23 ديسمبر، 2024 3:57 ص

العامل الديني من الانقسام والتنازع إلى الترابط والانصهار

العامل الديني من الانقسام والتنازع إلى الترابط والانصهار

“وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” سورة الرعد ، الآية 17

يشير الدين حسب المقاربة الاصطلاحية العلمية الإنسانية الى مركب ثقافي يتوزع إلى ثلاث عناصر هي كالآتي:

1-يشترط الالتزام بمعتقد محدد من طرف الذات يأخذ بعين الاعتبار إشراكها في التصور المجتمعي العام والاتساق مع الموقف العقدي للمجموعة ضمن قواعد من المعقولية المتبادلة.

2- وجود طقوس ثقافية ، أي عن مجموعة مقننة من الإيماءات والممارسات المختلفة ، مشحونة برمزية قوية وإنجازها بهدف صريح وهو تكريم كائن متعال أو طلب الحصول منه عل العون والفضل.

3- الوظيفة الاجتماعية والنفسية التي تعمل على إدماج الأفراد في وعي جمعي وتحقق التماسك الروحي والترابط العضوي للمجموعة وتنقلها من الانقسام والتشتت إلى الانصهار والتعاون.

على هذا الأساس تتكون العامل الديني من مجموعة من الفاعليين والفضاء المسجدي وجمهور المؤمنين وتبدو العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة متفاوتة وتشهد الكثير من التقلبات وتحقق المطلوب منها عند الترابط والتواصل الإيماني ولكنها قد تشهد بعض الفتور ويضعف الاتصال بسبب سوء الفهم والتباس.

فكيف يمكن تحويل الدين في جل عناصره من عامل انقسام والتباين الى فضاء رحب للترابط والتقارب؟

في الواقع يجب استئناف البحث في قضية أزمة الخطاب الديني والعمل على تطويره من جهة الشكل التواصلي والأدوات المستعملة من ناحية أولى ومن جهة المضمون الدال والمادة الفقهية المفترضة من ناحية ثانية وإطلاق عملية واسعة من أجل إعادة التفكير وطرح الأسئلة وتشخيص الإشكاليات التي يعاني منها هذا الخطاب على مستوى المادة المعرفية المقدمة واللغة المستعملة والمضمون الروحاني المراهن عليه والتفتيش عن جلب المصلحة ودفع المضرة عن المتلقين بتخطي آفة الغلو وتنقية الملة من التطرف.

في الأثناء يمكن التركيز على الدور الحيوي الذي يؤديه الفضاء المسجدي في التأثير على معظم المرتادين والإشادة بالوظيفة المركزية التي يقوم بها الأئمة والواعظين والمرشدين في التأطير والمرافقة والخطابة ولكن يجب الإشارة إلى إمكانية انقلاب هذه الوظيفة الجليلة إلى دور معكوس وإنتاج خطاب منغلق وتأثير سلبي على المتلقين في داخل المساجد والجوامع وعلى المتابعين المستمعين في الخارج وأماكن الجوار.

على هذا الأساس يفترض أن يكون الفاعل الديني على دراية واسعة بالتحولات التي طرأت على الإيمان من جهة طبيعته ومنهجه وغاياته وأن يكون أيضا ملما بالراهن المعرفي والعلمي ومتمكنا من التصورات العقدية والكلامية للمذاهب والفرق والأديان والملل والنحل وأن تكون خطبته جامعة مانعة وغير مفرقة وقادرة على التهدئة والتأطير ومتضمنة لكثير من الأمل والتفاؤل وحاثة على العمل والإنتاج والمثابرة.

كما يجدر الاهتمام بالإنسان من حيث حكمة التشريع والتذكير بحقوقه وواجباته والاستشهاد بتاريخ الأديان والمعتقدات والأبعاد المقاصدية للممارسات الفقهية والكلامية والانتباه إلى غائية أداء الشعائر والعبادات وحاجتها إلى ترسيخ مبدأ التواصل بين الفضاء الخاص والفضاء العام والتأكيد على الحياد والاستقلالية.

لكن ماهي الشروط التي يجب أن تتوفر لكي تتحول فضاءات العبادة إلى مؤسسات عمومية ذات مردودية وطنية ؟ وكيف يساهم الفضاء المسجدي في صناعة الرأي العام المدني وتكوين مناخ تربوي وأخلاقي مشترك مضاد للفساد والعنف ومانع لانتشار الجريمة والتحيل والارتشاء؟ أي دور للفاعلين الدينيين في هذه الرسالة التربوية التنويرية؟ وما الذي يجب أن يتوفر لكي يقومون بوظيفتهم المدنية على أحسن وجه؟

تنقسم المحاور التي يتم فيها التحليل المستفيض والدراسة المعمقة لهذه الأسئلة على النحو التالي:

– الدور الديني للفضاء المسجدي من جهة محافظته على المخزون الرمزي والمكون الروحي للأمة

– الدور الاجتماعي والتربوي لدور العبادة من حيث قدرتها على التأطير والإرشاد والاستصلاح.

