخت قبضتها وتراجعت إلى الوراء غير مهتمة لما سيحدث عند حافة النهر الكبير. ظلت تندب حظها العاثر وتمزق حنايا روحها وقلبها الكسير.
شعر بقشعريرة تدب في أوصاله وهو يستمع إلى توسلات تلك الفتاة الغريبة عنه تماماً. قبل ساعات كانت مجرد عدو يجلده بتلك السياط اللاذعة التي كانت تحرق جسده حرقاً. يا لغرابة القدر!. هل يُعقل أن يتحول العدو بين فترة وأخرى إلى صديق حميم يحاول إنقاذ حياته من براثن الموت الأكيد؟ هل يُصّدق ما كان يجري حوله؟ كان ينظر إلى تلك الأمواج المتكسرة على الصخور القريبة من حافة النهر. هل يدفع قدمه بقوة وينزلق نحو الصخور على رأسه من ذلك الارتفاع الشاهق؟. بالتأكيد سوف يتهشم رأسه قبل أن يصل إلى قاع النهر. هل يستجيب إلى توسلات تلك العذراء البرية، العذراء الجامحة- على حد وصف والدتها ووالدها لها عندما كانت صغيرة؟. ولماذا يوافقها للعودة إلى البيت الذي ستعصف به رياح حارقة حينما يعودون أليهم مرة أخرى؟. عادت إلى ذاكرته صورة أبنته الصغيرة عندما كانت تطلب منه عدم الذهاب إلى العمل كل صباح لأنها تريده ان يبقى في البيت ويلعب معها كما أعتاد على ذلك كل ليلة وكل صباح. هل صحيح أنه سيكون جبان إذا كان يعتزم على إنهاء حياته بهذه الطريقة المأساوية؟. عادت إلى روحه كافة مشاعر الرجولة والغيرة على قومه مرة أخرى. لم يهرب في حياته ولا حتى لحظة واحدة عندما كانت الأزمات تقف في طريقه. إذن لماذا يرغب ألان بهذا الهروب المأساوي؟ عادت إلى ذاكرته نظرات تلك المرأة الغريبة عندما كانت تتحدث إليه في ذلك الملجأ الأرضي قبل خروجه مع سميرة للتخلص من الجثث الحيوانية والبشرية. هل ينهي حياته قبل أن يكتشف لمن تكون تلك النظرات ولمن يعود ذلك الوجه الأسمر الذي زحف اليه شبح الشيخوخة؟ قرر أن يتراجع عن قراره . قرر أن ينفذ إلى أعماق تلك الأم المسكينة. يسألها عن حالها وعن حياتها وهل كان يعرفها يوماً ما؟. من يدري قد تساعده هي الأخرى في أيجاد ذاته والكشف عن ذلك اللغز الذي لا زال يحيره ؟. دون أن يطلب مساعدتها بدأ يزحف بهدوء إلى الوراء. قفزت نحوه مرة أخرى تسحبه بهدوء الى بر الامان .كانت تريد أن ترسم معه خارطة لعودة الحياة من جديد. تساعده للخلاص من ذلك الخطر الذي كان يحيط به من كافة الجهات. عندما وقف على قدميه مرة أخرى حدقت في عينيهِ بعينين متوهجتين ألماً وسعادة في نفس الوقت وهي تقول” .. الحمد لله على سلامتك مرة أخرى. لن أسمح لك بإيذاء نفسك مرة أخرى. أنا مدينة لك بحياتي.” قادته من يده اليسرى وتوجهت نحو الأرض البرية الشاسعة المحاطة بالأشجار الكثيفة من جهات عديدة. سار إلى جانبها صامتاً كطفل صغير انقاد إلى تعاليم وإرشادات والدته الحنون. دون سابق أنذار دق تلفونها النقال. نظرت اليه وكأن حدساً خفياً يقول لها أن ثمة شيء رهيب قادمٌ في الطريق. توقفت كي تجيب على الشخص الذي يتصل بها الآن وأذا بوالدتها تصرخ بأعلى صوتها ” ..سميرة،سميرة ، يا أبنتي العزيزة، أهربي مع الرجل إلى أي مكانٍ أمين. لقد دمروا كل شيء. هربت أنا مع –وفاق- إلى الملجأ رقم[٣]، أنت تعرفي ماذا أقصد؟. إذهبي إلى الملجأ رقم [٤].لقد أحرقوا البيت. لم يبق لنا أي شيء لقد أصبحنا مشردين منذ هذه اللحظة.”