23 ديسمبر، 2024 7:10 م

الرباط بين الفضيلة والعدل وثيق للغاية , فالتمام والكمال هو الوصف الملائم للأخلاق المثالية , والتمام والكمال لا يتحققان إلا بالعدل , فالعدل قيمة عظمى ومبدأ ضروري لاستقامة الحياة , ووتد من أوتاد إقامة دولة الحق , وضرورة للسعادة ، ومحور أساسي في بناء المجتمعات , ودافع قوي لنهضتها وبنائها وتقدمها .
 
والانفعال البشري المنضبط بالقيم خلق أصلي وهو أرض صالحة لإنبات العدل , حتى صار العدل في مقدمة فضائل التعاملات بين الناس , وفي مقدمة التفاعل بين المسئول والأفراد وبين الحاكم والمحكوم .
 
ويمكننا أن نتصور وجود إنسان بأخلاقيات متباينة بين الحسن والقبح ,( فقد يكون صالحا يبحث عن العدل لنفسه في بعض الأحيان , لكنه لا يبحث عنه لغيره ) , لكننا لا نتصور وجود صالح رباني جائر , ولا وجود عالم ظالم , ذلك أن الصورة المثالية في أذهان الناس عن العدل والجور مرتبطة بصورة الفضائل الكاملة , فكلما اقترب الشخص من الفضيلة اقترب في أذهان الناس من وصف العدل وإذا عكس انعكس .
 
إنه إذن انبعاث إيجابي يتجاوز المصلحة الشخصية والجماعية , محتويا مصلحة الغير أيا كان وحيثما كان .
والعدل يتجاوز المساواة , خلافا لمفهوم أرسطو وغيره إذ يرون أن العدل هو المساواة , لكن الإسلام يرى العدل أعم وأشمل , فالمساواة بها بعض الجور في بعض الأحيان بحسب التكوين تارة وبحسب العلاقات تارة , وبحسب الناتج تارة , وبحسب المآلات تارة أخرى , لذا لم يساو الإسلام في الميراث بين الذكر والأنثى بل عدل بينهما بحسب حاجتهما , ولم يأخذ الوالد بولده , ولم يطلب من المرأة القوامة على الزوجية .. وغيرها كثير ..
 
والإسلام أكد على العدل كمفهوم تطبيقي , وعمل على إرساء قواعده بين الناس حتى ارتبطت بها جميع مناحي تشريعاته ونظمه
وبرغم أن العقل قد يبدي تعارضا بين العدل والعاطفة , فقد جمع الإسلام جمعا معجزا بينهما , فأعطى نموذجا تطبيقيا للجمع بين العدل والعواطف , فالعاطفة سارية عبر الحياة , وهي ممدوحة مادامت لم تجًًُُُر على حقوق الآخرين , لكنها يوم تجور فإنها تجد خطوط العدل الحمراء مكبلة لها , مانعة إياها عن السريان
 
والعدل في الإسلام ينطلق من الداخل إلى الخارج , بعكس منظومة العدل في الحضارات البائدة , فالمجتمع عندهم هو قاضي العدل ومعلمه وباعثه ومنبته , لكن الإسلام ينبت العدل من الداخل النظيف الطاهر إلى الخارج , فالمسلم يحقق العدل خارج ذاته لأنه يحمله داخل ذاته عبر قوانين الإيمان والتقوى , لا عبر قوانين الضبط والمصلحة فحسب .
 
وفكرة العدل في الإسلام تعمل عمل القاضي الشريف , وعمل الشرطي الأمين , فلا تسمح بتسرب الظلم ولا بتعدي الضوابط لئلا تجتمع المظالم كما تجتمع الحصوات فتصير كومة أو سدا من اللاشرعية .
يقول تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات , إلى أهلها إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به ، إن الله كان سميعاً بصيرا ) , ويقول سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )
 
وثمة جدلية يعرضها القانونيون , إذ يرون أن الأصل في العدل إعمال القانون , والإسلام يعرض العدل مفهوما ممتزجا بين الإيمان والتطبيق , ويجعل المراقبة ذاتية تكاد لا تحتاج إلى قانون , فكثرة القوانين غالبا حجة لارتكاب المخالفات , وكلما قلت القوانين كثر الاهتمام بها , ولابد لكل قانون داعم نفسي ووازع قلبي .
 
وظاهر العدل في الإسلام إعطاء الحقوق , والقيام بالواجبات , لكن باطنه يقوم على إحياء الضمير , وتنمية المراقبة , ومنع الطمع والاعتداء , وبناء القناعة والرضا , ثم إذا به يجمع بين الظاهر والباطن جمعا متماهيا ومتوازنا إذ يدع درجة الإتقان في الواجبات بين العبد وبين ربه ويجعل مراقبا ومحاسبا للضمير ذاته من علم الله سبحانه وملائكته الكرام الكاتبين .
 
يقول سبحانه في القرآن ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ” ,
ونموذج العدل في الإسلام لا يهمل القانون الشرعي , بل يستوجب تطبيقه ولو بالقوة إذا احتاج الأمر , وبينما ترى الفلسفة الإنجليزية – أوستن نموذجا – أن الحاكم هو صوت العدل , أو ترى الفلسفة الألمانية – هيجل نموذجا – أن الدولة هي صوت العدل , فالإسلام يرى أن صوت العدل هو التشريع الرباني الذي لايأتيه الباطل , بينما الحاكم والقاضي مطبقان له ومشرفان عليه والدولة أداة من أدوات تحقيقه .
 
وبينما يرى أصحاب المذاهب المختلفة رؤى متغايرة لمضامين العدل , بحيث يكون متغايرة بحسب الظروف المحيطة بالمجتمعات , فإن الإسلام يضع ميثاقا للعدل به ميزتان معجزتان , أولهما الثبات في شتى الأماكن والأزمان , وثانيهما قابلية التطبيق على مختلف الظروف والمتغيرات , وهما ميزتان يصعب الجمع بينهما إلا أن يكون منهاجا ربانيا علويا .
 
وينظر الإسلام للعدل على اعتبارات متعددة
الأول : اعتبار العدل في السلوك الفردي التبادلي بين الناس , فالمرء ههنا مطالب بالعدل في تعاملاته , فلا يظلم ولا يغش ومن ” غش فليس منا “, و” ليعدل بين أولاده في العطية ” ,وليعدل بينهم حتى في الرحمة بهم وتقبيل الصغار منهم , وليعدل في معاملة الأجراء والعاملين عنده ..الخ .
 
 والثاني : العدل العام باعتبار الفرد جزءً من المجتمع فهو ههنا يهدف إلى مصلحة عامة عن طريق القيم العليا
والثالث : العدل الموزع من المجتمع للأفراد , فالدولة تقوم بتوزيع الحقوق والمنافع وهي ههنا تعدل بينهم فيما يستحقون وعلى اعتبار قدراتهم وإمكاناتهم
 
والعدل في الحضارات المختلفة لم يتم تطبيقه إلا بعد أن سالت دماء وقامت اضطرابات هائلة , أما في الإسلام فهو جزء أساس من المنهج التشريعي الثابت , تمت الدعوة إليه والأمر به من خلال الدعوة إلى ذات الحضارة الإسلامية.