إن العبادة هي علاقة الإنسان بربه، فالعابد هو الإنسان والمعبود هو الله سبحانه وتعالى .
وهذا يعني أن التقدم العلمي والتقني (التكنولوجي) ليس له دخل في تطور العبادة أو تبدلها أو تغيرها أو إلغاءها أو انتفاء الحاجة إليها لأنها ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة لكي تتأثر هذه العلاقة بهذا التطور .
العبادة علاقة الإنسان بربه وخالقه العالم بكل شيء بما فيها المصالح والمفاسد الواقعية التي يقصر العقل البشري أو أي عقل مخلوق عن إدراكها إدراكا تاماً وحقيقياً .
وهذه العلاقة هي التي تُنظم علاقات الإنسان الأخرى كعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والكون، وحتى المحتوى النفسي للإنسان نفسه أو بتعبير أدق هذا المزيج من العواطف والمشاعر والأحاسيس والغرائز والعقل والفكر الذي تتركب منه شخصية الإنسان والذي يعبر عنه بعلاقة الانسان بنفسه.
إن العبادة هي الحركة المعنوية إلى الله سبحانه وتعالى، فإن نية القربة لله تعالى هي حركة الانسان العابد نحو التكامل والعلم والقوة والقدرة والعدل……الخ
وحيث أن الله هو الكمال المطلق اللامتناهي، فهذه الحركة من قبل الإنسان العابد لا تقف عند حد بل هي سائرة نحو هذا الكمال اللامتناهي، وكلما زاد الإنسان قرباً كان نصيبه من درجات الكمال أكثر، فالرسول الأعظم بلغ أعلى درجات التكامل (( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى )) (النجم:9)
إن القرب المعنوي والحركة التكاملية من قبل الإنسان العابد ليست حركة قسرية أو جبرية بل هي اختيارية، ولو كانت قسرية لما تفاوتت درجات التكامل لدى أفراد الإنسان ولأصبحوا جميعهم بدرجة واحدة .
نحن نسمع كلمة تتردد على ألسن الناس وهي أن الكمال لله سبحانه وتعالى…
وهذا الكلام صحيح، ولكن المقصود من الكمال هو الكمال المطلق (الكمال اللامتناهي)، وليس الكمال النسبي ( الكمال المتناهي)…
فحينما يصل الإنسان إلى درجة من درجات الكمال، هذا لا يعني أن هذا الكمال هو كمال مطلق لامتناهي، بل هو دونه بما لا يعد ولا يحصى ولا يقاس بل إن نسبة هذا الكمال النسبي إلى الكمال المطلق هي صفر ﻷن نسبة المتناهي الى اللامتناهي هي صفر..…
فالعبادة هي الفرصة الأعظم للوصول إلى درجات الكمال….
وهي حركة مستمرة دائمة نحو المطلق (( أعبدُ الله حتى يأتيك اليقين ))،، واليقين ليس درجة واحدة بل هو لامتناهي الدرجات، فيبقى الإنسان عابداً إلى آخر لحظة من حياته .
وهناك علاقة بين العبادة وظاهرة الاختيار فالإنسان حينما خُلق مختاراً تميز عن باقي الحيوانات والكائنات غير العاقلة كي يكون عابداً لينال درجات اليقين والكمال….
ولابد للاختيار من قانون ينمو ويتكامل من خلاله، ﻷن اﻷختيار لا يمكن أن يكون رهين الجهل واﻷهواء بل لابد من إستناد الاختيار الى العلم، ومن هنا تأتي أهمية الشريعة اﻹلهية لظاهرة الاختيار، ﻷن الشريعة هي القانون الذي يضمن لظاهرة الاختيار النمو والتكامل، فالشريعة هي شريعة الله العالم المطلق الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في السموات ولا في اﻷرض وهو بكل شيء عليم ويعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور وهو عالم الغيب والشهادة وهو علام الغيوب وهو اللطيف الخبير….