الطفولة هي المرحلة العمرية بين سن الرضاعة والبلوغ ، وفي علم النفس التنموي تقسم هذه الطفولة إلى عدة مراحل هي ، الطفل الصغير تعلم المشي ، الطفولة المبكرة مرحلة اللعب ، الطفولة المتوسطة سن المدرسة ، مرحلة المراهقة قبل البلوغ … وقد اشتقت مفردة الطفولة من طفيل وهو الذي يعتمد على الآخرين في معيشته ونشأته ، وفي معجم ( لسان العرب) لابن منظور ، الطفل يعني العشب القصير أو الناعم … عانت الطفولة العراقية ومنذ مطلع ثمانينات القرن الماضي من تحديات كبيرة وانعطافات اجتماعية ونفسية خطيرة ، بسبب الحروب العبثية التي خاضها النظام السابق تحت عناوين وطنية وقومية مزيفة ، ولأسباب لازال الكثير من العراقيين يجهلونها ، والتي كان للطفولة العراقية النصيب الأوفر لحصد ماسيها وويلاتها عبر طوابير من الأيتام لضحايا هذه الحروب التي لم تجلب للعراقيين غير الدمار والدماء واليتم والتخلف عن ركب الحضارة والتطور ، وكان من أهم التحديات التي واجهت الطفولة العراقية في ذلك الوقت هي غياب الرمز والقدوة والمرشد ، وخاصة في مجتمع مثل مجتمعنا العراقي ذي الصبغة الشرقية الإسلامية الذي يميل إلى النزعة الذكورية السلطوية الأحادية ، حيث يشكل الأب والأخ الكبير نقطة الارتكاز للعائلة العراقية في إدارة حراكها الاجتماعي واتخاذ القرارات المهمة والمصيرية لها والتي قد تشكل نقطة تحول مفصلية في حياة هذه الأسرة ، وهذا ما افتقدته معظم العائلات العراقية في خضم هذه الحروب فغياب الأب عن الاسرة لسنوات طولية في جبهات القتال أو مقتله في هذه الحروب ، ولد فراغ ماديا ونفسيا لدى الطفل العراقي ، لم تستطيع الكثير من الأمهات تعويضه أو احتوائه لأسباب كثيرة تعتمد على الخلفية البيئية والاجتماعية للأسرة نفسها ، أو عن القدرات الذهنية والتعليمية التي تمتلكها الأم لتمكنها من أن تلعب دور الأب والأم في نفس الوقت للتغلب على التحديات التي تواجه الأسرة في معترك هذه الحياة …
وفي تقرير لخمسة منظمات عالمية اعتبرت العراق الدولة الاولى في عدد الأرامل والأيتام حيث بلغ عدد الأيتام في الحروب الثلاث التي خاضها العراق منذ عام 1980 ولغاية حرب 2003 خمسة ملايين يتيم ، وهذا مؤشر خطير عن عظم المشكلة الاجتماعية التي عاشها المجتمع العراقي خلال هذه الحقبة ، والتي نشهد تجلياتها في الوقت الحاضر عبر الكثير من السلوكيات والطبائع الغريبة والشاذة عن مجتمعنا التقليدي النزعة ، والتي هي نتاج لحالة التفكك الأسري الذي شهدته الكثير من العائلات العراقية بفعل تلك الحروب … وقد رافقت هذه الحروب نقطة تحول اجتماعية أخرى والتي بدت أكثر خطورة من الحروب نفسها ، وهي محنة الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على الشعب العراقي وليس على نظامه كما يدعون ، وكانت الطفولة من أولى ضحايا هذه الجريمة الدولية بحق المجتمع العراقي ، فقد كان النظام يبتز المجتمع الدولي باستعراضه لنعوش الأطفال الخارجة من بوابات مستشفيات العراق آنذاك ، بحجة إنهم ضحايا نقص الحليب والدواء ، بمشهد يندى له جبين الإنسانية جمعاء لا لأنها منعت الحليب والدواء عن أطفال العراق كما كان يدعي النظام حينها ، بل لان الغرب الذي يدعي التحضر والرقي ، كان سببا بوجود مثل هكذا أنظمة دموية تتاجر بدماء ومعاناة أبناء بلدها ولم تسلم حتى الطفولة من البروبغاندا الإعلامية التضليلية التي كانت تظهرها للعالم ، لنيل مكاسب وأمجاد شخصية لرأس النظام ، لكن مشاكل الطفولة العراقية لم تقف عند هذا الحد في محنة الحصار بل امتدت إلى أدق تفاصيل حياتها كون الطفل يشكل جزء حيوي من الأسرة العراقية التي عانت من سياسة شد الحزام الظالمة التي مارسها النظام آنذاك ، فانتشرت ظاهرة التسول والعمالة والتسرب من مقاعد الدراسة لدى الأطفال ، وبدء المجتمع العراقي يألف رؤية الأطفال وهم يجوبون الأسواق كباعة متجولين أو يستجدون العابرين طلبا للمال ، لتستطيل هذه الظاهرة السلبية إلى ما بعد سقوط الصنم عام 2003 بل وتتفاقم أزمة الطفولة العراقية أكثر فأكثر بعدما تحول الطفل العراقي إلى هدف سهل للإرهاب ، ووسيلة