18 ديسمبر، 2024 10:20 م

العذراء الجامحة – 2 –

العذراء الجامحة – 2 –

الحلقة رقم – 2 –
حينما اختفت – وفاق- عن الأنظار وتلاشت مع ذرات التراب المتصاعدة خلف الطريق الترابي البعيد، تقدمت سميرة نحو الرجل العاري الذي أعياه التعب والألم من شدة الضربات التي وجهتها له العذراء الجامحة الغاضبة عليه وعلى القدر الذي ألقاه في طريقها. بدأت تسحبه خلفها . كان الحصان يسير بطريقة بطيئة وكأنه كان يعلم سلفا أن الرجل قد أعياه التعب. كان الرجل يبذل جهدا جبارا مهرولا خلف الجواد في محاولة للحاق به كي لايسقط على الأرض القاسية ، أنفاسه تتلاحق ودقات قلبه بدت كطبل لأحدى الجماعات البرية خلف الغابات الممتدة على مر الزمن. حاول أن يقنعها أن تفك رباط يداه بيد أنها كانت تنظر إليه بين الحين والأخر بحقد وازدراء. هل يمكن أن تتحول الأنثى بين فترة وأخرى إلى وحش كاسر؟ أين الروح الأنثوية التي تتحلى بها هذه المخلوقة المعقدة؟ هذا ما كان يفكر به الرجل وهو يحث الخطى نحو مصيره المجهول . أفكار كثيرة كانت تجول في خاطره تحيله الى مخلوق عاجز جبان. لماذا لاينتفض الأن ويسقطها من فوق الجواد ؟ لماذا لايصارعها حتى الموت؟ هل فقد الإحساس بالرجولة؟ مرت في خاطره تلك الصور الدموية التي كان يعيشها ثمان سنوات في مكان ما وظرف ما. كم تصارع مع رجال خلف التلال وخلف السهول وعند حافات المياه . لقد جرح رجال كثيرون وقتل شباب في عمرها عند نهر جاسم وسربيل زهاب. ولكن لماذا لايستطيع الآن التخلص من لحظات الأسر هذه؟ هذه مفارقة غامضة ألقاها الزمن في طريقه دون سابق تخطيط . لقد هرب ثلاث مرات من الأسر عند جبال موت والفاو وحفر الباطن وأستطاع الوصول إلى بقايا وحدته العسكرية عند الخطوط الخلفية لإعادة التنظيم والهجوم مرة أخرى. أما الآن فهو أسير هذه العذراء التي تدعي نفسها بالجامحة أو البرية أو المتوحشة. ولكن هل صحيح أنها متوحشة؟ أنها مجرد فتاة جميلة تمسك زمام الأمور في يدها في هذه اللحظات العصيبة. ظل يركض خلفها غير عابئاً للأشواك التي كانت تنفذ إلى قدميه العاريتين فتنزف دماءاً تنبض من قلبهِ الجريح. بدأت الدموع تسيل من مقلتيه. شعر بالعار داخل ذاته. لم يذرف دمعة واحدة في حياته. ماتت والدته وهو في خطوط النار ومات شقيقه الصغير وهو في الواجب المقدس ولم يذرف دمعة واحدة.. ولكنه الآن يذرف دموعا غزيرة لماذا هذا التناقض العجيب في شخصيته؟ حاول إن يمسح تلك الدموع ولكنه تذكر أن يداه مقيدتان إلى ظهره. ماذا سيفعل ؟ هل سترى هذه الفتاة دموعه؟ كان يشعر بالخوف والحرج صوب هذه الحالة التي يمر بها الآن وهو يهرول ذليلا مخذولا بلا مقاومة. ترك المجال لمشاعره الجياشة وسمح لدموعه بالهطول مدرارا. شعر انه مريض جدا في تلك اللحظة، مريضا من الداخل وليس مريضا جسديا فليبكِ بصمت طالما هناك مجال للبكاء. لقد مزقته هذه العذراء المتوحشة، أهانت رجولته وكبرياءه الشامخ، إذن لم يعد هناك مجال للتفكير بالرجولة، لقد ضاعت روحه عندما ماتت زوجته وابنته الوحيدة في يوم ليس به رحمة من قبل رجال ليس في قلوبهم أدنى مفهوم للإنسانية. كانوا رجالا يتلبسهم الشيطان. خطفوا روحين –لا بل ثلاثة في لحظة عابرة إذن لماذا لأيبكي الآن بصمت ويريح قلبه من هذا الجحيم الملتهب. نظرت سميرة إلى الوراء كي تتأكد من أن القاتل لازال يهرول خلفها كي تطمئن أنه لازال يواجه العذاب الأزلي. شاهدت دموعه تنهمر على خديه بلا توقف . شعرت إن هناك شيء ما .توقفت. دققت النظر. لازالت الدموع الرجولية تنهمر بلا توقف أحست أن شيئاً قويا يمسك قلبها ويستعطفها لإطلاق سراح هذا المخلوق البشري المسكين. تمالكت نفسها وتذكرت فقدان شقيقها ودون رحمة أعطت الإشارة للجواد بمواصلة السير بسرعة أكثر سقط الرجل على الأرض عدة مرات. تفجرت الرجولة في داخله من جديد عاد إلى ذكريات الماضي البعيد. تذكر أحد جنود الأعداء وكيف كان يحاول قطع عنقه وكيف قفز عليه كالنمر في غفلة من الزمن وأدخل سكينته في فمه فسقط كالقطة الصغيرة المذبوحة على قارعة الطريق في المطر الغزير. تدفقت إلى روحه قوة عجيبة بدأ يركض كشاب في التاسعة عشر من عمره. نظرت إلى الوراء ثم بدأت تحدث نفسها ” .. لماذا لايحاول أن يقول إي شيء ؟ لماذا لايحاول الدفاع عن نفسه؟ هل هو اخرس تماما ؟ ما هذه القوة التي جاءته فجأة؟. بالتأكيد انه القاتل الحقيقي. حسنا سنرى ماذا ستكون ردة فعله عندما نعلقه في تلك الشجرة؟ ” . عند وصولها الشجرة الوافرة الظلال، ترجلت من الحصان وسحبت الرجل بعنف إلى مصيره المجهول. نظر اليها بهدوء قائلاً “..هل تسمحين لي بالجلوس عند جذع الشجرة لحين قدوم ساعة الموت.أشعر أن قلبي سوف يتوقف عن الحركة ” . نظرت إليه بغضب قائلة ” ..ألم تفكر بألالام العظيمة التي سببتها لنا؟ ألم تفكر بذلك الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره؟ كيف سولت لَك نفسك بقتله؟ كم أنت قاسٍ ولا تخاف الله، يالك من أحمق. سأريك العذاب الحقيقي عندما تصل والدتي. ستكون لها الكلمة الأخيرة. أما الرمي بالرصاص أو الشنق عند هذه الشجرة. ” نظر إليها بعينين مرهقتين وشفتين شاحبتين وبصوت هادئ قال ” ..هل أنت متأكدة من أنني القاتل الحقيقي؟ لماذا تحكمين علىّ قبل إن تسمعي أقوالي؟ هل هذه هي العدالة التي تعلمتيها من هذه الأرض الوعرة؟ ألا تخافي أن تقتلي أنسانا بريئا ؟ ماذا ستقولين لضميرك حينما تتأكدين من إن المتهم ما هو ألا مخلوقاً بشريا بريئا ؟ ” . أخذت السوط وراحت تضربه بعنف على وجهه وظهره دون أن يرف لها جفن. كانت لاتفكر بأي شيء سوى الانتقام. الغريب في الأمر انه لم يصرخ من الألم ولم يطلب منها الرحمة. الشيء الوحيد الذي كان يفعله هو إغلاق عيناه مع وقع كل سوط على جسده. فجأة ألقت السوط بعيدا. جلست على الأرض تنظر إليه بطريقة وحشية, كانت أنفاسها تتصاعد وتهبط بطريقة سريعة جدا. بدأ ينظر إليها وقد سيطر عليه انتصار خفي. ابتسم ابتسامة ساخرة وهو يقول بثقة ” هل تشعرين بألأرتياح ألآن ؟ هل أفرغت غضبك؟ لماذا لا تطلقين علي النار وترتاحين وتريحينني من هذا العذاب؟ أريد الموت حالا . أرجوك أطلقي علي ّ الرصاص لقد كرهت هذه الحياة، لم تعد لدي أي رغبة للبقاء على قيد هذه الحياة الفانية ” . ومن بين أنينه ونحيبه وبكاءه راح ينظر إلى السماء ويتكلم بطريقة حزينة مناجيا ربه ” لماذا أبقيتني على قيد الحياة؟ ماتت زوجتي وابنتي الوحيدة لماذا لم تخترق تلك الرصاصات قلبي وأموت مثلهما؟ كم أنا تعيس لماذا أنا هكذا؟ ” . نظر أليها وعيناه تسبحان في بركة من الدموع الساخنة ” ..أرجوك أطلقي علىّ الرصاص فقد يأست هذه الحياة . لم أستطع حتى إنقاذ”أمجد” آه..يا أمجد… ذلك الفتى العظيم الذي ضحى بحياته من اجل زوجتي وابنتي الوحيدة. كم أنا جبان.لم استطع إنقاذه.كان في ذراعيّ هاتيتن يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان يبتسم لي ويقول – لا تحزن يا عمو سأكون معك في العالم الأخر يوما ما – “. وراح ييبكي كطفل رضيع. حينما سمعته يتحدث عن أمجد بدأ جسدها يرتعش كسعفة نخيل صغيرة في ريح عاتية. لم تعد تقوى على التفوه بحرف واحد. كانت تنظر إليه برعب وخوف وحيرة.ماذا..ماذا.. انه يتحدث عن أمجد وكأنه على معرفة به منذ زمن طويل! هل هي حقا تسمع مايقول؟ هل هي في غيبوبة مطلقة؟ هل أصابه الجنون من شدة الإرهاق والخوف والألأم الجسدية التي كان يعاني منها بسبب السياط اللاذعة التي كانت تحرق جسده؟. لا…لا…لا…من المؤكد أن هذا الرجل بدأ يهذي ولم يعد يعي ما يقول! حينما شرع الرجل يبكي مرة أخرى ، أحست بالإشفاق عليه، لم تعرف الشفقة والعطف والرحمة منذ وفاة والدها وفقدان شقيقها. بدأت تقترب منه رويدا رويدا. كانت تزحف نحوه كأنها أفعى سامة تروم الهجوم على مخلوق حشري ّبريّ. كانت تزحف نحوه ببطئ كأنه مخلوق عملاق تخاف أن ينقّض عليها فجأة. كانت تحاول ان تستوعب ما كان يجول في خاطره.ظل الرجل المسكين يتحدث بأشياء كثيرة لم تفهم منها شيء. لم تفهم سوى كلمة “أمجد” التي كان يرددها مرات عديدة.هدأت أنفاسه المتلاحقة شيئاً فشيئاً. حدّق في عينيّها الشديدتا السواد, راح ينظر إليها بتحدي حيناً وبانهزام حيناً أخر. دون سابق إنذار راح يتحدث بلا انقطاع وكأنه كان يناجي ذاته مهملا وجودها تماما. كانت تريد إن تلتهم كل كلمة من كلماته، من يدري قد تجد ثغرة في مرافعته الروحية فتتخذها دليلاً ضده وتنفذ به حكم والدتها التي ستصدره بعد قليل عند مجيئها مع “وفاق” .