18 ديسمبر، 2024 12:08 م

(الطنطل) من إبداعات ذاكرة الأجداد الخصبة

(الطنطل) من إبداعات ذاكرة الأجداد الخصبة

الإنسان بتكوينه صاحب مخيلة واسعة، يطلقها لتفسير بعض الظواهر الطبيعية والخارقة التي عجز عن تحليل ماهيتها في ذلك الوقت؛ فيطلق العنان لهذه المخيلة في إيجاد تفسير يتناسب وتوجهاته النفسية والفكرية والدينية. لذا ظهرت الأساطير كي تحقق هذه الرغبة الجامحة في تجاوز العقل والمنطق وسبح في متخيلات أوسع تراد لها أن تكون لها سحر الخوارق المطعم بالرغبة البشرية في التغلب على النواميس الطبيعية. ولعل وجود الآلهة مختصة ومسؤولة عن بعض الأعمال الخارقة في الحضارات القديمة ( اليونانية ، العراقية ،المصرية ، الهندية والفارسية )؛ أمر شائع إلى درجة المبالغة في بعض الأحيان.
لم يكن العربي بعيداً عن هذا المنحى الفكري، ولكن كان ينسب بعض الخوارق إلى الجن والعفاريت؛ حتى أن الشعر الذي هو لغة العرب السائدة كان بعض الشعراء يعزون إلهامهم وقريحتهم الشعرية وريادتهم إلى بأنه من وحي الجن؛ حتى شاع بينهم بأن لكل شاعر في عصر الجاهلية قرين من الجن كان يوحي إليه قول الشعر. ربما تغير هذا التفكير بعد الإسلام الذي جاء بتعاليم تحاكي منطلق العقل، وتقيس الأمر بمقياس التفسير العلمي السليم. ولكن مع كل هذه الثورة الثقافية التي أحدثها الإسلام في تغير بعض المفاهيم الفكرية السابقة، بقيت بعض رواسبها عالقة في الذهنية العربية حتى وقت متأخر حيث تحاول إن تجد لها دوراً في تفسير الظواهر وحالات التوهم بشكل يتناسب وثقافتها المحلية.
يعد (الطنطل) من أهم الشخصيات الشعبية التي صنعتها المخيلة العراقية لأسباب عديدة، قد يدخل في مقدمتها بعض القضايا الاجتماعية والنفسية فضلاً عن وجود مخيلة واسعة يراد لها أن تحقق رغبات محبوسة داخل النفس البشرية تريد الخروج من عالم الواقع الرتيب إلى عالم فيه أجنحة للخيال يطير بها البشر. حفظت وسردت ذاكرة الأجداد الكثير من حكايات عن هذا المخلوق المتوهم، وأبدعت الألسن بتأليف حوله الروايات التي تم نقلها بنوع من البالغة حتى أصبحت من بعد ذلك أمراً مسلماً به عند الكثير من كبار السن الذين يمتعون الآخرين بحلو حديثهم عن (الطنطل) ومغامراته، وكل راوية يضيف من (عندياته) من تمسح له الذاكرة ومفردات السرد القصصي.
(الطنطل) كما صورته الذاكرة العراقية نوعاً من الجن الذي يحاول أن يشاكس حين يصاب بالملل أو بطرد من قبيلته لسبب معين؛ فيخرج عن عالمه إلى عالم أنس راغباً في كشف بعض أسراره، ومرة مرغماً عنه، لأنه ارتكب جرماً، ويجب عليه قضاء بعض سنوات النفي بجوار الإنسان. وبرغم من اختلاف التسميات التي تُطلق على هذا الكائن الخرافي من (الطنطل) إلى (عبد الشط ) و(أم المساحي) من منطقة لأخرى، نجد أجماعاً وتوحيداً في أوصاف من شاهدهُ كما يزعم. من هذه الأوصاف : طويل القامة لدرجة أن بعضهم يبالغ أن رأسه في السماء ورجليه في الأرض، أشعث الشعر كأنه