18 ديسمبر، 2024 10:49 م

العبادة والإنسان

العبادة والإنسان

كتبت هذا المقال قبل سبعة عشر عام تقريبا بتاريخ ٢٠/١٢/٢٠٠١ الموافق ٥ شوال١٤٢٢ وأحببت ان انشره لأول مرة وهذا هو النص الكامل للمقال:
(( إن معرفة المنشأ أو المبدأ لشيء ما ومعرفة القصد والغاية منه، لها دور مهم في الوعي والنضج.
لأن الشيء اذا حددت أبعاده أصبحت نسبيته واضحة فكراً ووجداناً ، وهنا سوف نسلم من محذور غلو الانتماء إليه!
هذا الغلو الذي يحوّل النسبي إلى مطلق مزيف لا حد للاستجابة لمطالبه فيعيق حركة التكامل.
فمثلا الفلسفة فإن الذي يسبر أغوارها ويخوض فيها وينتمي إليها لابد له من معرفة منشأها وماهيتها وحدودها ونسبيتها ومعرفة مقصدها والغاية منها…
وكذلك الأمر بالنسبة للاتجاه الحسي في المعرفة(العلم الحديث) وغيره…
ونحن حينما لا نجد التركيز على المبدأ والمنشأ والأهداف والغايات والمقاصد نجد أن حركة الإنسان الحضارية مشلولة ومعاقة ومتخلفة في اخطر جوانبها وهي علاقة الانسان بأخيه الانسان…
حقاً أن هذه العلاقة متخلفة، وتخلفها يُعدُّ جانباً خطيراً معيقاً للمسيرة الإنسانية نحو التكامل ونحو الرقي والتقدم….
بل إن المآسي والمظالم والحرمان وكل شي يتفجر له القلب و تتحطم له الجماجم وتتمزق له الأشلاء نتيجة لتخلف هذه العلاقة أو انحرافها عن مسارها الصحيح…
إن هذه العلاقة تُعدُ المعيار الحقيقي لتقييم اي حضارة بل هي القوام الأساسي لتحقيق السعادة والأمن والأمان…
ونحن لو استعرضنا صورا لتخلف علاقة الانسان باخيه الانسان لوجدناها لا تعد ولا تحصى، فالحروب الأهلية والإقليمية والعالمية وكذلك التعذيب والاضطهاد والقتل والتشريد كلها علامات على انحراف هذه العلاقة وتخلفها…
قلتُ قبل قليل أن هذه العلاقة هي المقوم الأساسي للسعادة في حال تقدمها وتطورها، اي تكون مبنية على أساس الود والحب والعطاء والإيثار، لان المجتمع يتكون من مجموع هذه العلاقات، فيشترك المجتمع بمصالح عامة تتوقف عليها مسيرة حياتهم ونجاحها، وتحقيق هذه المصالح العامة يتطلب تجاوز الذات والمصلحة الشخصية واحترام الآخرين، لا الصراع معهم! والمنافسة أو تحقيق المصلحة الشخصية على أكتاف مصالح المجتمع…
فكيف نتخلص من ذلك دون أن تكون علاقة الانسان بأخيه الانسان متقدمة مزدهرة…
قلتُ في بداية الحديث أن الشيء اذا حُددتْ معالمه وحدوده ومبدأه والغاية منه فسوف نتخلص من آفة الغلو في الانتماء!
ومن مصاديق هذا الشيء المصلحة الشخصية فإنها تتطلب إلى عدم الغلو في الانتماء حتى لا تعيق مصالح المجتمع وتكون سببا لفشل الحياة وتدهور علاقات المجتمع…
فنحتاج معرفة منشأ المصلحة الشخصية والغاية منها…
ويتضح من هذا الكلام الدور الخطير المهم الذي تلعبه علاقة الانسان بأخيه الانسان على مسرح الحياة وكذلك يتضح أن هذه العلاقة تحتاج إلى تربية وتنمية وتوجيه…
ولذلك قال السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله بحسب المضمون ( إن علاقة الانسان بربه لها دور تربوي في توجيه علاقة الانسان بأخيه الانسان)[ اامصدر:نظرة عامة في العبادات للسيد محمد باقر الصدر]
أي أن المراد من كلام السيد رحمه الله أن توجيه وتربية علاقة الانسان بأخيه الانسان يتم عن طريق علاقة الانسان بخالقه العظيم الله تبارك وتعالى وهذا الكلام يختصر لنا المسافة لأن خير الكلام ما قلَّ ودلَّ…
على أن علاقة الانسان بأخيه الانسان أو استقرار الحياة ونجاحها التي تعتمد على هذه العلاقة مسألة أخذت باهتمام كل الفلاسفة وأهل القانون والمفكرين وغيرهم..
لكننا نجد أن هناك ثغرات في المعالجة! لأنهم عجزوا عن توجيه هذه العلاقة وتنميتها بالشكل الذي يضمن نجاح الحياة واستقرارها….
