تأملتُ العنوان قبل شراء نسخة ً من الرواية ، استعادني شيخي الأستاذ محمود عبدالوهاب – طيّب الله ذكره وثراه – فهو الأول عراقيا وعربيا في هذا المضمار: (ثريا النص / مدخل لدراسة العنوان القصصي) الذي أطلق شرارة ً معرفية ً وهاجة ً،في لهب العنونة من يومها إلى مابعد الآن ..فالأستاذ محمود عبد الوهاب هو الذي أكتشف تجاوز العنوان (وظيفته في تأطير النص ونسبته إلى مؤلفه / 85) توقفتُ عند العنوان :
(أحمر حانة) تذكرتْ ذاكرتي (حرب نامة) للروائية العراقية البصرية دُنى غالي .وقد أعادني عنوانها للرحالة ناصر خسرو(سفر نامة) .مع الروائي حميد الربيعي ماوصلت ُ إلى ضالتي ، فأنا وحدي مع عنوان(أحمر نامة) وتجريد العنوان بمعزل عن سياقاته ، لايفكك شفرته لي ..لكن حين قرأت الرواية ، وجدته من العنوانات الأشتقاقية بحسب تصنيف (ثريا النص ) أي يرد ذكره داخل الرواية .كما يرد ذكر اللون الأحمر في صفحات كثيرة منها: 109/124/167 /183
(*)
تستقبلنا مناصة الإهداء على عتبة النص (إلى …مدينة، إن لم تدخلها، كأنك لم تر الدنيا ).. والمحذوف في كلمات الإهداء مثبّت في ذاكرة الورق الذي لن يصفر وفي الذاكرة الثقافية ماقبل النت ..وفي (كأنك لم تر الدنيا ) يعيدني إلى قول الصحابي الزبير بن العوام (الدنيا بصرة ) أما المحذوف من إهداء المؤلف والمبثوث في روايته فهو بغداد دار السلام ..وللرواية أكثر من طواف : الطواف الأول في أزقة بغداد وشوارعها والثاني في ذاكرة التاريخ العراقي العريق في ثقافتنا العراقية والعربية ومع تثبيته لأسمائهم في الصفحة الأخيرة فالبطولة شبه المطلقة هي لابن الأثير ونلاحظ أن الروائي حميد الربيعي ينتج مزيجا سائغا بين لحظتي ّ : الماضي / الراهن العراقي .كما أن تقنية التدوير السردي واضحة المعالم في هذا النص الروائي البديع
(*)
المسطورالسردي في(مدخل 1) وهو المفصل الأول سيكون (مخرج3) هو المفصل الأخير من الرواية وهكذا تكتمل الدائرة السردية فالمسطور في المدخل الأول سيعاد سرده في المخرج الثالث مع بعض المتغيرات المشروطة روائيا والدائرة في إكتمالها تثقّب قلب العراقي الذين لم يلوثه أدعياء : الموج الكدر والقفل العسر والنار والعيار والرحى إذا استدار وفرعون وهامان ونمرود والمارد.. الطرارون، النطافون، المحتالون، السلابون، السفلة، الغوغاء، جحافل من السواطين المأبونين الفساق الزناة الفجار..الداعرون وشذاذ الآفاق ..الآفاكون الخراصون المفترون المنتحلون المقامرون الأوباش وآكلو السحت ..هؤلاء العبيد وعبيدهم يفترسون المدينة المدورة وغير المدورة وبعيدا عن المدينة يتموضعون في الصفحة الأخيرة من الرواية( كل قبطان سفينة، وكل مَن ركب البحر، وعندما يرون دخان احتراقها سيصيحون : أي المدن كانت مثل هذه المدينة العظيمة؟! كانت تلبس الكتان الناعم والأرجوان والملابس القرمزية، تحلت بالذهب وبالأحجار الكريمة واللآلىء../ 200) والفن العراقي الخالد يجالد دافعا عن المدينة و(الأرض في بقعة الباب الشرقي تهتز ولم يعد الثبات من صفاتها بعض المارة علقوا على ملاحظاتي بأن الوتدين حالا دون الانخساف، كان الأرض تغوص إلى العمق، لكن الوتدين منعا ذهابها بعيدا عن السطح /116) والحصان في منتصف نصب الحرية (يمدعنقه وكأنه يسحب الأرض إلى الأعلى مخافة غورها إلى العمق، بجواره ثمة جندي يكافح بكلتا يديه وهويدفع الأركان كيما تثبت في مكانها../116) ..(بنصب ساحة التحرير، مازال الحصان والجندي يجاهدان لإيقاف انزلاق الأرض ../ 176)..وهنا أتساءل كقارى مالذي منع المؤلف الروائي حميد الربيعي، في ص203 والمعنونة (تنويه) :أن لايشمل الفنان العظيم جواد سليم بالشكر أيضا ؟! أسوة بالخطيب البغدادي، ابن الأثير، يوحنا، موشيه، والجاحظ على توفير المصادر!!