كانت تريد إعدامه هنا على هذه الأرض التي مات فيها واختفى منها شقيقها. انطلق لسانه بلا توقف ” .. منذ سنتين وأمجد يتردد على دكاني البسيط يشتري مني أشياء كثيرة على الرغم من بساطة الأشياء التي أبيعها. بعد عام طلب مني السماح له كي يعمل معي ، لأنه في حاجة ماسة إلى العمل كي يعيل والدته وشقيقتاه. كان يتظاهر الفقر . لم اعلم انه كان يريد العمل معي كي يكون قريباً من ابنتي التي تساعدني في ترتيب المواد كلما جلبتُ بضاعة جديدة. كان يعشقها بصمت وقدسية. لم يصرح لي بحبه لها إلا قبل لحظات من موته. كان شابا يافعا عفيفا شريفا يعمل المستحيل لإرضائي. كان بمثابة أبنا لي. كنت أرى فيه ولدي الذي مات غرقاً يوماً ما. كان في عمره تماما. أحببته لدرجة الجنون. كنت أصاب بالجنون أذا تخلف يوماً ما عن الحضور للدكان. لقد شعرت بالحب الذي يكنه لابنتي. قررت مع نفسي أن أزوجها له يوما ما وأدفع كافة المصاريف حتى لو اضطررت لبيع البيت. اختبرت ابنتي مرات عديدة، هل تحبه أم لا. كنت أقول لها أحياناً عند العشاء ” ..لن يأتي أمجد لمدة ثلاثة أيام. كانت تقاسيم وجها تكفهر وتشعر بالحزن وتتظاهر بالمرض ثم تترك الطعام وتذهب إلى غرفتها وتبكي كثيرا. أحياناً كنت أقول لها. أنا متعب سأنام قليلا عند الظهر. خذي طعامك الى الدكان وتناولي غداءك معه ” . كانت تطير من الفرح.. تذهب إلى غرفتها وتلبس أحلى ملابسها كأنها ذاهبة إلى عرس أبدي. كانت والدتها تمازحني قائلة ” ستفسد الفتاة.. خاف الله يا رجل ” . كنت اشعر بالفرح والسعادة لذلك التناسق الروحي بين هاتين الروحين الشابتين. كانت تذكرني بصديقتي في الجامعة. كانت تذكرني بشبابي المفقود في صراع الزمن الصعب . بدأت سميرة ترتعش لهذا الحدث غير المتوقع وهذه الحكاية التي كان يسردها بلا توقف. شعرت بأنها على وشك الانهيار بَيْد أنها كانت تحاول جاهدة أن تسيطر على نفسها كي لا تفقد عقلها. استمر يذكر حكايته وهو ينظر إلى الطريق البعيد الذي جاء منه ” ..قبل أسبوع أو أكثر جاء عدة أشخاص إلى بيتي- وكان أمجد يتناول طعام الغذاء معنا, طلبوا مني تسليم أمجد لهم لأنه ينتمي إلى فئة غير الفئة التي انتمي إليها. في البداية كنت أعتقد أنهم يمزحون معي ولكن تبين أنهم جادون في طلبهم. حينما عرفت أبنتي وزوجتي وأمجد بالهدف المطلوب تبادلوا جميعا نظرات رعب وخوف حقيقي. اندفعت أبنتي تقول بأنها لن تسلمهم أمجد ألا على جثتها. تحولت إلى مخلوق بشري آخر. اندفعت نحو غرفتي وجلبت البندقية وهي تصرخ بي قائلة .. ألم تكن يوماً ما مقاتلا في جبهات عديدة ؟ دافع عن ضيفك حتى الموت.. إذا لم تستطع انت الدفاع عنا سوف يدافع هو عنا جميعا.. هو شاب قادم من أعماق الريف ويستطيع استعمال السلاح. اندفع أمجد قائلا:هناك طريقتين لحل هذه الأزمة..