– الدور التثقيفي والتنويري للمؤسسات التعبدية في مواجهة ثقافة الشارع التافهة والانحطاط القيمي.

– المهمة العضوية للفاعليين الدينيين في رفع معنويات المواطنين والحث على العمل والاستقامة.

– المهمة التاريخية للفاعليين الديينين في التذكير بالمبادئ النيرة والقيم الكونية التي تتضمنها العقائد.

– المهمة التربوية والايتيقية للمنظمين للشأن الدين في تكريس الحوار والمضافية وحسن الجوار.

من الضروري التمييز بين الاختصاصات والفصل بين المؤسسات والتفريق بين المجالات خاصة في مستوى العلاقة بين الديني والسياسي وبين الروحي والزمني وابقاء على التعاون والتكامل في خدمة الناس وغرس ثقافة المواطنة وحب الأوطان والتضحية من أجل المصلحة العامة وبر الوالدين وصلة الرحم.

من المفروض أن يقدم الفضاء المسجدي الكثير من الآليات النظرية والعملية في عملية التصدي للسلوك العنيف وأن يقلل من مخاطر هذه الممارسات المنافية للمبادئ الدينية التي تنادي باحترام الحياة الإنسانية وتقدس العمل الصالح والاندماج في المجموعة والتعاون على البر والتقوى وتنبذ العدوان والمنكر والإثم.

من المعلوم أن الفضاء المسجدي هو فضاء خاص تمارس فيه العبادات والشعائر ولكنه يؤثر في الفضاء العام ويتأثر به ويعكس حالة التشنج والاحتقان التي قد تصيب المجتمع وتزايد الأزمة الاقتصادية والفراغ الروحي والتلاشي على الصعيد الوجودي نتيجة انسداد الآفاق وغياب الحلول وتأخر الدولة عن الإنقاذ.

يحتاج الفضاء العام إلى تظافر مجهود العديد من الفاعلين الاجتماعيين من أجل توفير جملة من الآليات المادية والمعنوية ويلتقي ذلك مع العمل الجمعياتي الجبار الذي تقوم به بعض الهيئات الثقافية والمنظمات الحقوقية بغية تدعيم مجهود الدولة في مقارعة التطرف والتشجيع على المقاومة المدنية للعنف وانتشال الشرائح الهشة والفئات الشابة من حالة الضياع وفقدان المعنى وتجنيبهم الحلول القصوى والذهاب في مراكب الهجرة السرية ومسالك التهريب والمنظمات الإرهابية التي تهدد أمن البلدان وسلامة المواطنين.

لقد حرصت الفلسفة على تدبر الظاهرة الدينية بطريقة منهجية واتجهت نحو قراءة الوحي عن طريق العقل واستثمار الرموز والقصص في إنتاج المعنى وظهر في هذا الصدد اختصاص داخلها اصطلح على تسميته الفلسفة الدينية أو فلسفة الدين وهي ليست مجرد التطرق إلى بعض الأفكار الفلسفية التي يتضمنها الدين ولا التوقف عند بعض الأفكار الدينية إلى استعملها الفلاسفة في أنساقهم المعرفية والوجودية وسلموا بصحتها وإنما في اختصاص قائم الذات يدرس العامل الديني من جميع جوانبه ومكوناته وأبعاده وأدواره ويستهدف استخراج المعنى والقيمة من التجربة الدينية ويبرهن على حاجة الإنسان للاعتقاد في حياته.

لقد عرفت فلسفة الدين بعض التحولات الجوهرية والإضافات الحاسمة سواء في مستوى منهج القراءة والتأويل أو في مستوى المقاصد والرهانات المطروحة على الفاعلين الدينيين في مستوى استثمارهم للمقدس وانتقلت من البحث عن المصالحة بين الإنساني والإلهي وإزالة التعارض بين الحكمة البشرية والشريعة الربانية في الأزمنة الوسيطة الى الاستفادة من الثورة العلمية في الأزمنة الحديثة للبحث عن أصل التدين ووظيفة العقائد والتمييز بين الدين الطبيعي والدين المدني وبين الحق الإلهي والحق الوضعي ضمن رؤية علمانية تفرق بين عالم الروح وعالم الجسد وتنتهي إلى استشكال الرموز الديني في الحقبة المعاصرة ضمن رؤية مابعد علمانية منفتحة على التجارب الروحانية المعيشة ومنتبهة إلى مطلب الإيمان ومفرقة بين المقدس والدنيوي وبين الفضاء الخاص للمعتقد الشخصي والفضاء العمومي للدين الجمهوري.

في هذا الصدد يمكن الاعتبار من الآية 22 من سورة النور التي يقول فيها عز وجل: “وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم”، فمتى يتحول الدين من عامل انقسام بين المجموعات وتهديد للسلم الأهلى إلى عامل بناء وتوحيد وتقدم؟ وكيف ترسي القراءة التنويرية للدين التحاور بين الناس والصداقة بين الشعوب؟