23 ديسمبر، 2024 1:29 م

الطيورُ الصُفر ليس لها من شبيه في العراق !

الطيورُ الصُفر ليس لها من شبيه في العراق !

“نعودُ إلى مدينةٍ لنحارب أهلها كل عام. دوريةٌ قتالية في نهاية العام تؤكد دورة الفصول. شتاءٌ جديدٌ. طردنا الأهالي من قراهم، وهذا واجبنا الدائم. قتلناهم. هاجمونا، فقطعوا أطرافنا وفروا إلى التلال والوديان. ثم عادوا إلى شوارعهم وقراهم المتربة، فعدنا نلوح لهم بالسلام وهم يشربون الشاي أمام دكاكينهم. نفرق الحلوى على أطفالهم الذين سنحاربهم بعد سنين من الآن.”
لكل أمة تاريخها المنصف والذي لا يسجله بأمانة غير القلة من المبدعين، ولا بأس أن نجد هؤلاء حتى في أقاصي الخطوط الباهتة التي لا لون لها على الخريطة. وحتى أصحابنا الكيولية لا يعدمون من سجلهم المحفوظ في صدور الأبناء، أياً كانوا. وكتابنا اليوم رواية حديثة بعنوان “الطيورُ الصفر”، لكيفن باورز، وكان جندياً في جيش بلاده العظيم، يحارب شعباً عظيماً في تلعفر. لكن باورز غير معني بالعظمة في شيء، وكل مطلبه أن يجيب على سؤالٍ محدد، يقفز أمامه كل يوم، كيف هي الحرب في العراق؟ والإجابة أن الحروب ليس لها من شبيه. كذلك لا يوجد من شبيه للجنون، والعنف، والعذاب، ورؤى الروح. والرؤية هنا شديدة التأثير: جنديٌ وحيدٌ، تائهٌ ومُعذّبٌ، تغسل جسده مياه الفرات، فتردّ إليه النزر اليسير من الإنسانية المخبوءة على مرِّ العصور. إنه الإنسان، لا مناص من التعرف إليه، وحتى محاباته أحياناً على الجهالة. العارُ عاره، والعنفُ عنفه. أما الباقي فيقولون إنه التاريخ. لكن التاريخ لم ينصف أصحاب الرؤى قط. فأما الخيال الخلاّق، أو هو العدم. يقول الراوي هنا إن ما يخلقُ في هذا العالم يمكن ببساطةٍ أن لا يخلق ولا يكون، ويمكن للخيط الملتف على الحبل أن يوقف دورته اللولبية، وإذا ما احتاج أحدنا إلى حبل يقود به السفينة، فعليه أن يخترع شيئاً آخر غيره، وهكذا. والرواية درسٌ في التأثير العميق، وفي فقدان البراءة الأولى، والذكريات، والصداقة، وهذه ليست منزّلة، بل اخترعها الإنسانُ نفسه. أجمل ما يكتب الإنسان حينما يقبض بيده حفناتٍ غريبة من الحياة البسيطة حوله. إنه العراق: حقلٌ من الزهور البرية البنفسجية. طيرٌ صغيرٌ في الأعالي يعيد رسم أطراف الوادي على الأرض. بستانُ عنبٍ على حافة المدينة. طبيبٌ ميداني يحاول جاهداً أن يعيد أشلاء الجندي الجريح إلى مكانها في الجسد. قتيلٌ بلا إذنٍ ولا أنف. شمسٌ، وحرارةٌ، ورمالٌ، وظلال.. تنظر فلا ترى شيئاً غير رصاصة مجهولة تحمل معها الموت. أما للناجين، فلا تحمل معها غير غياب الحس. ولا عليك غير أن تبقى مستعداً، وحيّاً أيضاً، وبلا صوت. تلك هي الحرب “الدائرية” في العراق.
ليست الحروب مجرد كوابيس طافحة بالعذاب. والرصاصُ لا يُصنع لنا وحدنا، بل لكل هؤلاء القتلى. يمكن للحرب أن تكون نداءاً للنفس، ودعوةً للقدر وعبث الوجود، ثم العودة إلى الحياة الاعتيادية كما نعرفها كل يوم، فالناس تولدُ، وتموت. الحربُ رديف الأنانية. كيف تنقذ حياتي اليوم؟ ربما بالموت! تموت لأحيا. لا شيء. بدلةُ خاكي، في بحرٍ من الأرقام، ورقمٌ في بحر من الرمال. تلك هي العمل الأول لروائي أمريكي واعد، رأي بعينه، وكتب بإحساسه كل ما يريد. وحقٌ علينا أن نشكره.
Kevin Powers, The Yellow Birds. New York: Little, Brown & Co., 2012