أما أن اذهب معهم وليكتب الله شيئاً كان مفعولا أو أهرب ألان نحو أرضنا البعيدة، وهناك حل أخر وهو أن نقاتل جميعاً حتى الموت. صرخت أبنتي،” نقاتل حتى الموت” … قفز أمجد نحو دراجته السوداء التي كانت في فناء الدار وجلب مسدسه الشخصي. كنا نربض أنا وهو عند الشجرة الوحيدة في حديقة الدار ننتظر قدوم العدو المجهول. كانت أبنتي تجلس قربي ترتعد من الخوف تقلّب نظراتها بين أمجد وبيني لم ينطق احد بحرف. كانت العيون هي التي تتحدث فقط. بعد فترة قليلة من الزمن بدأت الطلقات تنهال على البيت من كل حدب وصوب. تطاير زجاج النوافذ وراحت زوجتي تصرخ بأعلى صوتها طالبة من المهاجمين الرحمة. صرخ أمجد نحو ابنتي كي تذهب إلى داخل الغرفة مع والدتها… ألا أنها كانت تصرخ «لن أذهب.. لن أذهب سنموت معاً أنا وأنت» وراحت تذرف دموعاٍ غزيرة. اندهشت كثيراً عندما تحول أمجد إلى شخص أخر. سحبها من يدها اليمنى بقوة نحو الغرفة صارخاً- سأضربك بيدي هذه إذا عدتي إلى الحديقة.. الغريب أنها سكتت فجأة ودخلت الغرفة. مسك أمجد يدي بقوة وهو يقول بيأس:«لا تخف يا عمي سأموت من أجلك ، إذا قتلوني خذ دراجتي وكافة ملابسي وسلمها إلى سميرة وقل لها كم هي عزيزة على قلبي. إدفني هنا تحت هذه الشجرة كي أغذي عروقها بدمائي. إذا نجونا سأطلب يد ابنتك سلاّمة. كم أحبها، هي أجمل واشرف فتاة وقع عليها نظري.» وقبل أن ينهي كلامه راحت الطلقات تزداد هنا وهناك, بدأنا نطلق طلقات أسلحتنا دون توقف. قفز أمجد قرب الباب الخارجي وقتل اثنين منهم ولكنه فجأة سقط صريعاً يتخبط بدمائه. اندفعت سلاّمة من الغرفة كالمجنونة خطفت المسدس من يده وراحت تطلق النار بجنون ولكنها سقطت هي الأخرى فوق جسد أمجد بلا حراك.اندفعت زوجتي نحوها تصرخ وإذا بها هي الأخرى تسقط قبل أن تصل أليهما. نفذ عتاد بندقيتي. بقيت بلا حراك أنظر أليهم .. إلى جثثهم كنت متأكد جداً من أنني سوف أسقط فوقهم أذا تقدمت خطوة واحدة. هذا ما تعلمته في الحروب الكثيرة التي خاضتها دولتنا الورقية على مر العصور. قفز ثلاثة رجال من الباب الخارجي.كانوا ملثمين. حينما تأكدوا من موت الأبرياء على أرضهم الطيبة ومملكتهم الصغيرة.توجهوا نحوي .كانت بندقيتي على الأرض خاوية من الطلقات.كانت مجرد قطعة حديد قديمة.وضع أحدهم البندقية في صدري وهو يقول “..كم أنت محظوظ..لو لم تنقذ حياتي يوما ما في خور الزبير لكنت قد هشمت صدرك بطلقة واحدة ” . هربوا من البيت وبقيت أنا مصدوماً فاقد الإحساس كالمجنون.لم أذرف دمعة واحدة. بدأت أحفر قبر أمجد عند جذع الشجرة الوحيدة في حديقة الدار.وقبراً أخر لسلاّمة وأمها. لقد شاهدت ألاف الجثث في جبهات عديدة ولكنني لم أر ثلاثة جثث تعود لعائلة وفي لحظة واحدة.وضعتهم في قبورهم جميعاً.أخذت ملابس أمجد ووضعتها في حقيبته الصغيرة.بقيت خمسة أيام قرب قبورهم بلا أكل سوى قطرات قليلة من الماء . حاولت البكاء…بالحقيقة كنت أتمنى أن اذرف دمعة واحدة ولكنني لم استطع. قلت من يدري قد ابكي بعد أيام أو شهور أو سنين. كنت أنتقل من غرفة إلى غرفة كالمجنون الصامت أشم ملابس أبنتي وزوجتي وأمجد.