غابة العاقول والصبار، اسمر اللون ، لا يلبس من الثياب سوى ما يتسر العورة، حاد الذكاء فله القدرة على التقمص والتحول إلى أشياء يألفها البشر مثل أدوات الحصاد والمنزل فضلاً على الظهور على هيئة حيوانات ، ويسكن بالقرب من الشطوط والأماكن الخربة والمنازل المهجورة. هذه بعض صفات من ادعى مشاهدته ومصاحبته عن قرب لدرجة أن بعض هؤلاء استغل صفة الذكاء في تسخريه لإنجاز الأعمال الشاقة في غمضة عين. هذا الأمر يتم إلا للذين تربطهم علاقة صداقة مع (الطنطل) حيث يمدحونه بأنه صديقٌ مخلصٌ لمن أحبهُ حتى أنه بعض هؤلاء عقد صداقة تصل إلى أخوة الدم. ولأن (الطنطل) حاد الذكاء فأنه يستطيع تميز الرجل الشجاع ومن الجبان، فيجود بإنجاز الأعمال الجبارة للأول ، ويعمد إلى اللعب والسخرية من الثاني لدرجة قطع النفس؛ حيث أن صاحبنا(الطنطل) من النوع الكوميدي الذي يبالغ في أسلوب الفكاهة من خلال الصعود على الأكتاف والضرب بالعصا والحنق ومحاولة جر الضحية إلى النهر للممارسة السباحة مرغماً عنه، عندها يمارس هوايته المحببة في التسلي في إغراق فريسته، والتحول والاختباء والظهور بأشكال عديدة، ولا يترك صيده ألا وقد أرهق من الإعياء إلى درجة الموت، ليطلق سراح ضحيته بعد أن مارس كل أنواع الخدع والمشاكسة. وعادة ما يكمن للخائفين في طريق ذهابهم إلى الفيافي والشطوط المهجورة. ربما يعتقد أن هؤلاء المتطفلين عكروا عليه خلوته، وعزلته التي تعتز بها، وتجاوزوا حدود منطقة نفوذه، لذا استحقوا العقاب المناسب. ويذكر بعض أهل الدراية والمعرفة أن (الطنطل) من النوع الخجول، وكثير الحياء فهو لا يتقرب من النساء، بل يمارس هوايته فقط على جنس الرجال.
مثل هذا المخلوق لابد من وجود نقاط ضعف يستطيع أن الإنسان يتجنب شروره، ومن خلال تجارب الذين يدعون مشاهدته، استطاعوا تحليل شخصيته الغريبة، فوجدوا أنه يخشى أشياء منها: الإبرة الكبيرة (المخيط) والسكين والملح ،لذا عندما يقع احدهم في مأزقه، فما عليه سوى أن ينادي بصوتٍ عالٍ” سكين وملح” ويفضل أن يخرج (المخيط) محاولاً وخزه في جسده أذا أمكن، وعندها يرى هذا الأسلحة الفتاكة يهرب بسرعة البرق، ولم تعد أساليب التخفي ذات جدوى أمام نقاط الضعف هذه.
بعد التطور العمراني والتقديم التكنولوجي ،اندثر(الطنطل) ليبقى حبيس الذاكرة العراقية، ولم تعرف الأجيال الحالية سوى بعض الحكايات الأجداد ،وهي تحاول أن تحوك بخيالها الخصب مغامرات هذه الشخصية المتوهمة، وأحياناً تستخدم نوعاً من المبالغة السردية في وصف مخلوق متوهم من نسج الذاكرة العراقية يطلق عليه(الطنطل)، متعدد المواهب، وصاحب روح مرحة، وله القدرة على التحول والمشاكسة، أدعت مخيلة الأجداد أنها كانت على علاقة به. لم يستطع العلم الحديث تفسير ماهية هذا المخلق، سوى أن يطلق على هذا خيال متوهم أفضت به الروح السردية الحكائية، وهي تحاول أن تعلل بعض الخوارق على أساس المخيلة الخصبة وإشباع غريزة المتعة القصصية.