18 ديسمبر، 2024 11:20 م

العدالة بين الدكتاتورية والديمقراطية

العدالة بين الدكتاتورية والديمقراطية

ربما في الحقبة الأولى لتأسيس الدولة العراقية لم تظهر الدكتاتورية بمعناها السائد اليوم من خلال الأنظمة الشمولية المنتشرة في عالمنا الشرقي، لأسباب كثيرة في مقدمتها محاولة الهواشم مع البريطانيين في استنساخ النموذج الملكي الانكليزي وتطبيقه في المجتمعات العراقية القبلية والمحافظة دون الاهتمام بالبعد الزمني والحضاري بين الكيان الجديد والمملكة العريقة، ورغم ذلك ولمكانة البيت الهاشمي وامتداداته من ناحية النسب بالنبي محمد، فان النموذج حقق بعض الاستقرار والهدوء، وربما إلى حدا ما القبول من المكونات العرقية والقومية غير العربية، لكن هذا النموذج لم يستمر طويلا، حيث نجحت ثلة من العسكر في انقلاب دموي أدى إلى إبادة العائلة المالكة ومحاولتها في تأسيس ديمقراطية برلمانية ودكتاتورية ملكية مشرعنة، بل ووأد تلك الوليدة الجميلة التي حملت اسم الديمقراطية، لكي تلد طفلا مدللا جديدا يحتل مكانها ويكون مركزا للعالم واهتماماته!

يقول علماء النفس في إحدى نظرياتهم حول علم نفس الطفل إنه يرى نفسه مركزا للعالم الذي يشعر بدورانه حوله، بل وفي خدمته وتحت تصرفه، وبوجود بيئة تساعد على نمو هذا الشعور وتعملقه ودلال أسرته يتحول هذا الكائن المدلل تدريجيا إلى دكتاتور لا شريك له في هذا العالم، ابتداءً من تحوله إلى رب أسرة ينتج سريرته ويكاثرها في أبنائه أو بناته، أو مدير دائرة يُشعر معيته بأنه فيلسوف عصره وأن استبداله سيوقف حياة وتطور تلك الدائرة، ولك أن تقيس أخي القارئ كلامنا هذا على مديرك العادي وصولا إلى من يتولى إدارة المنكوبين من العباد، فيصبح رئيسا عظيما وضرورة أو حتمية تاريخية، يتطلب من بقية الكائنات الدوران حول كوكبه الدري!.

وإزاء هذه البيئة هناك بيئة أخرى معاكسة لها في كل التفاصيل، وخاصة تلك التي تكمن في تربية هذا الطفل الدكتاتوري وتعديل مشاعره وتقليمها وفق أسس تقلب المعادلة من كوكب تدور حوله كل الكواكب، إلى نجم يدور هو حول كوكب اسمه المجتمع، ويشعر بأنه جزء من عالم وعليه خدمته لإثبات انتمائه له دونما شعور بالفردية الطاغية، ومن هنا تبدأ حكايتنا حيث يستمر هذا الطفل باعتبار كل العالم يعمل لأجل تنفيذ رغباته أو العكس، فإذا جمعنا طفلنا المدلل واعتبرناه في جمعه يمثل مجتمعاتنا الشرقية، ندرك ونكتشف حقيقة اللبنات الأولى في بناء الديمقراطية أو الدكتاتورية.

لقد ابتليت منطقتنا بأنماط من هذه السلوكيات والثقافات المتوارثة عبر أجيال وحقب زمنية ليست قصيرة، ابتداءً من الأسرة ودكتاتورية الأب أو ولي الأمر، وانتهاء بالقائد الضرورة، مرورا بكل من تسلط على عباد الله وإن كان عددهم اثنان فقط، لكي يمارس عليهما نرجسيته وتفرده، فإذا كانت البداوة مرحلة من مراحل تطور مجتمعاتنا وما زالت تتمركز في كثير من مفاصلنا التربوية والاجتماعية، مضافا إليها إكسسوارات قروية وقبلية كرست تفرد الشيخ والأغا، الذي تطور كمفهوم للتسلط والأحادية في من يتولى إدارة أي مؤسسة أو حركة أو حزب في حياتنا، فإنها اليوم تتجلى في الكثير من سلوكيات أولئك الذين يحملون شعارات الديمقراطية في زمن الربيع العربي الذي صبغ بلدان البداوة السياسية بألوان الدماء والدموع منذ سنوات على أنقاض أنظمة أوحت لنا جميعا، أن دكتاتورياتها أفضل بكثير من ديمقراطية البداوة الجديدة، تلك الدكتاتوريات التي أنتجت مشروع داعش مختصرة كل أفكار وتوجهات من أرادوا بناء دولة الوحدة العربية أو الإسلامية وصهر وإذابة كل ما هو خارج مفهومي الانتماء لغير العرب أو الإسلام في بوتقة هذا المشروع.

إن تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية وقبله القاعدة ومجمل الحركات العنصرية والدينية والمذهبية وخاصة داعش ليست طارئة أو وليدة الربيع البائس، بل هي نتاج ثقافة وسلوك متراكم من مئات السنين، وخبطة معقدة من الثقافة الدينية البدائية والسطحية والسلوك البدوي وعقلية القرية وبنائها الاجتماعي والتربوي، وهي بالتالي الحلقة الأخيرة في سلسة الأحزاب العنصرية القومية أو الدينية التي تطمح لبناء دولة إيديولوجية، أساسها العرق العنصري أو الدين المتطرف والمتشدد، وما يتبعه من مذاهب وطوائف، ببناء فكري متعصب أحادي التفكير، لا يقبل الآخر إلا عبدا مطيعا أو ملحا مذابا في بوتقته الفاهية، وعلى ضوء ذلك ولان دورة تربية مجتمع بأكمله من الطفولة حتى النضج تستدعي زمنا ليس قصيرا، بل حقبة طويلة لسبب بسيط هو أن المربي ذاته هو الذي أنتج هذه السلوكيات، ولان الكثير يعتقد بان مجتمعاتنا لا تتحمل هذا النمط من النظم الاجتماعية والسياسية، وهي متمتعة بوجود الفارس والرمز، بسبب تراكمات هائلة من العادات والتقاليد والتركيب النفسي والاجتماعي والتربية الدينية الأحادية الاتجاه، علينا البحث عن خيارات أخرى وتعديلات مهمة للعديد من النظريات والتجارب لكي تتناسب مع معطيات مجتمعاتنا وارثها الثقيل من الحكم الشمولي، فإذا كانت العدالة هي الأساس في كل التجارب والنظريات السياسية والاجتماعية في بناء الدولة، إذن لا يهم استخدام أي نظرية أو نموذج أو تطبيق أو تعديل لتحقيق ذات الهدف السامي ألا وهو العدالة بصرف النظر عن التسميات والعناوين، والمهم أن تتحقق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يرتقي بالمجتمع ومؤسساته إلى مستويات إنسانية متحضرة.

أليس غريبا في شرقنا الأوسط وربما في العديد من البلدان التي تشبهنا، أن تُفتقد أوجه كثيرة للعدالة بين تفاصيل وتطبيقات الديمقراطية، بينما تنتعش تحت ظلال أنظمة مستبدة لكنها عادلة!