18 ديسمبر، 2024 7:02 م

الطلبة في عيون أمريكا القذرة !

الطلبة في عيون أمريكا القذرة !

يمر الكثير من الأمم بمرحلة فاصلة من التاريخ، يكاد أن يتوقف فيها الزمن، وقد يبزغ عليها فجرٌ جديد ترى فيه النور الذي كانت تتلمس خيوطه منذ سنين، أو تنتقل إلى عصر جديد حاملةً معها كل تركة الماضي الثقيل، تفقد فيه الأمن والأمان، فلا البلد آمناً، ولا خير فيه . أقول هذا وبين يدي هذا الكتاب النادر، وكله وثائق محكمة، تشرح الطريقة التي فقدت فيها الأمة الأمريكية العظمى الطريق إلى الأمن والأمان، ومازالت تحمل حتى اليوم تلك التركة الثقيلة التي صنعها رجال حديثون مثل الرئيس رونالد ريغان وعصابته، وعلى رأسها إدغار هوفر، رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي- أف بي آي. والحقيقة، لا يهمني كثيراً تاريخ أمريكا ومكاتبها بقدر ما يهمني تاريخ وطني، فألتمس الحقيقة من المجانين، وأعرف مثلاً كيف تحول “مكتب” الثقافة والمعلومات في نهاية الستينيات من القرن الماضي إلى أكبر سلطة مخيفة في البلد، حتى أطلقوا على حكومتنا لقباً نادراً هو جمهورية الخوف- وعلى غرار سلطة سيء الذكر الأعمى صلاح نصر، الذي مازال الأخوة المصريون حتى اليوم يدفعون عن مصائبه الثمن غالياً. أتذكر في تلك الأيام من عصر طاهر يحيى التكريتي أننا كنا طلبة في جامعة البصرة الفتية، وكانت تمورَ بكل جديد. كان لنا عصر من صناديق الاقتراع- ومن يكسب الطلبة، يكسب الشارع العراقي. ما إن فتحت الصناديق وبدأ العدُّ، وبانت الكفة الراجحة، حتى تقدم إلى الصناديق طالبٌ مغوارٌ بطبرٍ ناصعٍ لاهث، انهال به على ديمقراطية يحيى، وإلى الأبد. وأعجبُ اليومَ أن أجد هذا الطالب وقد أصبح شاعراً شيخاً يشار له بالبنان. له عائلة كريمة قد لا تعرف تاريخ وليها المشين، وعلى المؤمن أن لا يبدي عورته بعد أن ستره الله. لا فائدة في الإطالة، فالصور محفوظة في مكاتب مجلة العربي الكويتية على ما أعتقد، إذ صادف يومها أن كانت بعثتها الاستطلاعية في زيارة إلى الجامعة، وصوّر أعضاؤها الحدث بالصورة الحيّة. القصة واضحة، فلنعد إلى كتاب اليوم.
حارب مؤلف هذا الكتاب طويلاً للحصول على الوثائق المحفوظة في مكاتب التحقيقات الفدرالية الأمريكية التي دفعت أكثر من مليون دولار لحجبها وفشلت- والحقيقة أنها أموال الأمريكان، يدفعونها من جيوبهم الفارغة لقانون الضرائب المعروف. هنا نجد وصفاً نادراً لمحاولات المكتب في قمع حركات الطلبة في جامعة كاليفورنيا في بيركيلي في الستينيات، وبالقوة. كذلك دور المكتب في السيطرة على أساتذة الجامعة، وبخاصة رئيسها الذي سودت صفحته، وخرج من ملعب السياسة غير مأسوف عليه. ويبدو واضحاً في الكتاب أن رونالد ريغان، الذي قالت فيه جين فوندا حين أنتخب رئيساً: الآن أيقنت أن أمريكا بلد رعاة البقر، لم يكن غير عبد ذليل لخطط رئيس المكتب الجهنمية في الكذب على الرأي العام الأمريكي، وتجيير أفعاله المخلة بالشرف باسم المصلحة الوطنية- ما عدا فرض قانون الطوارئ، وهذا غير معروف إلاّ في بلداننا العربية النائمة. وقد بدأ الأمر مع ريغان في الأربعينيات من القرن الماضي حينما كان هذا حاكماً لولاية كاليفورنيا، واستمر معه حتى أصبح رئيساً للولايات المتحدة في بداية الثمانينيات، حتى تورطه في فضيحة إيران- كونترا. نعرف هنا كيف تعامل مكتب التحقيقات مع حركة المعارضة الطلابية، وحركة الحقوق المدنية، وما تلاهما من حركة التعبير الحر المناهضة للحرب في فيتنام، حتى أصبح كل ذي رأي مخرباً لابد من محاكمته- ومن هنا جاء عنوان الكتاب. واضح في الكتاب أن السيد إدغار هوفر لا يصون حرمةً للقانون، ولا يعرف شيئاً اسمه حرية الرأي، لكن المصيبة أن الرئيس ريغان كان قد كذب على الأمة الأمريكية حينما قال إن لا دور له في محاربة الفنانين الطليعيين في الخمسينيات. والحقيقة أن ريغان هو الذي زود مكتب التحقيقات بأسماء هؤلاء الفنانين الذين وضعوا في القائمة السوداء. وما هذا غير البداية، فريغان في الوثائق المدرجة هنا رجل مريض، حقود، لا يتورع أبداً عن عمل أي شيء  لمصلحته الشخصية، ولا فرق عنده بين تصفية خصومه السياسيين، سواء أكانوا ممثلين في السينما، أو طلاباً، أو حزبيين كبار، ولا يستثني في ذلك حتى رئيس جامعة كاليفورنيا الذي دبر له مكيدة نادرة في تاريخ أمريكا السياسي. شوه سمعة الرجل في نظر الرأي العام، وتركه ضعيفاً خارج اللعبة، ينظر باستغراب إلى حقيقة الحرية في أرض الديمقراطية العتيدة.
معلومة أخرى غريبة: يقرأ الأمريكان للمرة الأولى كيف تدخل هوفر هذا في حماية مايكل ريغان، ابن الرئيس، الذي كان متورطاً مع ابن جو بنانو، وهو أكبر بلطجي أمريكي، وكيف حرم الرأي الأمريكي والصحافة عن ذكر أية معلومة بهذا الشأن، بل حتى أنه غطى على كل المعلومات التي تتعلق بانتساب ريغان لبعض المنظمات الإجرامية السرية السابقة قبل أن يصبح من المناهضين لأي شيوعية في البلد. والنتيجة التي يقدمها لنا مؤلف الكتاب هي أن الدكتاتورية تعني ببساطة سياسة الحزب الواحد في التخلص من الأعداء. هنا يبدو واضحاً أن الدكتاتورية نظام سار عليه ريغان في حياته كلها، لم يحد عنه قيد أنملة. من هنا أهمية الكتاب لنا نحن العراقيين، فالعبرة بالخواتيم، دائماً ، وأبداً.
Seth Rosenfeld, Subversives: The FBI’s War on Student Radicals, and Regan’s Rise to Power. NY: Farrar, Straus and Giroux, 2012