يبدو ان عمار طعمة من احفادهم…؟
كراهية الفرس للعرب قديمة ،قدم صراع الحضارات منذ عهد البابليين والآشوريين،لكن الصراع الفارسي العربي ظل مستعرا بأحتلال فارس للعراق وجعل زيزفون عاصمة لها، الفتوحات الاسلامية التي انهت حضارة الفرس وحلت محلها حضارة الدين أخمدت النارالمشتعلة بين الطرفين ،لكن آثارها بقيت خامدة تحت الرماد تنبأ بأيقاظ جديد .
وبمجيء الدولة العباسية عادت الامور مرة اخرى بعلاقات قوية استوزر فيها الرشيد البرامكة ومنحهم سلطة الدولة .ومن هنا بدأت هذه القصة المفبركة بين جعفر البرمكي والعباسة بنت الخليفة المهدي بن المنصورالعباسي( ت169 للهجرة)،واسمها الحقيقي عَلية، شخصية سياسية يغلب عليها الطابع الاجتماعي الشعبي، من يقرأ تاريخها يجد انها تتناقض والتسيب الذي يلصقه بها المؤرخون.
بدأ الخليفة المهدي حياته السياسية بالانفتاح وسياسة الاسترضاء لظنه بأن الناس هم القاعدة التي يستند عليها في حكم الدولة وهو محق في ذلك، فعهد القوة والارهاب الذي ساد عصر المنصور قد انتهى بموته(158 للهجرة).لذا حين انتقلت مقاليد السلطة له بدأ سياسة مغايرة لسياسة والده،فراح يدقق في صغائرالامور وكبائرها، وهو الذي لا يتكل الا على ثقة. ، كما ان الشك كان يساوره دوما في رجاله، ،وذلك لكثرة حرصه على أمور الدولة،لذا كان كثير العزل والتولية لمجرد الاشتباه (1).
هذا التوجه السياسي الجديد قاده الى توجه اجتماعي منفتح حتى قيل في عهده تفشى المرح والرقص والغناء وفتحت الملاهي الليلية على خلاف ماكان في عهد سلفه المنصور. ان بعض المنصفين من المؤرخين(2)،يقولون ان الخليفة المهدي شجع اهل بغداد على الاقبال نحو الغناء واللهو،الا أنه رفض ان يتجاوز حدود ما امر الله به،لكن الامور أستغلت لغير صالحه،فشاع شعر الغزل ، مما مهد لظاهرة الاحتجاج حتى دعى بشار بن برد الى الكف عن قول مثل ذلك الشعر(3). ويبدو ان شيوع ظاهرة الترف والغناء يعود الى تطور روح العصرفي نواحيها الاجتماعية والاقتصادية نتيجة ارتفاع مستوى الناس المعاشي الذي انعكس بدوره على حياتهم الاجتماعية،وانفتاح المجتمع العربي على المجتمع الفارسي ولربما البيزنطي ايضاً.
أما سماع المهدي للغناء وحضور حلقاته،تعد أمراً طبيعيا ،اذ يتمتع انسان حاكم متمكن مثل الخليفة المهدي بمشاهدة السرور ليبعد عن نفسه عناء العمل المضني والمسئولية الكبرى،لذا يقول الجاحظ فيه: قال المهدي”أنما اللذة في مشاهدة السرور وفي
2
الدنو ممن سرني(4)”. كما كان المهدي محباً للمنادمة والمناقشة والمجادلة ،بعد ان تعلم وتأدب وجالس العلماءوالزهاد واصحاب الفكر والرأي ،مما ولدت فيه القيادة الحكيمة ،متمسكا بنصيحة والده المنصور الذي اوصاه حين قال له :(يا بني لا تجلس مجلساً الا ومعك من أهل العلم من يحدثك).هذه الرغبة المنفتحة فيه شملت اسرته ايضاً.فعلياء ابنته المسماة بالعباسة ( ت215 للهجرة) قد عرف عنها الاهتمام الزائد بأناقتها،وأختيارها أزياءها ووسائل زينتها وجمالها ،وقد نافست زبيدة زوجة الرشيد بهذا الحقل. هذه الزوجة التي صرف لها المهدي يوم زواجها بالرشيد اكثر من 75 مليون درهم كما ترويه المصادرلنا (5).
