18 ديسمبر، 2024 9:56 م

هذه العبارة الفلسفية كانت أمي (=والدتي) ترددها دائماً، ومتخذتها أشبه بحكمة خاصة لها، وقد تعلمتها منها. وكانت أمي، كلما شاهدت موقفاً من أحد، أو طلبت منه شيئاً ولم يستجب لمطلبها، الا بمقابل، تقول له، وعلى الفور: “الطمع فسد الدين”، تقتصد بعبارة “طمع” أن كثيراً من الناس لا ينفذ عملاً انسانياً خالصاً لله تعالى أبداً، الا لنيل طمع، أي جائزة، هدية، أو ثمناً مقابل ذلك العمل.
(أمي) أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولا دخلت يوماً واحداً طيلة حياتها، في مدرسة لغرض التعليم، لكنها ليست بجاهلة، والفرق واضح ما بين الامي والجاهل، فالأمي قد لا يكون جاهلا، لكن الجاهل يكون متعلماً، فكم من متعلم هو اقرب الى الجهل منه الى العلم، كما نرى من الذين يخوضون في مسائل دينية، ويعدون انفسهم علماء في هذا المعترك، وفلاسفة في علم اللاهوت، وهم في الواقع قمة في الجهل والتعصب الديني المرفوض، والذي يفضي بالتالي الجهل المقيت؛ فحينما يناقشك في مسألة دينية، هو باعتقاده، انها حقيقة ثابتة، بل من صلب الحقيقة، وأنت تريد أن تشرحها له على ضوء العلم وخصوصاً العلم الحديث، وتثبتها له يقينياً أن تلك المسألة تخالف العلم، فهو يكذَب العلم ويجعله باطلاً مقابل النصوص الدينية التي تعلمها هو في المؤسسة الدينية وأعتبرها من المسلمّات؛ والامثلة في هذا كثيرة جداً، ونعطي مسألة واحدة في هذا، اتماماً للفائدة. فقد كان يُعتقد بل ولا زال الكثير يصر عليه، أن الجنين يخرج من صلب الرجل(= عظام الظهر) لكن العلم الحديث اثبت أن الحيامن التي تخرج من الرجل لتلقح بويضة المرأة تتكون في غدة البروستاتة، لذلك نرى أن المرأة لا تملت هذه الغدة، فهي فقط لدى الرجل، والدليل هو: إن الرجل الذي يعرض عن الزواج ولم يفرغ تلك المادة فهو دائماً يكون عرضة لسرطان هذه الغدة، فيموت على اثرها، وقد تعرض عمي اخو والدي الى هذا المرض ومات فيه.
تذكرت حكمة أمي أو فلسفتها، هذه الايام؛ فأمي هي من يؤمن بفصل الدين عن السياسة، بدون أن نعرف هذا المفهوم، اعني انها تقول بالعلمانية، لأنها كما قلت لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت (رحمها الله) متدينة على الفطرة اشد التدين والايمان، لا ايمان بعض المعممين الذي يسرقون الناس ويفتقون بقتلهم باسم الله تعالى، والله بريء منهم.
أمي كانت ترى أن: الدين دين، والسياسة سياسة، ولا يجوز أن يشتركان معاً، واذا ما اشتركا فسوف يحصل فساد وافساد، فلا نحض بدين خالص ولا بسياسة خالصة، اذ يحصل هناك طمعاً، “والطمع يفسد الدين” كما تقول امي. وقد تعلمت من أمي هذه الفلسفة، والام هي المدرسة الاولى في حياة كل طفل، بحسب علماء التربية وعلماء الاخلاق والفلاسفة… نعم كانت أمي، أول مدرسة تخرجت منها بامتياز وتعلمت منها مبادئ الاخلاق الاولى والتربية وعلم الكلام والمنطق، واخيراً الفلسفة. الطمع فسد الدين، فلسفة حقيقية لا سفسطائية ولا ديالكتيكية، ثبتت واقعها اليوم في هذا العصر، عصر الواحد والعشرين، حيث سرقونا فاسدون باسم الدين، وذلك بخلط الاوراق، خلط الدين بالسياسة، لأجل المنفعة والطمع، الطمع بالمناصب والامتيازات والتسلط، والطمع فسّد الدين. واستميح أمي عذراً .. أمي، ايتها الفيلسوفة العظيمة، بأن اضيف على فلسفتك: الطمع فسد الدين، قولي: (والدين فسد السياسة).