18 ديسمبر، 2024 11:12 م

العبادي بين واشنطن وطهران والنجف

العبادي بين واشنطن وطهران والنجف

يمكن لمن يعيش أو يتابع المشهد العراقي أن يعرف وبيسر أن القوى الظاهرة الفاعلة والمؤثرة في المشهد العراقي ثلاث وهي أمريكا وايران والمرجعية الدينية في النجف الاشرف حيث أثبتت الاحداث المفصلية المهمة في تاريخ العراق بعد 2003 ان هذه القوى هي التي تتحكم في الوضع العراقي وكل مانتج عنه سلبا او ايجابا بينما انحسر دور القوى الاخرى دوليا او اقليميا اما تحت المظلة الامريكية او عن طريق الحضور المخابراتي لهذه الدول أودعم بعض القوى المحلية السياسية او الميليشياوية.

كانت أمريكا تريد احتلال العراق وتدمير قوته تحت أية حجة خدمة لمصالحها ومصالح اسرائيل ودول أخرى في المنطقة واستفادت من حماقات صدام المتكررة وعدوانية نظامه وعنترياته الاعلامية الفارغة لتحقيق هذا الهدف ولقد حظي الاحتلال الامريكي للعراق بتفاعل ايجابي من قبل ايران رغم العداء الايديولوجي بين الطرفين بينما انتظرت المرجعية كما هو حال أغلبية العراقيين سقوط نظام صدام -الذي أذاقهم الويلات على مدى أكثر من ربع قرن – كنتيجة حتمية لهذا الاحتلال وهنا لابد لنا أن نؤشر حقيقة وهي أنه ربما يتوهم الكثيرون بأن هناك توافقا دائما بين مرجعية النجف الاشرف وايران بينما الحقيقة أن هناك رؤيتين تتقاطع أحيانا أو تتوافق في أحيان أخرى تبعا لمصالح الدولتين اضافة الى أن مرجعية النجف الاشرف تدعو الى بناء دولة مدنية عادلة ولا تنتهج نظرية ولاية الفقيه التي يقوم عليها نظام الحكم في ايران وهذا الاختلاف يبقى جوهريا في تحديد المواقف السياسية .

تعد امريكا القوة المؤثرة الاولى بسبب وجودها العسكري ومسؤوليتها في بناء النظام السياسي الجديد في العراق اذ أرادت أمريكا تبييض وجه احتلالها بأن شرعت وبمساعدة القوى المعارضة لحكم صدام باقامة نظام ديقراطي دستوري في العراق وقد تدخلت المرجعية الدينية في النجف لترشيد هذا التوجه وفرضت على سلطة الاحتلال أن تتم كتابة الدستور بأيادي عراقية منتخبة واجراء الانتخابات وتسليم السلطة للعراقيين وبأسرع وقت وقد أذعنت أمريكا بعد مماطلة للقبول بعدما كانت لها مخططات أخرى ولقد استفادت ايران من الاحتلال كثيرا وسارعت لاملاء الفراغ الذي حصل في العراق ودفعت بالقوى المسلحة وعناصر المعارضة الذين كانوا يناهضون صدام من على أرضها للعودة الى بلدهم والهيمنة المطلقة على الشارع تحت أنظار القوات الامريكية المشحونة بالعداء ضد السكان نتيجة المقاومة التي لم تتوقعها والتي لاقتها في المعارك جنوب العراق وبعض المناطق الاخرى وبهذا حصل توافق بين هذه القوى القادمة من ايران وأمريكا نجم عنه توافقا بين الدولتين المتعاديتين مما وفر بيئة صالحة للتغلغل الايراني في كل المفاصل.

وتدخلت مرجعية النجف الاشرف بموقف تاريخي لانهاء ازمة نشأت نتيجة الصدام بين قوى تابعة للسيد مقتدى الصدر مع القوات الامريكية في مدينة النجف وساهمت بانقاذ الاف المواطنين ومتلكاتهم ومقدساتهم وارغمت امريكا على وقف اطلاق الناروفي ظل تلك الاجواء ومع احتمال وقوع الصدام بين القوى والفصائل المحلية والقوى التي قدمت بعد الاحتلال اثناء الانتخابات تدخلت مرجعية النجف الاشرف مرة اخرى لتجمع كل الاطراف الشيعية في قائمة انتخابية واحدة انضوى فيها الصالح والطالح من السياسيين ومن الغث والسمين من التوجهات وهذه القائمة فازت في تلك الانتخابات وماتلاها وبقيت مهيمنة على المشهد السياسي والى يومنا هذا.

لقد تدخلت المرجعية الدينية في حل أزمات كثيرة في البلد ومنها ما حصل بعد تفجير قبة الامامين العسكريين عام 2006 وما حصل من مذابح طائفية بعدها .

