اختلفت عقوبة السجن على مر التأريخ وتنوعت الطرق التي يؤاخذ بها السجين حسب البلدان والأنظمة الحاكمة، وذلك قبل أن يسن المجتمع الدولي مجموعة من القوانين التي يألفها العالم في عصرنا، وإن شئت فقل مجموعة الفقرات التي يتضمنها القانون المختص بهذا الشأن، ورغم هذه النقلة الحضارية إلا أن بعض الأنظمة لاتُلزم نفسها بهذه القوانين، حيث تجد أن السجين هناك يلاقي أنواع العذاب المصحوب بالأعمال الشاقة التي توحي بالانتقام أكثر منها بالإصلاح، إضافة إلى سلب كرامته طوال الفترة التي يقضيها في سجن بلاده أو البلد الذي حصل فيه الجرم، ومع وصول الحالة إلى ماهي عليه الآن إلا أن بعض الدول مازالت تمارس المفهوم الأول القاضي بعدم مراعاة الشروط الإنسانية التي وضعت من قبل اللجان المختصة بهذا الأمر حسب الاتفاقيات التي تتم بين الدول التي أخذت تنظر إلى مصاديق هذا المفهوم من وجهة حضارية، وعند الخوض في حديث من هذا النوع علينا أن لانغفل أن بعض الدول المتقدمة قد تجاوزت العنف بحق السجناء أو سلب إرادتهم وحريتهم وصولاً إلى كرامتهم.
فإن قيل: إذا كانت بعض الدول المتحضرة لاتمارس العنف مع السجين ألا يعتبر هذا ترغيباً في الإقدام على الجريمة؟ أقول: أغلب الذين يدخلون السجن هم من أصحاب الجرائم الخفيفة وهؤلاء ممكن اصلاحهم بأوسط الطرق التي يتضمنها قانون الثواب والعقاب المتعارف عليه لدى هيئة الإصلاح وذلك لعدم تمرسهم في الجريمة.
أما أصحاب الجرائم الكبرى فقد يكون سجنهم لمدة طويلة أشبه بالرادع الذي يحول بينهم وبين تكرار هذا النوع من الجرائم التي اعتادوا على ممارستها، حيث أن طول المدة كفيل بإصلاح المجرم الذي وجد في نفسه القابلية على الاحتراف، وذلك لأن طول المدة يحدث بعض التغيرات التلقائية، ولهذا السبب فقد تخفف العقوبة على المتهم الذي لم يعثر عليه بعد، والذي مر على جريمته وقتاً ليس بقصير. ومن هنا أخذت بعض الدول تتبع قانون حسن السلوك بعد فترة السجن.
وقبل الخروج من هذه المقدمة لا بد أن نشير إلى أهم الطرق المتبعة في سجون الدول المتحضرة والتي تتمثل في عدم دمج أصحاب الجرائم الخطيرة مع غيرهم من السجناء، حيث أن هذا بحد ذاته يخلق الكثير من المشاكل التي تجعل الأدنى يتأثر بآخر متمرس في مجال الجرائم الخطيرة، وذلك بسبب المعايشة التي تضيف إلى الأول تجارب الثاني، ومن هنا عمدت بعض الدول إلى سن قانون السجن الانفرادي الذي يُخصص لأصحاب الجرائم الكبرى، وذلك تجنباً للعدوى التي ممكن أن تُنقل إلى من هم أقل تمرساً في هذا المجال.
إضافة إلى تضمن هذا الأمر الرادع إلى بعض الحلول النفسية التي وضعتها هيئة الدول التي اجتمعت لوضع القوانين، وهذه هي الطريقة المثلى في التصنيف المتبع في كثير من دول العالم لاسيما تلك التي لها نصيب في التقدم والحضارة، وفي حالة تأمُلنا القانون الإلهي الذي في متفرقات القرآن الكريم نجده يشير إلى دمج الأصناف الذين اجتمعوا على نفس الجريمة من أول البعث وبعد النفخة الأولى وصولاً إلى دخولهم النار، كما قال جل شأنه: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون) الصافات 22. وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها:
المبحث الأول: قيل: إن معنى الحشر الجمع بإزعاج وهذا يختص بالكافر والظالم، ومن ذهب إلى هذا الرأي استدل بآية البحث وبقوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) النمل 83. إلا أن هذا مردود بقوله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) مريم 85. وهذا يبين لنا أن أصل الوضع لا يراعى فيه المتقابلات ولكن الاستعمال الشائع يغلب على ظن الكثير من أن المصطلح لا يمكن حمله إلا على جهة واحدة سواء في التضاد أو التناقض، ومن هنا أشكل على كثير من المفسرين هذا الاعتقاد الذي قادهم إلى الأخذ بالترادف، ومثالاً على ذلك فإن البشرى غلبت على الخبر السار كما في قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق) هود 71. وكذلك قوله: (يا بشرى هذا غلام) يوسف 19. ومع هذا إلا أن القرآن الكريم يستعمل البشرى في العذاب كما في قوله: (فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21. التوبة 34. الإنشقاق 24. وعند البحث في أصل الوضع نجد أن البشرى فيها إشارة إلى الخبر المفاجئ الذي يغير بشرة الوجه، وبطبيعة الحال فإن تغير بشرة الوجه يكون إما إلى السرور أو خلافه، وهذه القاعدة الكبيرة تجري في جميع المصطلحات، إلا أن الإشكال حصل بسبب الاستعمال الغالب، ومثالاً على ذلك: عند مرورنا بقوله تعالى: (ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً) مريم 86. لابد أن يتبادر إلى أذهاننا أن السوق لايستعمل إلا للمجرمين، ولكن القرآن الكريم استعمله للمتقين كما في قوله: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) الزمر 73. وهذا يبعد الظن عن الذهاب إلى حمل البشرى الثانية على التهكم فتأمل.