(*)
السيادة في الراهن العراقي للزيف وهوظاهرة إجتماعية بسعة مرحلة ..(كل شيء فيها خاضع لهذه المعادلة :الأراضي، الشهادات، الوظائف، العسكر، القيم، وكل شيء../ 137) ..والخراب يلتقط صورة جماعية له وحده ..(يقال إن الرءوس المقطوعة والأذرع تتجول بحرية فيها، تخرج بعدما يحل الظلام من المتحف، تفتح الخزائن الزجاجية وتقفز إلى القاع، تنط السور وتبدأ الطواف في الطرقات المظلمة../ 57)..
(*)
أشهد أن رواية (أحمر حانة) للروائي حميد الربيعي أبلغ أثراً من المراثي الشعرية في التصدي للخراب بشجاعة مطلقة فهو يكتب عن مدينة لا تلجمها خارطة (لاتوجد خارطة سياحية فهي دائما ما تتغير،أنا رميت تسع عشرة خارطة عنها../29) ثم يستعين السارد بتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، يقتطف مقبوسا هندسيا فيدفعني المقبوس من كتاب الخطيب إلى القول ثمة تساوق بين المعمارين هندسة بغداد وهندسة الرواية ..حقا كأن هذه التقنية الروائية هي من أمالي المعمار الهندسي للمدينة المدورة نفسها وقد أحسن صنعا الروائي الربيعي في ذلك ..وحين نغادرتلك الصفحة من كتاب الخطيب البغدادي ستزكم أنفاسنا (الكثير من المزابل،التي يتصاعد منها الدخان..أكوام من الخردة، هياكل عربات قديمة،أبواب مخلوعة،أسقف منهارة وأسياخ حديد طويلة وملتوية ../30)..
(*)
لاعلاقة بين الراهن البغدادي الممسوخ وبين بغداد من خلال عينيّ الخطيب البغدادي ..القطع بين الحالتين حاد جدا مثل ساطور الجزار وبشهادة السارد المشارك في صوغ الحدث ..(هذه المدينة مرعبة، لم يزرها،، الخطيب البغدادي،، إطلاقا../32) ..إذا كان الخطيب يتجسد فقط بكتابه عن بغداد فأن المؤرخ ابن الأثير يتجسد بكينونة روائية كشخصية مستحضرة في الراهنية البغدادية ..
نلاحظ هنا أن الأثنين يدخلان بغداد بتوقيت الراهن المزري:
*القادم من مدينة العمارة : أدريس العاشق .
*القادم من تاريخنا الهجري أعني ابن الأثير، وبشهادة السارد أن ابن الأثير (مولع لحد الهوس باللغة،بالإضافة إلى كتابة التاريخ وكان قد آلى على نفسه، مادام قد مُنح حياة ثانية، أن يدمج كلا العلمين في مبحث واحد ../86)..
ابن الأثير مشغول / مهموم بالبحث عن ذلك الشاب الأشقر الذي يرتدي بنطلونا ضيقا وقميصا بنصف كم/11وفي ظهوره الثاني فأن ابن الأثير،آثر على نفسه، ملاحقة ذلك الفتى، الذي راوغ عزرائيل وتملص منه /35 والبحث عن الفتى الذي انتصر على عزرائيل ،سيجعل من كتابه الجديد، مهما وثمينا، وأخوة الكهف وجدوا أملا جديدا في عودة الأخ الأصغر :(اعتمادا على وعد كان قد قطعه لهم الشيخ،، ابن الأثير،، بالبحث عنه، ضمن سعيه في متابعة الفرهود اليومي تأليف كتاب بخصوصه/ 126- 127) والأخوة وبشهادة أخيهم الضال : أحدهم قواد، الأوسط مذيع فوضى، الأصغر رادود، وآخر يعتلف الحشيشة .!!
