في رواية هزلية نُسِبت لهيرودوت، شُيِدت مدينة بابل العظيمة وحدائقها المعلقة بالنفط، ورغم مبالغتها، إلا أن النفط له تاريخ طويل، لنجعل هذه المقالة عدسة قوية على ماضية وحاضره.
حصاران عربيان لعاصمة الإمبراطورية الشرقية بالقرن السابع تم كسرهما بـ “نار الاغريق” التي لا تنطفأ على المياه إذ كانت تفوقاً عسكرياً منقطع النظير لبيزنطة، بداية بسيطة للغاية لعلاقة البشر والنفط اقتصرت على الجانب الحربي لأكثر من ألف عام ما بين قصص الصين المنسية وأمرائهما مدمني الحرب بالعصور والوسطى وحتى القرن التاسع عشر الذي شهد بزوغ عصر التكنولوجيا.
الأن.. لنوجه بصرنا نحو الحاضر، اليوم بلغ عدد سكان العالم 7.6 مليار وبحلول نهاية القرن الحالي سيصل 18 مليار نسمة، ويستهلكون حالياً 11 مليار طن من البترول بالعام حيث وصل معدل الاستهلاك ذروته عام 2013 عندما تجاوز الـ 90 ونصف مليون جالون باليوم الواحد!.
لكن.. متى ينتهى النفط؟
سؤال عاصف للأذهان وإجابته أشد عصفاً، جريدة الرياض نشرت مقالة في فبراير 2013 تناولت ما قالته الوكالة الدولية ستاندرد أند بورز عن نهاية احتياطات النفط بالمملكة العربية السعودية بعد 170 عاماً، ورغم سبق جريدة براونزفيل هيلارد الأمريكية في مقالة نشرتها عام 1975 مشيرةً للنهاية عام 2015، إلا أن هذا العام شهد نشر مقالة جديدة نشرتها التليجراف وحملت تنبأ الشركة البريطانية لنهاية النفط عام 2050.
مع تضارب التواريخ ومصادر التنبؤ، ورغم تأكدنا نضوب النفط يومياً لأنه مادة غير متجددة، لا يمكن الثقة بأحدهم لأن لتقدير تاريخ دقيق لتلك النهاية لابد من تقدير اجمالي ما يحمله كوكبنا من الذهب الأسود في جوفه وهو أمر صعب علمياً لوجود أبار تحت المحيطات وبالقطب الشمالي والجنوبي المتجمدين لم يتم اكتشافهم بعد!.
وحينما يحل هذا اليوم، أتساءل ماذا فعل العالم ليوفر البديل المتجدد، سؤال حائر يجيبه الدول المتقدمة التي أخذت خطوات جادة لتوفير هذا البديل، وأتذكر عام 1956 عندما أنتجت شركة جنرال الكتريك الأمريكية طائرة تعمل بمفاعل نووي مصغر بديلاً للمحركات النفاثة التي تُدَار بالبنزين وتم الغاء المشروع عام 1961 بسبب التخوف من حدوث انفجار أو انصهار المفاعل خلال رحلة الطائرة وتلى ذلك مغامرة جديدة لشركة فورد الأمريكية عندما انتجت سيارة تسير بمفاعل نووي عام 1958 سميت بـ “نيكليون” بهيكل فولاذي لاحتواء أي انفجار نووي بالشارع أو تسريب اشعاعي منها وتم الغاء المشروع بأكمله لنفس أسباب الطائرة النووية. فقد يرى البعض البديل النووي الأفضل للنفط لكنه باهظ الثمن وصعب التداول.
هناك ثلاث أبعاد هنا لمعادلة النجاة في زمن “نهاية النفط” وهم تكلفة توفير البديل وتكلفة الانتقال له والمعيار الزمني لكلاهما، فالرياح والشمس وأمواج البحر بدائل بتكلفة أعلى وطاقة أقل!.
ولشرح أفضل، النرويج قدمت التجربة الذهبية لتوفير البديل المتجدد حيث تولد 98% من الطاقة من مصادر متجددة “الهيدروكهربية 129 تيراوات ثم الرياح 1.9 تيراوات من اجمالي 134 تيراوات”، وفي المقابل تنتج مصر 95% من الطاقة من النفط وفق الموقع الرسمي لوزارة الكهرباء.
ففي عام 2013 فقط ضخت حكومة أوسلو 20 مليار كرونة نرويجية لمضاعفة انتاجها من مزارع الرياح ثلاث مرات من 700 ميجاوات إلى 2 جيجاوات مستغلة الميزة الفريدة للموقع الجغرافي للبلاد في بحر الشمال والقطب الشمالي.
لكن هناك تكلفة أخرى وهي موائمة طريقة الاستهلاك بمعني مثلاً لا يمكن تحريك السيارات بطاقة الرياح!، لكن عام 2012 طرحت شركة تيسلا جيل جديد من السيارات يعمل ببطارية كهربائية يمكن شحنها مثل الأجهزة المنزلية والهواتف المحمولة، لذا إعادة هيكلة المعدات والأجهزة التي نستهلكها اليوم لتعمل بدون نفط يعتبر أمر بالغ الأهمية والصعوبة، ففي مصر يسير 9.4 مليون سيارة على أرضها بالنزين وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء وانتقال بلدنا الحبيب إلى “اقتصاد بلا نفط” سيكلفها حتماً الكثير من المال والوقت.
مصر اتخذت خطوات فعلياً هامة، ففي عام 1986 تم تأسيس هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة لتنويع مصادر الطاقة وفي 2001 تم تشييد أول مزرعة رياح بقوة 430 ميجاوات وتلي ذلك مشاريع عديدة بالتعاون مع اليابانيين والإسبان لتشييد مزارع أخرى عام 2017.
أما الطاقة شمسية لها تاريخ طويل جداً في مصر تعود لبداية القرن الماضي، بداية سابقة لكن اهتمام أقل، وبعد ثورة 2011 بدأ الاهتمام الحقيقي بها حيث تعاقدت الحكومة عام 2017 مع وكالات تنمية وشركات طاقة بفرنسا واليابان وكوريا والكويت لبناء محطات طاقة شمسية تبدأ العمل عام 2019 و2023.
البحث العلمي عامل رابع، والأهم على الاطلاق، فالمستقبل قد يحمل طفرات كانت مستحيلة بالماضي واكتشافات ومفاجآت لحل شفرة “الطاقة المتجددة الرخيصة”، فالعلم قادر على إنهاء اعتماد العالم على النفط قبل نهاية وجوده.
أغلب الدول الفقيرة ستكون ضحية هذه النهاية التي باتت وشيكة، أما الدول الثرية سواء النفطية أو الصناعية ستكون أقل تأثيراً لامتلاكها العلم والمال الكافيان للانتقال للبدائل، وتعد الإمارات نموذجاً مثالياً في الاعداد لعصر “ما بعد النفط” حيث أعلن الشيح محمد بن راشد عام 2016 بتوديع أخر قطرة نفط وانتقال بلاده لمصادر أخرى مستدامة بفضل رؤية وخطة مدروسة تقيهم تقلبات السوق والتبعية لقوى أخرى.
كوكبنا يستهلك ويهدر موارده التي اكتنزها لملايين السنين وينعكس ذلك بدوره على مناخه وتركيبته البيولوجية المتضررة من استهلاك البشر المبذر والذي يقود على المدى الطويل لانقراض الكثير من الأحياء وللمجاعات وحركات نزوح لملايين البشر وكذلك الحروب المشتعلة بسبب تغير أحزمة المناخ وتعتبر دارفور النموذج الأمثل.. العالم بعد النفط، كيف سيبدو؟!