17 نوفمبر، 2024 5:23 م
Search
Close this search box.

العاطلون عـن التفكير!

العاطلون عـن التفكير!

 

في كتابه “نقـد العقل العربي” تحدث المفكر محمد عاقد الجابري عن مصطلح “العقل المستقيل”، وهو ذلك العقل الذي لا يسعى لأن يجتهد في القضايا الكبرى، ولا يحاول اختراق المسلَّمات، ويعتمد على غيره عبر اللجوء الى مقولات جاهزة كما في العقل المستقيل الديني، اذ تسود مقولات الإجماع والشهرة والسيرة، واللجوء لرجل الدين طلباً للفتوى في أبسط مسائل الحياة لدرجة ان يأخذ رخصة لوضع “جلّ الشعر”!
مشكلتنا اليوم أن العقل المستقيل أصبح سمة ملازمة لأغلب الشباب، حتى أولئك الذين يتبنون نظريات وفلسفات نقدية وعلمية! على الرغم من ان الفلاسفة والعلماء الكبار كتبوا نظرياتهم وأفكارهم ليقدموا لنا أدوات تساعدنا في فهم الحياة والتفكير فيها بشكل نقدي، ولَم يكن هدفهم تعطيل التفكير او تقديس آرائهم كما يفعل البعض!
قبل مدة قصيرة، كنتُ أقرأ كتب جان جاك روسو محاولاً فهم أفكاره، واكتشفت ان اغلب نظريات كارل ماركس وسيغموند فرويد جاءت بإلهام من روسو، هذه هي القراءة المنهجية، قراءة تفيد من أفكار العلماء والمفكرين، لكنها لا تتوقف عندها، بل تعمل على تطويرها أو تعديلها او توظيفها بشكل جديد يتلاءم مع الخصوصية الثقافية لواقعنا الاجتماعي.
في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي.
برز اليوم اتجاه شبابي يعمل على نشر الثقافة العلمية – وهو جهد مشكور – يُسهم في تنوير المجتمع وهدم الخرافة وتعزيز الوعي المدني، الا ان بعض قادة هذا الاتجاه يحاول تدجين الشباب المحب للعِلم، وسلبهم حق التفكير، من خلال الدعوة الى هيمنة النظرية العلمية الواحدة وتسفيه العلوم الاجتماعية واقصائها، بداعي انها علوم زائفة، ولا يمكن الاعتراف بها ما لم تأخذ مصادرها من البيولوجيا الداروينية؟!
هذه الدعوات لا تختلف عن فكر السلفية الدينية المتطرفة التي تدَّعي امتلاك الله، وأن شرعية الوصول اليه لا تتم الا عبر مباركتها وفلسفتها!
يتشابه العقل المستقيل سواء كان دينياً او علمياً او فلسفياً في سمتين أساسيتين؛ الاولى تعطيل الفكر والاعتماد على مقولات جاهزة يقدمها الآخر سواء كان رجل دين او سياسيا او عالما. والثانية: محاولة احتكار الحقيقة ونبذ الآخر مرة بسلاح الدين ومرة بسلاح العلم!
تعطيل الفكر وغياب البحث النقدي والخوف من طرح الاسئلة الجريئة، له أسباب اجتماعية وثقافية كما يقول عالم الاجتماع هشام شرابي، اهمها التعليم.. الذي يجري في العائلة او المدرسة تعليم يقلل من أهمية الاقناع والمكافأة، ومن جهة اخرى يزيد أهمية العقاب الجسدي والتلقين. والهدف من التلقين هو نقل قيم المجتمع وعاداته الثابتة في مواجهة العالم الى صميم التركيب الذهني للفرد، فهو يتلقى نماذج متكاملة ويحولها الى نمط سلوكي دونما تفهم او نقد، ومن ثم، تدعم نزعة الامتثال وتضعف لديه طاقة الإبداع والتجديد.
فالتلميذ المجتهد هو الذي يثبت ذاته بإعطاء الأجوبة الصحيحة (الملقنة) لا بطرح الاسئلة الملائمة، اذ تصبح المعرفة بالضرورة معرفة مطلقة ليس لها سوى علاقة واهية بتجارب الحياة اليومية، ان العنصر المشترك بين التلقين والعقاب هو أن كليهما يستبعد الفهم ويدفع الى الاستسلام ويمنع حدوث التغيير.
ما يجب ان نعمل عليه هو محاولة منح كل شخص الوسائل لتكوين خطابه الخاص، وان يكون لسان حاله الحقيقي بدلاً من ان يتكلم بلسان الآخرين من خلال فضح الهيمنة سواء كانت دينية او سياسية او علمية!
ولن يتحقق ذلك الا عبر تفعيل النقد، والنقد القاسي.. فضلاً عن تفعيل ميزة الخيال السوسيولوجي او الخيال العلمي الاجتماعي، الذي عرفه عالم الاجتماع الاميركي سي رأيت ميلز بانه “القدرة على الانتقال من منظور الى اخر، من المنظور السياسي الى المنظور النفسي، ومن دراسة الاسرة الى تقييم مقارن للميزانيات الوطنية في العالم ومن الدراسات بشأن صناعة النفط الى دراسات الشعر المعاصر”، يساعدنا الخيال السوسيولوجي على الربط بين ادق مشكلاتنا الشخصية وبين التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، باستعمال هذا الوعي يأخذ الناس باكتشاف آفاق جديدة، وتعاد قدرتهم على الشعور بالدهشة، ويكتسبون طريقة جديدة للتفكير يفهمون من خلالها ما يحدث ما في أنفسهم من تغيّرات هي نتاج تداخل السيرة والتاريخ ضمن المجتمع، ويدركون بعدها المعنى الثقافي للعلوم الاجتماعية.

نقلا عن المدى

أحدث المقالات