وفاق” في حالة جيدة. أنها ألان في أحضاني.. أنا ألان أنظر من الملجأ رقم ثلاثة وأشاهد النيران تخرج من كل نافذة من نوافذ البيت. لقد جلبوا سيارات كبيرة، أخذوا كل الأغنام الباقية. لم يبق أي شيء . الآن بدؤا بإحراق الأشجار القريبة من البيت. أركضي بأقصى سرعة مع الرجل، لا تنسي أن تسأليه عن الشيء الذي أخبرتك عنه. إلى اللقاء ” . نظرت اليه برعب حقيقي، شعرت أن الأرض تدور بها. دون وعي صرخت به وهي تسحبه بقوة ” ..أركض،أركض،أركض. لقد ضاع كل شيء, إلى الملجأ رقم أربعة. ” راحت تركض بأقصى سرعة تركت يده كي تدع له مساحة واسعة من حرية الركض. بدأ يركض هو الأخر نحو المجهول. عندما وصلا الملجأ رقم أربعة، أزالت قسماً من الأغصان اليابسة. كانت هناك فتحة كبيرة تحت الأرض. نزلت معه إلى الأسفل ثم أعادت وضع الأغصان كما كانت عليه سابقاً. كانت هناك مساحة لا بأس بها من الأرض، تشبه الغرفة البسيطة تحتوي على عدد من الأواني البسيطة وبعضاً من الحبوب الجافة. طباخ صغير وقليل من نفط الطبخ. كانت بمثابة بيت صغير تم تخصيصها لحالات الطوارئ غير المتوقعة. سافرت عيناه إلى كافة أركان الملجأ المتواضع. شعر أن يداً ماهرة جداً هي التي أعدّت هذا المكان. جلست سميرة على الأرض وجلس الرجل أمامها. أراح ظهره على الجدار. كانت ترمقه بنظرات حائرة قلقة. صدرها المشرئب يرتفع ويهبط بشكل سريع. حاولت أن تقول شيئاً ما ولكنها لم تستطع. كانت الدموع تجري من عينيها كجدول صغير في يوم عاصف. لم ينبس هو الأخر ببنت شفة. أحترم صمتها القدسي. لم تكن لديه رغبة لقول أي شيء. أرادها أن تبدأ الحديث، أي حديث يكسر جدران الحيرة والصمت. لم يعد يهتم لما يجري حوله. كان مخلوقاً بشرياً يلعق جراحه وأحزانه في صمتٍ وعدم مبالاة. أصبحت الحياة بالنسبة له مجرد عبث يومي في محيط لا ينتهي من العذاب. نزعت الغطاء الخفيف الذي كانت تضعه حول رقبتها وراحت تمسح دموعها بهدوء وكأنها تستفسر عن سر وجود هذا المخلوق البائس أمامه. ألقت أليه قطعة القماش الخفيفة وهي تقول بصوت واهن ” خذ… أمسح الغبار عن وجهك وأمسح العرق المتصبب من صدرك العاري” . ظل ينظر إلى القطعة المبللة بالدموع الحارة الصادرة من فتاة لا تزال عذراء على الرغم من تقدمها في السن. لأول مرة يمسك قطعة قماش تابعة لأمرأة أو فتاة منذ وفاة زوجته. نعومة القماش أرسلت قشعريرة كهربائية إلى كافة أنحاء جسده المنهك. دون اكتراث بدأ يزيل ذرات التراب المتجمعة فوق جبينه وخديه. أنحدرت يده إلى الأسفل وبدأ يمسح صدره الذي كان مبتلاً بسبب العرق الناجم عن الركض الطويل. بعدها كّور قطعة القماش ثم ألقاها إلى سميرة التي أخذتها بسرعة وربطتها حول رقبتها مرة أخرى. حينما هدأت قليلاً، راحت تقول له كل شيء عن كل ما سمعته من والدتها. كانت تلاحظ تقلصات وجهه مع كل كلمة يصغي أليها. بصوت هامس قال ” ..لا يهم. كل شيء سيكون على ما يرام. سأنذر نفسي لكم جميعاً. سنعيد بناء كل شيء من جديد. هذه هي الحياة. ما هي ألا مزيج من الأتراح والأفراح. تزول أمم وتأتي أمم أخرى- وتلك الأيام نداولها بين الناس- المهم أن نبقى على قيد الحياة بعدها نستطيع بناء كل شيء من جديد. لقد قال أحدهم ” ..في نهايتي تبدأ بدايتي ”
يتبع…