من الممكن أن نحدد السلطة الحاكمة في العراق بالجمهورية الرابعة كما يقسم الفرنسيون حكوماتهم الجمهورية بعد الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) فالحكم الجمهوري بدأ في العراق بعد إنتهاء الحكم الملكي (1921 – 1958) وتبوأ عبد الكريم قاسم للسلطة أو ما سمي بعدئذ بالحكم القاسمي( 1958 – 1963 ) تلاه الحكم العارفي (1963 – 1968) ثم الحكم البعثي (1968 – 2003) وأخيرا الجمهورية التعددية الرابعة كما يحب أن يطلق عليها مؤيدوها وموالوها (2003- ولحد الآن) جميع السلطات والحكومات منذ نهاية الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) ودخول العراق في دوامة الاستعمار البريطاني لم تنجح في الحد من هيمنة وسيطرة وإطباق العشائر على عموم الحياة الاجتماعية وتأثير النفوذ المعلن وغير المعلن لشيوخ بعض تلك العشائر على فرض إرادتها وبسط قدراتها التقليدية باعتبارها مركزا لتوزيع ونشر الصلاحيات وتمثيل توجهات ملايين العراقيين ممن التجا إلى العشيرة وشيخها كبديل عن الدولة وسلطتها! العشائريون في العراق وصلوا إلى أعلى المراتب التشريعية والتنفيذية بل وحتى القضائية منذ تنصيب الملك فيصل الأول في عام 1921ومشاركتهم بعد ذلك في الحكومات ومجالس الأعيان والنواب .. ولكي نكون دقيقين ومحايدين في قراءة وعرض هذا الأمر لابد من الإشارة إلى تسلط البعض من العشائر الاقطاعية العراقية أصلا على الحكم في العراق قبل تنصيب فيصل الأول كنتيجة منطقية لبعض الأحداث.. ففي عام 1915 حاصرت عشائر الكوت العربية قوات الجيش البريطاني بقيادة الجنرال طاونزند لأشهر عدة وقتلت وأسرت وجرحت آلاف الجنود البريطانيين بعد أن أشاع شيوخ عشائر الكوت بأن البريطانيين كفرة لا بد من قتالهم.. في عام 1920 طافت أفواج الفرسان من مقاتلي ثورة العشرين منطلقين من السماوة لقتال الاحتلال وتوسعت شرارة الثورة إلى ربوع العراق في جنوبه وفراته الأوسط ووسطه وغربه وشرقه .. معنى ذلك أن البعض من العشائر هي من سيطر على العراق بعد العثمانيين وهي الحاكم الحقيقي رغم ما كان يظهره البريطانيون من سيطرة ، لكنها لم تأخذ طابع التأهيل والثقة إلا بعد منح شيوخ العشائر العراقية سلطات واسعة وتمثيل سياسي وتمليك أراض زراعية وصناعية كبيرة جدا لهم ساهمت في استحداث الحكم الإقطاعي في العراق! جميع السلطات الحاكمة منذ الوزارة الأولى فشلت في وضع حد لتأثير الحكم الإقطاعي رغم ما أعلنه بعضهم من تبنيه لإيديولوجيات مناهضة للإقطاع ما لبثت نفس هذه السلطات من الاستعانة بها للوقوف مع السلطة الحاكمة ضد معارضيها .. بعد عام 1991 أصبحت الحاجة للاعتماد على دعم ومساندة العشائر بقيام السلطة آنذاك بتسجيل أسماء شيوخ العشائر وتوزيعهم فئات وتوزيع رواتب أو منح شهرية على حسب كل فئة ، ما منح شيوخ ووجهاء العشائر العراقية طابعا رسميا وتوصيفا وظيفيا لم يتمكن الأمريكيون بعد احتلالهم لبغداد في عام 2003 إلا مواصلة تشجيعه وإدامته بل وإلى اختيار عدد من هؤلاء الشيوخ في أول مجلس حكم طارئ في العراق قبل وضع الدستور والانتخابات , بعد انسحاب الأمريكيين في عام 2011 تفردت العشائر العراقية وبدعم كامل ومطلق من الأمريكيين بالتأثير على مجريات الأحداث السياسية في العراق عبر الانتخابات النيابية وانتخابات مجالس المحافظات، فالأحزاب والكتل السياسية داخل السلطة إن لم تحصل على تأييد مسبق من شيوخ العشائر بجمع أكبر عدد من الأصوات لهذه الكتلة وتلك سيصيبها الفشل بلا أدنى شك والأدلة كثيرة بل تصاعد حجم هذا التأثير إلى انتخاب عشرات الشيوخ وتولية بعضهم لحقائب وزارية وقيادات عسكرية وأمنية وسفارات! ماذا بقي إذا كي يحسم هذا الأمر ويتحول العراق إلى سلطة عشائرية علنا وليس التأثير من وراء الكواليس؟! الجواب في الانتخابات القريبة جدا وهي التي ستظهر للعراقيين أن من يمثلهم فشل في نقل معاناتهم وتلبية مطالبهم وأن هناك حلا آخر وهو العشائر!
كي يبدأ العراق مرحلة من الصراع العشائري القبلي الاقطاعي الجديد بدأت تلوح بسحاباتها السوداء منذ الآن منطلقة من جنوب العراق .. فبينما يتجه العالم لوضع أول منطقة سكنية على سطح المريخ سيعود العراق إلى حكم المليشيات و بعض العشائر والاقطاعيات .. ولله الأمر !