أخيراً قررت إحراق البيت وترك قبورهم هناك عند الشجرة والبحث عن سميرة وشقيقتها وأمها. كنت أمتطي دراجة أمجد خارج البيت واقفا أنظر النظرة الأخيرة الى بيتي الذي تلتهمه النيران. كات النيران تخرج من جميع النوافذ والدخان يتصاعد إلى الفضاء.كان قسماً من الجيران ينظرون الىّ وإنا أزيد من صوت محرك الدراجة الواقفة. سمعتهم يقولون«المسكين فقد عقله».أطلقت محرك الدراجة بأقصى سرعة تاركا خلفي قلوبي وأكبادي وأحبتي يرقدون بسلام تحت الشجرة الوحيدة. الدراجة تلتهم الطريق التهاماً سائرة نحو المجهول..” راح يبكي حيناً ويضحك حيناً أخر.وفجأة صمت وراح يضرب رأسه بجذع الشجرة المربوط بها وبدأت الدماء تتدفق من رأسه فسقط مغشياً عليه وراح في غيبوبة.

كانت سميرة تنظر أليه برعب لا مثيل له. جسدها يرتعش حيناً ويتشنج حيناً أخر.كانت كسعفة صغيرة تقذف بها الأمواج الهادرة في محيط هائج ليس له قرار. كانت هناك قوة خفية تعصر قلبها عصراً فتحيله إلى ذرات متناثرة في الفضاء الفسيح. لم تعد ترى أي شيء سوى سراب بعيد يتراى لها عبر المسافات البعيدة. لم تعد ترى الرجل المقيد إلى الشجرة، لم تشاهد دماءه المتفجرة من رأسه. لم تعد تمّيز أي جزء من أجزاء جسده. كان عبارة عن شبح مقيد إلى العالم اللامتناهي. صورة وهمية حطت في عالمٍ من الخيال والقسوة البشرية. من هذا الذي يتألم أمامها ألان؟. هل هو وحش جاء من المجهول أم هو مخلوق خرافي تخصص في تعذيب الإنسان. كانت ترى صورة أمجد تتمزق بعيداً وتتطاير أشلائها في تلك الأرض البعيدة.كانت ترى أصابع أمجد الرقيقة رقة قلبه الطري ترتفع اليها تستنجدها لتزيل عنها التراب. تستعطفها أن تعيد جثته إلى الأرض التي طالما ركض ولعب وقفز فوقها..وتلك الشجيرات الصغيرة التي كان يرويها من هذا الجدول الصغير مع شقيقته – وفاق- وضحكاته الطفولية البريئة التي كان يطلقها هنا وهناك وهو يركض خلف شقيقته كل صباح وكل مساء. بدأت سميرة تزحف نحوه،نحو هذا المخلوق المعذب هنا وهناك..نحو هذا الهيكل البشري المقيد إلى مصيره المجهول. لم تعد تقوى على النهوض ،حاولت عدة مرات أن تقف على قدميها ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً.لقد أصابها شلل قد يكون مؤقت وقد يكون أبدي.أرادت أن تقفز اليه كي تمزقه بأنيابها التي ظهرت فجأة كأنها أنثى متوحشة في أحدى الغابات المكتظة بالوحوش البرية. بدأت تزحف وتزحف نحوه كي تزيل هذا الألم المتراكم في صدرها على مر العصور.اقتربت من قدميه ورفعت جسدها بقوة كي تستند اليه. استعاد وعيه كما استعادت هي الأخرى قوتها للنهوض مرة أخرى. فجأة أحست بقوة جبارة تخترق جسدها الأنثوي.نظرت إلى عينيه..لم ترى سوى سهول ووديان وعرة وجثة أمجد ملقاة هناك تنهش بها الغربان والوحوش البرية .

يتبع……