وبعد انتخابات 2006 دعمت المرجعية حكومة الولاية الاولى للمالكي لكنها قاطعت السياسيين المتصدين ومنهم رئيس الوزراء بعد 2011 خلال الولاية الثانية بسبب فشل الحكومة في تقديم الخدمات وتفشي الفساد في كيان الدولة العراقية واضاعة مئات المليارات من الدولارات وظهور

النوازع الديكتاتورية وحكم العوائل وكل تلك العوامل اضافة الى الصراعات السياسية مع القوى الكردية والسنية فقد تهدد البلد بالانهيار نتيجة انهيار الجيش وسيطرة داعش على ثلث أراضي العراق والتهديد بسقوط بغداد ومحافظات اخرى وهنا جاءت فتوى الجهاد الكفائي التي أصدرها المرجع الاعلى ليندفع مئات الالوف من ابناء العراق للدفاع عن الارض والدين والأعراض.

ورغم أن المرجعية وقبل ظهور داعش قد تخلت عن دعم أية قائمة او شخصية سياسية ودعت المواطنين الى عدم انتخاب نفس الوجوه التي لم تجلب الخير للعراق في انتخابات 2014 الا أن الفساد في مفوضية الانتخابات وعمليات التزوير والتدخلات وعمليات شراء الاصوات او الترهيب واستغلال مقدرات السلطة والدولة قد أعادت ذات الوجوه الى تصدر المشهد السياسي مرة اخرى ومع ذلك فقد وجدت المرجعية أن من مصلحة العراق اختيار رئيس وزراء جديد من نفس الكتلة الفائزة رغم محاولات ايران وحتى أمريكا في التجديد لولاية ثالثة للمالكي حفاظا على مصالحها في العراق وهنا اتضحت قوة ارادة المرجعية العليا وعدم خضوعها لاية قوة أو ارادة خارجية وجاءت هذه الاحداث بالعبادي رئيسا للوزراء وحظي بدعم مشروط منها يتلخص باجراء الاصلاح ومناهضة الفساد والمفسدين لكن المرجعية عادت لتنفض يدها من السيد العبادي بعد ان وجدت انه لم يقم بما هو مطلوب منه لكنها لم تتخلى عن دورها في دعم القوات الامنية والمقاتلين الذين أبلوا بلاءا حسنا وحرروا أرض العراق المقدسة من داعش الارهاب.

لقد خلقت عمليات التحرير مكانة متميزة للعراق وللعبادي شخصيا وشهد العالم الحفاوة الكبيرة التي لقاها في أمريكا من قبل ترامب والادارة الامريكية والمكانة التي حظي فيها في القمة العربية في الاردن من قبل الملك عبد الله والملوك والزعماء العرب الاخرين وهذا الاقتراب مع أمريكا وحلفاءها في المنطقة سوف يزيد العبادي بعدا عن ايران والتي سوف لن تتوقف عن دعم أتباع ولاية الفقيه أو حلفاءها التقليديين في العراق وربما تشهد الايام المقبلة تصعيدا ضد العبادي وحكومته مالم يلجأ الى كسب القوة الثالثة والعودة الى رعاية المرجعية ودعمها من خلال اتخاذ خطوات سريعة واجراء اصلاحات حقيقية وكشف بؤر الفساد واحالتها الى القضاء لتنال جزاءها العادل واستعادة الاموال المنهوبة داخل وخارج العراق وعدم الخوف من الاصوات العالية الفاسدة في البرلمان أو الاعلام .

ان نيل دعم ورضا المرجعية سوف يمنع ايران او حلفاءها من مناهضة العبادي وسياساته الاصلاحية اذ اثبتت التجارب الماضية أن ايران لايمكنها اتخاد موقف بالضد من ارادة مرجعية النجف الاشرف احتراما لمكانتها ودورها المشهود وحكمتها ورغم أن المرجعية وعلى عكس القوتين الأخريتين لا تمتلك قوى مسلحة أو أحزاب او تنظيمات مدنية او مسلحة لكنها أثبتت أنها القوة التي لها أكبر التأثير الان في المعادلة العراقية واذا ما اراد العبادي أن يبقى لولاية اخرى فعليه ان يتحرك الان قبل فوات الاوان لتحقيق مصالح شعبه واداء الامانة المكلف بها وعدم الالتفات الى تعهدات او وعود قطعها على نفسه لحزبه او كتلته الانتخابية وتحقيق الانتصار على قوى الفساد مهما كانت قوتها او امتداداتها الاقليمية او الدولية وكما ذكرنا ذلك في مقال سابق.