بينما علاقة الانسان بربه التي تفرض عليه الايمان والالتزام بالشريعة التي تستمد وجودها من الخالق نفسه الحق المطلق…
لقد أخذت الشريعة علاقة الانسان بأخيه الانسان بنظر الاعتبار…حيث فرضت عقوبات رادعة لكل من ينتهك هذه العلاقة كالخلود في جهنم وفرض الديات والحدود والقصاص والنفي….الخ فقد تنوعت العقوبات بين ما هو اخروي ودنيوي…
إن المجتمع الذي عاصر تربية المربي الأول سيدنا محمد(ص) نجد أن هذا المجتمع وصل إلى أعلى درجات تطور وتقدم علاقة الانسان بأخيه الانسان، وقد أجمع العلماء من مختلف المذاهب بأن هذه هي الفترة الذهبية في علاقة الانسان بأخيه الانسان…
كيف حدث ذلك؟
كل ذلك حصل بسبب العبادة المخلصة لأن العبادة تمثل التجسيد العملي لعلاقة الانسان بربه والتي لها دور تربوي في توجيه علاقة الانسان بأخيه الانسان…
والعبادة هي جزء من الشريعة لكنها الجزء الأهم الذي يضمن تطبيق الشريعة كلها…
ماذا تتطلب علاقة الانسان بأخيه الانسان؟
هناك حاجات ومتطلبات لهذه العلاقة اي لتقدم وتنمية هذه العلاقة بالشكل الذي يضمن نجاح الحياة واستقرارها وتحقيق السعادة…
فهناك الحاجة إلى الارتباط بالمطلق الحق الخالق الذي هو مصدر التوجيه والتربية والسعادة…
وما العبادة إلا تجسيد ومران عملي لترسيخ هذا الارتباط بالمطلق الحق، والاعتقاد بدون مران عملي لا يمكن ان يترسخ في نفس المؤمن ومن ثم زوال هذا الاعتقاد ثم الضياع والضلال..
وكذلك تتطلب علاقة الانسان بأخيه الانسان الموضوعية وتجاوز الذات اي عدم تقديم المصلحة الشخصية على المصالح العامة… فإن تقديم المصلحة الشخصية على مصالح المجتمع يعني انحراف علاقة الانسان بأخيه الانسان…
فيحتاج الإنسان إلى تدريب ومران عملي من أجل تربيته على الموضوعية في القصد وتجاوز الذات..
وما العبادة إلا تجسيد لكل ذلك كما نلاحظه في الزكاة والجهاد باعتبارهما من أهم العبادات والتي تعتمد بالدرجة الأساس على سلامة النية بالإضافة إلى العمل…
وتحتاج هذه العلاقة –علاقة الإنسان بأخيه الانسان– إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية لكي يكون خير ضامن لكل ما ذكرناه وهذا الشعور الداخلي بالمسؤولية يتحقق من خلال علاقة الانسان بخالقه والإيمان به لأنه يمثل الرقابة التي لا تسهو ولا تنام مما ينشأ عند المؤمن به شعورا داخليا بالمسؤولية…
ومن هنا يتضح كلام السيد محمد باقر الصدر رحمه الله ويتضح الدور التربوي لعلاقة الانسان بأخيه الانسان ولمزيد من الفائدة راجع كتاب نظرة عامة في العبادات للسيد محمد باقر الصدر قدس الله سره…
ونحن في صدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان لا نجد الحضارة الغربية قد قدمت لهذه العلاقة اي شيء نافع بل ساهمت بكل ما تملكه من علم وتقدم تكنلوجي في اضعاف هذه العلاقة وتخلفها وتدهورها ومحاربة المنهج الذي ينقذ هذه العلاقة من الضياع..
ولعل السبب الذي دفعني للحديث ليس هو بيان دور وأهمية هذه العلاقة على مسرح الحياة…
بل الشيء الأهم هو بيان المنهج والمفهوم العام للعلاج والصيغة التي بها تتحسن هذه العلاقة المتمثل بالارتباط بالله ودستوره العادل..
فمن حقنا أن نسأل كيف يمكن توجيه وتربية وتنمية هذه العلاقة–علاقة الإنسان بأخيه الإنسان– ؟
هنا يجب علينا أن نرجع إلى السطور الأولى من هذا الحديث وهو معرفة مبدأ ومنشأ الشيء والغرض والهدف والغاية والمقصد من ذلك الشيء..
نحن عرفنا أن العبادة هي التي توجه هذه العلاقة وتنميها وتربيها، فالعبادة الواعية والتي لها روح ومعنى وقيمة تتكفل بتحقيق كل خير وصلاح..