المبحث الثاني: ذكر الفخر الرازي في التفسير الكبير: إنه لا نزاع في أن هذا من كلام الملائكة، فإن قيل: مامعنى: (احشروا) مع أنهم قد حشروا من قبل، وحضروا في محفل القيامة وقالوا: (هذا يوم الدين) الصافات 20. وقالت الملائكة لهم: (هذا يوم الفصل) الصافات 21. أجاب القاضي عنه، فقال: المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) أي خذوهم إلى ذلك الطريق ودلوهم عليه، ثم سأل نفسه فقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده: (وقفوهم إنهم مسؤولون) ومعلوم أن حشرهم إلى الجحيم، إنما يكون بعد المسألة، وأجاب أنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب فلا يمنع أن يقال احشروهم وقفوهم، مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر إلى النار، هذا ما قاله القاضي.. ويضيف الفخر الرازي وعندي فيه وجه آخر: وهو أن يقال إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يبعد أن يقفوا هناك بحيرة تلحقهم بسبب معاينة أهوال القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سوقوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك، وتحصل المسألة هناك ثم من هناك يساقون إلى النار، وعلى هذا التقدير فظاهر النظم موافق لما عليه الوجه.
المبحث الثالث: قال الإمام الطبراني في تفسيره الكبير: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) أي يقال لخزنة جهنم، اجمعوا الذين ظلموا وقرناءهم من الشياطين الذين قيضوا لضلالتهم، ويقال: أراد بالأزواج نظراءهم وأشكالهم من الأتباع، والزوج في اللغة: النظير، ومن ذلك زوجان من الخف، ويقال: أراد بالأزواج نساءهم، سواءً أكانت امرأة الكافر كافرة أو منافقة، والمعنى: اجمعوا الذين ظلموا من حيث هم إلى الوقف للجزاء والحساب، والمراد بالذين ظلموا المشركين. ويضيف الطبراني: قوله تعالى: (وما كانوا يعبدون*من دون الله) يعني اجمعوا المشركين وأتباعهم وأوثانهم وطواغيتهم وأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
المبحث الرابع: يقول الطوسي في التبيان: (احشروا الذين ظلموا) أنفسهم بارتكاب المعاصي بمعنى اجمعوهم من كل جهة، فالكفار يحشرون من قبورهم إلى أرض الموقف للجزاء والحساب، ثم يساق الظالمون مع ما كانوا يعبدون من الأوثان والطواغيت إلى النار وكذلك أزواجهم الذين كانوا على مثل حالهم من الكفر والضلال، وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: معنى: (وأزواجهم) أشباههم، وهو من قوله: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) أي أشكالاً وأشباهاً، وقال قتادة معناه: وأشياعهم من الكفار، وقيل: من الأتباع، وقال الحسن يعني: (وأزواجهم) المشركات، وقيل: أتباعهم على الكفر من نسائهم. انتهى.
أقول: ليس المراد من قوله: (وأزواجهم) المشركات، لعدم تحقق الفائدة من حشر أزواجهم بمعنى النساء، إضافة إلى أن غرض الآية يأباه، فإن قيل: ما فائدة حشر معبوداتهم معهم كما في آية البحث وكما في قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) الأنبياء 98. أقول: دخول الأصنام والمعبودات الأخرى معهم إلى النار أوقع في نفوسهم من العذاب المادي وتأثير هذا على النفس أشبه بمن يُعتدى على مقدساته في الأرض.