وسيتم اللقاء الخاطف بينهما في( 184) وهذا اللقاء مشروط بحتم تاريخي
(كان لابد لهذا اللقاء أن يقع، بالذات في تلك اللحظة الحاسمة في سير الأحداث…أن اللحظة التي تواجدا فيها بركن ساحة الطيران هي حتمية، ضمن الوقائع ../ 188)..وكمؤرخ سيرى ابن الأثير لا قطع تاريخي بين بغداد في زمنه الأول وبغداد في ظهوره الثاني الآن وبشهادة السارد العليم
(لم يبد الكثير من الأهمية للطريقة التي يحدث فيها الفرهود،فهو مقتنع بأن الصورة التي تتحرك أمامه هي ذاتها المختزنة في الذاكرة، لهذا وصل إلى معادلة في غاية الطرافة،مايجري ليس بجديد، وإنه لم يعش زمنين منفصلين، بل هو حدث واحد مازال متسلسلا../ 190).. وان حركية الزمن مشروطة بهندسة المكان ..(الفرهود مثل المدينة المدورة، يبدأ في نقطة ثم يعود إليها../191)
(*)
التدوير في كينونة الأشياء أيضا (الريح تمر متقطعة، باتجاه الجرف تدور، تطفو فوق سطح المياه ثم تتلاشى، وكأن في النهر دوامة تجذبها إلى القاع ./ 8)..(تشرع الأبواب على عواصف ترابية، تدور حلقات ولمسافات ثم تهب ثانية في بقعة أخرى ../30) .. لكن السارد في الثلث الثالث من الرواية يرى المدينة قد أتخذت شكلا هندسيا ثان وهذا الشكل الجديد أكتشفته القدمان والعينان بلا قصدية ..(لقد ركبت ُ الحافلة الخطأ، مماجعلني أضيع ليوم كامل في أزقة لم تطأها قدمي سابقا واكتشفت فيها أن المدينة ليست مدورة كما يقال، إنما مخروطية الشكل ../ 131) المدينة : فضاء مدوّر مفتوح..(صارت خرائب، شيد محل الحانات أقواسا عباسية وعثمانية وكأن المدينة تعود القهقرى../ 10) ..(أنا لم أعتد على هذه المدينة، منذ نصف نهار والأزقة ترميني إلى أخرى، مثل دوامة تدور/ 63)..وهاهو ابن الأثير يسرد/ يرسم دائرة ًأرضية ً..(في اليوم الأول رسم دائرة بعرض ممرالمشاة النازل من صوب الكرخ إلى الرصافة، ثم نشر شبكة تشبه بيت العنكبوت ../ 85- 86)..(عند طرف الجسر، في الجانب الأيمن، أبصرت رسم دائرة، من وسطها تنبعث رائحة كريهة تبدو مثل سائل بخرته حرارة الشمس ../91) ..(رسمت أصابعه على ظهري دائرة مغلقة، وفي منتصفها بصم إبهامه بقوة/ 136)..مع الصفحة الأولى والمدينة المدوّرة تشتعل والجنرال لايشتهي سوى الحرب ولديه من الجيش الكثير ..ثم تتقهقر الرواية إلى عام 1233 والمؤرخ ابن الأثير ينحني فوق فراشه، بعد أن أنتهى من تنضيد آخر صفحة من كتابه(الكامل في التاريخ) لكن الخيبة كانت تتجسد لديه شعوريا (لاأحد يكترث لجهده وتعبه../21) ..ربما أدرك (أنه أحد المزورين الكبار للتاريخ) لذا سيقرر لو أنّ الله أمد في عمره (لأكتبن التاريخ الفعلي للمدينة ..) وسيكون عنوان الكتاب (الفرهود في يوم صيهود/ 108).. وبشهادته (انتهى النهب والسلب الفردي ودخلنا في النهب العام../ 185)
*حميد الربيعي / أحمر نامة/ دار صفصافة/ مصر/ ط1/ 2017
*محمود عبد الوهاب/ ثريا النص / مدخل لدراسة العنوان القصصي/ الموسوعة الصغيرة / ع396/ دار الشؤون الثقافية / بغداد/ 1995