لقد اشتهرت العباسة اخت الرشيد بالفضل والادب والحسن والجمال ومجالسة الشعراء والادباء اوقل بمجالسة الرجال، حتى خاف الرشيد عليها ، فقتل جعفراً لظنه بمعاشرتها سراً(6). مثل هذه المرأة التي تربت في بيوت الخلفاء وتوفر لدينا كل ما تريد رزقت بألفكر والادب و الجمال معاً، حتى قيل انها كانت تلبس الالماس المرصع بالجواهر لتستر به جبينتها العريضة المغرية للرجال وهي اول ام لبسته،ولها ديوان شعر كبير نقتطف منه الابيات التالية:(7).
الا قل لامي الله وأبن السادة الساسة
أذا ما خالف سرك أن تفقدوه رأسه
فلا تقتله بالسيف بل زوجه بعباسة
قيل قتلَ الرشيد جعفرا لظنه بمعاشرتها سراً،علماً ان العباسة كانت زوجته شرعاً،لان الرشيد قد زوجها بجعفر زواجاً صورياً ليبيح لها الالتقاء به في مجالسها الادبية والشعرية دون حرج من آثم. لكن الجهشياري المؤرخ الثبت ينفي ذلك نفياً قاطعاً ويقوال على لسان احد الرواة” لا والله ما لهذا شيىءُ من أصل”(8).ويؤكد الدكتور عبالله الفياض حول هذه القصة فيقول:”لو جاز لنا قبول تزويج العباسة بجعفر من قبل الرشيد،فلا بد من سند او وثيقة وشهود،لان من الشروط الشرعية لعقد الزواج التدوين والشهود من القضاة والعباسيين وكبار القوم وغيرهم حتى يكتسب العقد شروط الاعلام(9) .مسكين جعفر البرمكي ..فكم من خصايا الخضراء اليوم من المتزوجين بعباسة والناس تحسبهم مخلصين..
لكن مهما قيل ويقال فأن قتل جعفر ونكبة البرامكة الكبرى كانت صداماً سياسياً في آمور الدولة بعد ان تدخل البرامكة فيها وحتى في خصوصيات الرشيد نفسه.اما قصتها مع جعفر فهي حكاية شعبية واسطورة حاكها ونسجها الفرس لتشويه سمعة الخلفاء
3
العباسيين بعد النكبة ،ولان الفرس يكرهون العرب منذ القدم ظنناً بهم انهم هم الذين اسقطوا دولتهم الفارسية ودمروا حضارتهم القديمة لصالحهم، بعد ان نشروا الاسلام بين
ظهرانيهم،حتى كتب احد المؤرخين الايرانيين المحدثيين قائلا:”لولا سقوط دولتنا القديمة على ايدي العرب المسلمين لكنا اليوم من افضل الدول علما وتقدما”. لذا دبروا هذه الحكاية المصطنعة ليسودوا تاريخ العرب والعباسيين الى الابد، وانا شخصياً أميل الى تصديق الرأيين معاً…وان العرب ما كان من حقهم ان يفتحوا فارس بقوة السيف..
لقد ايد الطبري(ت310للهجرة) في كتابه الرسل والملوك وابن خلدون(ت808 للهجرة) صاحب كتاب العِبَروديوان المبتدأ والخبر، أيدوا الجهشياري( ت331 للهجرة) في رأيه وأعتبروا اتهامها بجعفر هي حبكة فنية مقصودة لغرض تشويه سمعة الخليفة الرشيد معللين ذلك بالادلة النقلية والعقلية (11). تلك التهمة الباطلة التي أضرت بها وبسمعتها وجرت عليها الويلات التي اودت بحياتها بعد ان كانت متزوجة من ابن عمها موسى بن عيسى العباسي الذي تزوجها وسكن معها البصرة في جنوب العراق ولها منه اولاد.
أنها رواية مأساوية تمثلت بالتخلص من جعفر والعباسة والاساءة للبيت العباسي من قبل مؤرخين باعوا امانتهم التاريخية لغرض تحقيق مأرب سياسية كما نرى بعض مؤرخينا اليوم، ولا زالت القصة الى اليوم تسمعها الاذان وتتداولها الالسن وكانها حقيقة وما هي بحقيقة،وكأنك تقرأ نادرة من نوادر القصص الخيالية،لكنها كلها افتراء وحقد على العرب وحضارتهم من الشعوبية المقيتة التي تدعي اليوم تباكيها علينا كذباً وزوراً.
