المتابع لمسيرة البشرية منذ نشأتها ومعرفتها بكيفية تنظيم العلاقات بين الأفراد، يلاحظ أن هناك نسقا معينا للتعامل يعكس طبيعة النفس الانسانية، التي تميل لما يؤمن لها منفعتها دون الاكتراث لما سيكون عليه حال المصلحة العامة.
واحدة من علامات الأنا لدى الناس هي نظرتها المتباينة حيال الصالح والمصلح، اذ ان كلا المفهومين ” الصلاح والإصلاح” يترك اثره الواضح في النفوس سلبا وإيجابا.. وغالبية الناس لا يهمها شأن الصالح مادام صلاحه لا يتعارض مع مصلحتهم، او يحد من مسببات المنفعة التي تهيمن عليها طبقة معينة، كون إنعكاس هذا الصلاح يعود بالاثر الإيجابي على صاحبه، سواء كان هذا تطبيقا لتشريعات السماء او إمتثالا لقوانين وضعية صاغها العقل البشري.
الأمر مختلف تماما مع المصلح، خصوصا أولئك اللذين سبروا اغوار الصلاح إلى أن انتهى بهم الحال، ليجدوا انفسهم متربعين على ضفة الاصلاح الذي يتطلب منهم تهيئة أسباب النجاح في مهمتهم الشاقة.
المقام هنا ليس للمفاضلة بينهما، كون الكفة تميل لتميز المصلح على الصالح لعدة اعتبارات اهمها ان الاول يتعامل مع الواقع الذي ينتمي إليه بدرجة كبيرة من الاستعداد للتضحية ونكران الذات، الأمر الذي قد لا يشخص في سلوك كثير من الصلحاء.. بل إن الكثير منهم يولي اهتماما منقطع النظير، بالسلوكيات النفسية التي من شأنها الوصول به للصلاح، دون ان يكترث لما يدور في تفاصيل الحالة الإجتماعية العامة التي ينتمي لها.
كثيرة هي الإشارات الواردة في القرأن الكريم وكلام العارفين، التي تؤكد على ان وجود المصلح ضرورة لابد منها للحفاظ على تماسك البناء الاجتماعي، والحفاظ عليه من الانهيار بغض النظر عن مسبباته، سواء بفعل الانظمة الحاكمة او الانحدار القيمي الحاصل جراء الاحتكاك بثقافات لا تولي الجانب الأخلاقي العناية التي يستحقها.
قال تعالى ” وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ” فالملاحظ ان اشارة القرآن هنا تؤكد على افضلية المصلح على الصالح، كونه يكتفي بحماية نفسه وتقويمها، وإن كان وجود الصالحين ضرورة وحاجة مجتمعية ملحة، لكن المصلح يضحي بوجوده في سبيل إنقاذ الامة.
الامة بطبيعتها تقدس الصالح وتمنحه احتراما يفوق الآخرين مادام منشغلا بطقوسه الخاصة ولم يؤثر ذلك في شؤونهم، لكن مع أول انتقاله له من مرتبة الصلاح إلى الاصلاح سرعان ما تتغير نظرة بعض الطبقات الاجتماعية تجاهه، وتتحول تلك القداسة الى سلوكيات منحرفة بنظرهم، وخير مثال على ذلك “الصادق الامين”_ هذا اللقب الذي أطلقه جميع أهل مكة على النبي عليه وأله أفضل الصلوات، منذ بداية شبابه الى ان لحظة البعثة النبوية الشريفة، فحصل تغير خطير ساهم في زعزة مكانته في نفوس المتضررين من تلك الدعوة، الذين وجدوا انفسهم مجبرين على البحث عن اي تهمة من شأنها زعزعة قناعة الناس به، ولذا اتهموه بالسحر والجنون والشعوذة..
سيرة السيد الشهيد محمد باقر الحكيم تؤكد ما ذكر آنفا، كونه مثالا للصالح المصلح والعالم العامل، الذي إنطلق من نفسه الى الفضاء الأوسع فرسم بسلوكه الفريد إنموذجا للشخصية الرسالية، التي تؤمن بضرورة الإصلاح وتهيء مقدماته مهما كان ثمنها.
مستوى التعاطي مع تلك الجهود لم يك على نسق واحد من قبل الساحة الاجتماعية، وهو امر طبيعي بلحاظ ما تؤكده سيرة المصلحين، ودراسة أحوالهم والوقوف على معاناتهم، ويعود ذلك لعدة أسباب بحيث ان المواقف المتبناة تتبع للوسط او الحاضنة التي انطلقت منها، فعلى سبيل المثال يرى ارباب السياسة، في وجود شخصية السيد الحكيم ضمن الماكنة السياسية العاملة في العراق بعد التغيير _ أن وجوده سببا في تحجيم نفوذهم، كونه منافسا يحمل المبدئية التي تكشف زيف بعض الاتجاهات المنافسة في دائرة الانتماء العقائدي، فأعاد غيابه الأمل في نفوس كثيرين وأعدوا عدتهم للسيطرة على المشهد ولو بنسب متفاوتة.
القوى الخارجية وبغض النظر عن توجهاتها وتقاطع إراداتها، ترى فيه الزعيم الوطني الذي يصعب التعامل معه، كونه لا يهادن على مصلحة الوطن ولا يعطي الآخرين ما يمكنهم من الهيمنة على مقدرات الشعب، فلما أفل نجمه وجدت تلك القوى الباب مفتوحا على مصراعيه، للتدخل في أدق التفاصيل التي تهم الواقع العراقي، وكان لوجود الفواعل السياسية الرخوة في الداخل العراقي اثرا في تسهيل هذا الأمر.
بعض الاتجاهات برغم تدني مستوى تأثيرها على مشروع الحكيم، لكنها سعت للنيل من وطنية هذا المشروع، والتشكيك بإخلاصه بحجة انه مخطط أسس له خارج الحدود، وكانت تلك التهمة تنطوي على نفس قومي تغذيه بعض الإرادات الاقليمية، لكنه سرعان ما انهار بفعل الوعي الذي ساهمت فاجعة إغتيال السيد الحكيم في إنعاشه..
سيبقى الصزاع هذا أزليا، وسيتعرض كثيرون لما تعرض له سابقوهم، إن فكروا أن يتقدموا من دور الصالح ويصبحوا مصلحين.. حقيقيين.