22 ديسمبر، 2024 6:51 م

العدو المفيد .. طروادة العصر نموذجا

العدو المفيد .. طروادة العصر نموذجا

نستطيع القول إن أبدع نظرية استطاع العقل الاستخباراتي الغربي إنتاجها وأحسن تطبيقها في القرنين الأخيرين هي نظرية ” العدو المفيد ” أي دمر عدوك بيد عدوك وبسلاحه وماله وأجج هذا الصراع بتأسيس المراجع والمذاهب الفكرية التي تمده وتشرعنه تعددت أشكال وأوجه تطبيقات هذه النظرية وإذ أننا لسنا ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة المطلقة ولا ممن ينكرونها كليا فلابد من الاعتراف بأن تطبيق هذه النظرية كان بأيدي البعض منا وكنا جزءا منها لأسباب متعددة ويمكن لنا بشكل مختصر الحديث عن هذا المشروع واستعراضه وتقييمه سريعا بعدة فقرات:

– الرحم الصحرواي
شكلت صحراء نجد المكان الأنسب للبدء بالتأسيس لمذهب هدام ظاهره الإسلام وباطنه كل ما هو ضده فعليا يتبعه قيام جماعات دينية الظاهر دنيوية المقصد والغاية إذ ارتبط منذ نشأته بمشروع سياسي فعمل على إضفاء الشرعية على تحركات السعوديين الأوائل لإعطاء المبرر لتمردهم على الخلافة العثمانية وتوسيع رقعة حكمهم بحجة محاربة البدع والضلالات كما شكلت العشائر البدوية القاطنة هناك والبعيدة كل البعد عن حواضر الحضارة الإسلامية الأرضية الصالحة لانتشار هذه الحركة وذلك لانتشار الجهل وشح العلم والعلماء.

– دين جديد
شكل هذا المنهج الفكري الجديد خطرا على الدين من قبل أن تشكل خطرا على أتباعه وتحول إلى اديولوجيا متطرفة لا تقبل الآخر وترفض كل جديد أو مغاير وإننا إذ نصفه بالدين الجديد فلأننا لم نر شبيها له في تاريخنا وحضارتنا ولا سبيل لإسقاط منهجه على القرآن الكريم إذ لا مكان له ولا مصدر في أول مصدر معتمد للعقيدة والشريعة الإسلامية وقد قام منهج هذا الفكر على اعتماد الظاهر والأقوال لا الجوهر والأفعال وقدس النقل (هذا إن صح ) وأبطل دور العقل وأصبح الدين عبارة عن طقوس وشعائر وعبادات فقط وأهمل جانب القيم والأخلاق والمقاصد فيه وهي جوهره فالتكفير بدل التبشير ورمي الناس بالضلالة بدلا من تمني الهداية والخطاب الجامد النصي الجاف من كل معنى ومقصد واجتهاد وتفسير حقيقي كانت السمات الأبرز لمنهج مذهبهم وطريقته.

– الراعي الأنغلوسكسوني
تعتبر بريطانيا أستاذة في هذا المجال فالذي أسس لظهور البهائية في مصر وإيران والقاديانية في الهند لا عجب في أن يساعد على نشر الوهابية أو على الأقل الترويج لها والرضى عن اتساع رقعتها الجغرافية والبشرية وليس عدد العلماء والباحثين الذين تكلموا عن هذا بقليل ولا تخفى العلاقات السعودية – البريطانية على أحد من المؤرخين وقد قاتل بعض الضباط البريطانيين (المسلمين مؤقتا) ؟!؟! في جيش الملك المؤسس وعملوا كخبراء عسكريين ومستشارين سياسيين عنده فلا مبالغة إن قلنا أن هذا التيار ومنظريه وعرابيه نشؤوا وترعرعوا على عين بريطانيا وتحت ظل تاجها وخصوصا أن بعضا من هؤلاء (التكفيريين الإرهابيين) يقيم في لندن ويغرد من هونسلو ونيوهام ؟!؟!؟