ان الشعوب لا تركن الى غيرها في أثبات حقائقها التاريخية ،بل تركن الى علمائها وآثارها التي تحاكي صفحاتها التاريخية المشرقة ،لذا يعمد الغرباء الى تدمير أثارها ومتاحفها حتى لا تبقي لها من آثر.وهكذا فعل بنا الأعداء بعد 2003.
ان ملاحظة مهمة لابد من ذكرها ،هو ان الخليفة المهدي كان رجلاً منفتحاً على العصر ، سبب له هذا الانفتاح الكثير من المتاعب له ولعائلته جميعها ابتداءً بالخيزران الجرشية زوجته الجميلة وجاريته السابقة -girl friend – التي كانت تجالس الرجال وتستمع اليهم وتحاورهم ،وابنته البانوقة التي كانت تحب ارتداء ملابس الغلمان وتتقلد بالسيف وتهوي ركوب الخيل وسباقاتها ،كانت فتاة سمراء فاتنة الجمال كجمال امها الخيزران الذي لا يقارن بهجة وجاذبية بالاخريات على حد قول المصادر(12)،حتى قيل عنها: “كانت تمشي مع ابيها في الاستعراضات الشعبية حين قال عنها الطبري في الرسل والملوك نقلا عن رواته ” وأني لأرى البانوقة تمشي وفي صدرها شيئاً من ثدييها”.ةيقصد انها كانت فتاةً متبرجة.
4
هذا الاتجاه المنفتح الجديد في مسار خلافته هو الذي جر عليه التقولات والاتهامات الباطلة التي رددها العامة وما ادراك ما العامة.ومن يواكب ما اورده
المؤرخون عن يوم البيعة منه للرشيد والهادي في بغداد مدينة السلام والاستعراضات الشعبية والرقص والموسيقى والطبول وفرق الغناء الخاصة والعامة ومباهج الفرح والسرور يدرك وكأنه يعيش في عصر غير العصر العباسي الاول. والتاريخ خير شاهد على ذلك.
وتبقى نقطة مهمة في هذه العُجالة هو ان الخلفاء والامراء والقادة وحكام الدول على مرِ العصوروالازمان، حين تتوفر لهم سلطة الدولة يعتقدون خطئاً انهم اصبحوا الاقوياء الذين لا يردون ،والرجال الذين لا يفضَحون،والقادة الذين لا ينكسِرون،لذا تراهم يعبثون ويخترقون القانون والدستور ,والناس ، وكأنهم في مأمن لا يُخترَقون،فهل يتعظ قادة المنطقة الخضراء مما هم فيه والغون ؟.
أما الذين أستقاموا لربهم – ,- وهم قلة في التاريخ – والناس فهم في مأمن الزمن من الناجين. اما الاخرون والذين مادروا ان كل شاردة وواردة منهم تسجل عليهم ويوَثقون ،فأذا ما حانت الفرصة سيُفضحون ويُصبحون اضحوكة التاريخ من كل الاخرين، وشواهد التاريخ كثيرة ابتداءً بالاسكندر المقدوني أمبراطور الرومان ومرورا ًبهتلر زعيم آلمانيا النازية وموسليني زعيم آيطاليا الفاشية وانتهاءاًً بصدام حسين رئيس دولة العراق الدكتاتورية .
حكام الجور والمصالح الشخصية لا يتعضون كما في حكام الخضراء البائسين اليوم ..لأنهم لم يشربوا من ماء الاستقامة ..فماتوا وسيموتون كما مات كل الطغاة عبر الزمن يتحسرون…فهل سيموت النائب عمار طعمه متحسرا على ما فعل…؟
المصادر المعتمدة:-
——————-
1-أبن طباطبا –الفخري في الاداب السلطانية.
2-عاصم عبد الرؤف-الحواضر الاسلامية الكبرى ص227 وما بعدها.
3-المسعودي –التنبيه والاشراف ص 333.
4-الجاحظ – كتاب التاج ص 34-35.
5-كحالة – اعلام النساء ج2 ص 17وما بعدها.
6-عبدالله الفياض – تاريخ البرامكة ص18.
7-كتاب نساء في حياة هارون الرشيد
8-الجهشياري- الوزراء والكتاب ص204.
9-عبدالله الفياض –المصدر السابق.
10- الطبري- الرسل والملوك ج8 ص 186 ،ابن خلدون كتاب العبر.
11- مجموعة المؤلفين –قراءات خاصة ص 126 وما بعده.
12-الطبري ج8 ص185.