ولابد من توضيح وبيان هذه المعاني التي تستهدفها العبادة الحقة ومن ثم جعلها المعيار الحقيقي لتقييم العبادة…
فالعبادة الفارغة من معناها اي التي لا ترتقي بصاحبها نحو التكامل، نحو الخير ، نحو العلاقة الحسنة مع أخيه الانسان، هذه العبادة الفارغة مرفوضة لأنها لم تؤدِ رسالتها وتحتاج إلى وعي وفهم لأنها عبادة ناقصة..(أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
علما ان العبادة تمثل العلة الغائية للخلق ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )
والعبادة أيضا لها علة غائية بحسب ظاهر القرآن الكريم(وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين)
وحيث أن درجة اليقين ليست درجة واحدة بل هي لا متناهي الدرجات فالإنسان يظل عابدا دون حد..
أي أن هناك قيمة وروح ومعنى للصلاة والصوم والزكاة ….الخ
فإن لم تحقق العبادة هذه القيمة لم تؤدِ رسالتها وبالتالي لم تسهم في المسيرة الإنسانية ولم تلعب دورا تربويا وإيجابيا في علاقة الانسان بأخيه الانسان ونحن نجد الكثير ممن مارس العبادة ولم ينتفع من عبادته!
فالذين حاربوا الحسين(ع) في عاشوراء قد صلى بهم عمر بن سعد صلاة الظهر! لكن اي صلاة وأي عبادة التي كانوا يمارسونها هذه الصلاة وهذه العبادة هي التي لا قيمة لها فهي عبادة فارغة من كل معنى وروح…
فليس كل من مارس العبادة أصبح عابدا، ولا يمكن أن تتحقق هذه القيم والمعاني بدون ممارسة العبادة الواعية المخلصة…
نحن بأمس الحاجة إلى توعية الأمة على معاني العبادة وأهدافها وقيمها فالعبادة تدعونا وتجسد فينا عمليا حب الناس فيجب علينا أن نعكس هذا الحب في كل تصرفاتنا لأن كل عمل يُقصد فيه وجه الله هو عبادة وحيث أن العبادة تدعونا لفعل الخير لأخواننا من بني البشر فإنها عبادة حقة وليست فارغة…
ومن هنا نجد أن الإسلام قد حرّم القتل والسرقة والاعتداء والظلم وأكل مال اليتيم والفتنة والنميمة والخيانة والكذب والغيبة والبهتان وكل هذه العناوين مؤشرات لتدهور علاقة الانسان بأخيه الانسان…
نحن سمعنا هذا الحديث(( خير الناس من نفع الناس)) والأحاديث والآيات كثيرة في هذا المجال في السعي لقضاء حاجة المؤمن وتنفيس كربته وازاحة همومه …..الخ
قال الله تعالى(( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين))
سبحان الله التكذيب بالدين مقرون بهذه العلاقة علاقة الانسان بأخيه الإنسان!!
علينا أن لا نتصور أو نعتقد حينما يقدّم الواحد منا عطاءًلا يدخل في مصلحته الشخصية اي شيء، أن هذا العمل فضل بل هو واجب وفرض تفرضه علينا العبادة التي نمارسها، العبادة التي تريد منا أن نكون موضوعيين لا أنانيين فليراجع كل واحد منا نفسه…
وأنا أؤمن بأن هذه المعاني مالم تتجسد على شكل نوايا طيبة وأفعال حسنة فإنها لا قيمة لها..
حتى أن الأعمال التي يقوم بها الفرد والتي هي بطبيعتها موضوعية أي خارج حسابات المصلحة الشخصية والأنانية، هذه الأعمال لها دور تربوي في تزكية العامل وسلامة قلبه وتخلق في نفسه الملكات الحسنة التي ترتفع به عن الشهوات المحرمة وعن التدني اي تخلق في نفس العامل أحوالا طيبة وقدرة على مصارعة النفس الأمارة والاهواء بدرجة أكبر واقوى….
والذي يعاني ويشكو من نفسه الأمارة بالسوء وشهواتها عليه حينما يريد الخلاص من وضعه هذا وحاله هذه، عليه أن ينظر بعين الاعتبار لكل الأعمال التي تمثل عطاء وايثار وتضحية من أجل أخيه الانسان وكل هذا يتحقق بالعبادة…
فأي تضحية مثل تضحية الانسان بنفسه وروحه أو المخاطرة بها كما في الجهاد…
أو تضحيته بماله كما في الزكاة…
فالعبادة تفرض علينا تعميم كل هذه المعاني والقيم في سائر أمور حياتنا وتصرفاتنا على الصعيد الفردي والصعيد الاجتماعي…
فالكيفية تتحقق بالعبادة الواعية التي تحقق كل تلك المعاني والقيم والا فهي عبادة ميتة فارغة من المعنى لا قيمة لها…
نحن نحتاج إلى وعي العبادة وتجسيد هذا الوعي في كل جوانب حياتنا وعندها تزدهر علاقة الانسان بأخيه الإنسان وبالتالي نتقدم خطوات كبيرة باتجاه السعادة ونجاح الحياة واستقرارها….))