– المنتج المدمر
ما لبثت أن نشأت جماعات مسلحة تتبنى هذا المنهج وتعمل في إطاره وكان أبرزها تنظيم القاعدة المشبوه بكل تفاصليه ومشتقاته التي ظهرت في ما بعد كداعش والنصرة وغيرها
لعبت هذه التنظيمات دورا مدمرا وهداما في البلدان التي حلت بها فقد عملت على القضاء على كل مقاومة للمستعمر وحاربت كل ثورة ضد الطغيان والاستبداد وزعزعت الاستقرار والأمن في العالم الإسلامي ككل وأصبحت مثالا واقعيا وتطبيقا عمليا لمحتوى كتاب أحد منظريهم المعروف ب (إدارة التوحش) وإذا تتبعنا دورها الوظيفي والمرحلي نلحظ ثلاثة رئيسية:

1- وسوى الروم خلف ظهرك روم..
تمزيق الصف الداخلي وضرب الوحدة الشعبية هي أولى مهام القاعدة ومشتقاتها فتحت ستار ديني واستغلالا لعواطف الناس وجهل العوام تشن هذه التنظيمات حملات التكفير والتخوين والرمي بالردة والعمالة ضد رواد النهضة والمقاومة والثورة الحقيقيين في أي قطر من العالم الإسلامي وذلك لإضعاف الحامل الإجتماعي الثوري والمقاوم ثم كسب حاضنة شعبية لهم تؤهلهم للقيام بعمل عسكري ضد الفصائل والكتائب الأخرى مقدمة بذلك أكبر خدمة للعدو فتلعب دور الطابور الخامس في ضرب الخطوط الخلفية واستهداف قادة ورموز المقاومة الحقيقية السياسيين منهم والعسكريين وحتى العلماء الذين لا يسيرون في ركابهم ووفق هواهم حتى يصبح القوم لا سراة لهم ولا سراة لهم إذا جهالهم سادوا.

2- طروادة العصر:
لم يكن هتلر عندما أمر كتيبة مدفعية ألمانية بقصف ألمانيا من داخل الحدود البولندية أول من فعل مثل ذلك فالحاجة للمبرر المشرع للحملات والهجمات العسكرية هي حاجة ضرورية ودائمة وكذلك كانت هجمات 11 سبتمبر التي أريد لها أن تكون حدثا إعلاميا وعالميا كبيرا والتي ما تزال حقيقتها محل نقاش إلى يومنا هذا نصبت أمريكا نفسها منذ ذلك الحين القوة الرادعة والملاحقة للإرهاب وتنظيم القاعدة في العالم وغزت بذلك أفغانستان وبعدها العراق ودمرتهما وأغارت على بلدان أخرى وتذرعت بهذا للتدخل في شؤون الدول الأخرى وفرض العقوبات عليها …. ولم يقتصر الأمر على أمريكا ليتحول إلى سلعة رائجة تتاجر بها الأنظمة الديكتاتورية والعسكرية وخصوصا العربية منها تغطي به الفساد وتتهم به معارضيها والمصلحين في البلاد وتقمع بحجته كل ثورات الحرية والكرامة كما حصل مع الربيع العربي وتبني الثورة المضادة لهذا المشروع بالغطاء نفسه.

3- السلاح العابر للقارات:
ووصولا إلى أخطر آثار المشروع الأسود المتأسلم وهو تشويه الإسلام وصورته والإساءة إلى قيمه والمتاجرة بعقيدته ومبادئه ويستغل الأمر من قبل المعسكر المعادي الذي يجد فيه المادة الإعلامية المطلوبة والرخيصة فيروج لها ويعممها على كل وسائل الإعلام الغربي والعالمي فقد أصبح كل مسلم على امتداد الخريطة العالمية وفي كل المعابر والمطارات متهما ومشتبها به وهو ما يصب في سياق عملية مواجهة الانتشار والتمدد الإسلامي فإن المطلوب بالنسبة للمروجين للتغريب والعلمنة المتطرفة هو تصوير الإسلام على أنه دين عنف وإكراه وتكفير وأن سقفه هو إطالة اللحى والثوب وقطع الأيدي والأعناق والرجم وهو المنافي لحقيقة هذا الدين تماما الذي ينطلق من الرحمة وينتهي إليها وعندها.

– السائد الخاطئ والضحية المتهمة
من الشروط اللازمة لتطبيق نظرية العدو المفيد هو إقناع الحاضنة الشعبية والمجتمع أن المتأسلمين والظلاميين عدو عدوهم فكما أنه لا بأس من تبادل بعض الاتهامات وتطبيق بعض العقوبات الوهمية بين أمريكا وإيران في اللعبة المعتادة منذ 3 عقود طالما أن الضحية والقتيل واللاجئ دائما هو العربي السني حصرا فلا بأس أيضا من الترتيب لمسرحيات تسمى بالمعارك هنا وهناك غير ذات آثر لإعادة تعويم تنظيمات القاعدة المختلفة وهي أشبه بعملية (مكيجة) مؤقتة أمام الشعب و الأمة المخدوعة ثم تشن غارات قد تضعف لكنها لا تقتل الإرهابيين … وإن الاعتقاد السائد والقناعة العامة أن أمريكا والأنظمة العربية الموالية لها تحارب التطرف والتشدد وتدعم ما يسمى بالتيار المعتدل الوسطي غير أن الحقيقة عكس ذلك تماما ومن أعجب العجب أن ترى منظري القاعدة وعرابيها وأنصار الشريعة والخلافة أحرارا يغردون ويفسبكون من دول تدعي الحرب على الإرهاب بينما تشن الحملات ضد الحركات الإسلامية الغير متطرفة ويكون نصيبهم منها السجون والمشانق .
إن المشروع الأسود الظلامي محمي ومدعوم ماليا واعلاميا على عكس ما يعتقد الكثير فالإعلام العالمي يروج للقاعدة ويضخم من أمرها لتبدو وكأنها تتصدر المشهد في ميادين الدول المستهدفة وقد اتضح ذلك بجلاء أثناء الثورة السورية الكاشفة والفاضحة بنسب بعض المعارك التي قامت بها فصائل الجيش الحر المختلفة لفصائل القاعدة جهارا نهارا مما ساهم في عملية إعادة تأهيل النظام الأسدي المجرم.

– خلصنا
عند سؤاله لأحد الدواعش عن سبب استسلامهم وتسليمهم أنفسهم لميليشيا حزب الله أجاب بالعامية البسيطة وبسخرية : خلصنا … هكذا لخص هذا الرجل كل شيء لقد أنجزت الثورة المضادة وأعيد تأهيل نظام الأسد وسلمت المناطق المحررة للنظام وللفصائل الانفصالية وتدخل التحالف الدولي وقصف الحسكة ودير الزور والرقة ودمرها واغتيل ناشطو وقادة الثورة ورموزها على كافة الصعد … لقد انتهت الوظيفة والمهمة التي كلف بها … لقد انتهت العمليات الاستخباراتية وآن الآوان للانتقال إلى بلد اخر لتدميره.
لقد وقعت عدة بلدان إسلامية ضحية لهذا المشروع المتأسلم الظلامي وكانت أفغانستان والعراق أولها ونأمل أن تكون سوريا آخرها .. كانت محارق مرحلية لأجيال الشباب الناشئة والمتطلعة لمستقبل أفضل لأمتها وأوطانها.
نعم هذا الثمن الباهظ للجهل وللتحكيم والتقييم العاطفي للحوادث والرجال والفئات … على كل حال رغم كل ما خسرناه ورغم كل ما جرى المهم والأهم أن نكون قد تعلمنا الدرس والطامة الكبرى والويل كل الويل إن لم نكن قد تعلمنا بعد فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.