من وسائله لترويع المجتمع العراقي وكسر شوكته وفق مفهومه في ما يسمى (إدارة التوحش ) وصدم المجتمعات المراد السيطرة عليها من قبل الجماعات المتطرفة ، وشل حركتها وسلب إرادتها عبر سلسلة من الأعمال الوحشية ، والتي من بينها قتل الطفولة على أبواب المدارس وملاعب الكرة والمتنزهات والأسواق ، ونحرهم أمام أنظار إبائهم وأمهاتهم ، في مشاهد قريبة جدا لما فعلته مليشيات جيش الرب في أوغندا أو ما جرى في رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي في تسعينيات القرن الماضي … لكن في العراق هناك مفارقة غريبة كون كل ما يحدث هو باسم الإسلام وتحت رايته وتصاحبه صيحات التكبير والتهليل ، وفي تقرير لوزارة حقوق الإنسان العراقية نشر نهاية 2013 إن عدد ضحايا الإرهاب من الأطفال في العراق وصل حتى شهر أيلول من نفس العام إلى 115 شهيد وفي عام 2011 بلغ 96 شهيد و ثلاثمائة جريح ، وفي 2012 ارتفع ليصل العدد إلى حوالي 160 شهيد وأكثر من ثمانمائة وخمسون جريح في منحى تصاعدي ذي دلالة على الاستهداف الممنهج من قبل الإرهاب لهذه الشريحة البريئة بكل المقاييس الإنسانية والشرائع السماوية والأعراف الاجتماعية ، فقد أسقطت عن الطفولة بعنوانها العريض والشمولي كل التكاليف الشرعية والحدود ولم توضع في أي خانة سوى خانة الرحمة والرعاية والرفق بها … ومن التحديات الخطيرة التي تعرضت لها الطفولة العراقية الآن هي اتساع ظاهرة اليتم بعدما ضرب الإرهاب الأعمى بأطنابه كل مفاصل الحياة العراقية وذهب ضحيته مئات الآلاف من الرجال والنساء الذين يشكلون العمود الفقري لاي لاسرة في المجتمعات الإنسانية … لكن هل الإرهاب وحده من يهدد الطفولة العراقية في الوقت الحاضر …؟..
إن الأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدها العراق ما بعد 2003 هي جزء آخر من أسباب معاناة الطفل العراقي ، فالنظام السياسي الهش والمرتبك الذي أنتجه الاحتلال الأمريكي والقائم على المحاصصة الاثنية والعرقية ، كان سببا رئيسيا في ما تعانيه المؤسسات العراقية من حمى الفساد الإداري والمالي والذي القي بظلاله على حاضر الطفولة العراقية ومستقبلها ، حيث غابت الإرادة السياسية الحقيقية عن إيجاد الحلول الناجعة لمشاكل الطفولة في العراق كالقضاء على التسول والعنف ضدهم والعمالة القسرية ، واستغلالهم من قبل الآخرين ، والاهتمام بالواقع التعليمي المزري الذي تشهده الساحة التعليمية العراقية ، من ضعف البني التحتية لها ، والإهمال الذي تعانيه رياض الأطفال والمدارس الابتدائية والتي غاب عن صفوف معظمها حتى مصابيح الإنارة ، وأجهزة التكييف البسيطة كالمراوح ، ناهيك عن الإرباك والضعف الحاصلين في وضع المناهج الدراسية ، وتحول الكثير من المدارس الابتدائية إلى أكثر من دوامين أي يكون الدوام في المدرسة الواحدة على ثلاث مراحل في اليوم الواحد ، فلا تكاد تصل ساعات الدوام الواحد إلى ساعتين فقط … فالحكومات التي تعاقبت بعد التغيير لم تأخذ على عاتقها إزالة أو التخفيف من التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق في البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي ، ومحاولة إحداث صيرورة جديدة لهذا المجتمع الذي عانى الويلات والحروب والانتكاسات على مدى الأربعة عقود الماضية ، وفق رؤية جديدة تضع في اعتباراتها بان الإنسان العراقي بكافة فئاته العمرية ، هو الهدف الأسمى وهو الغاية التي يجب ان تعمل الحكومة على توفير الأمن والرفاهية والمستقبل الجميل والواضح المعالم له ، لا كما جعله النظام السابق وسيلة لتحقيق طموحاته الشخصية وأمجاده الزائفة ، وهذا الإهمال والتغاضي الحكومي وما يشهده المجتمع العراقي بشكل عام والطفولة على وجه الخصوص سوف تنعكس سلبا في المستقبل المنظور على المشهد العراقي وتزيده سوء وتعقيدا ، فالمجتمع العراقي لم يحصد تداعيات هذه المرحلة الخطيرة بعد وكل ما نعيشه الآن هو عملية استحضار ونضوج تراكمي للمراحل السابقة التي أنتجتها الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية وفترة الحصار الاقتصادي الذي غير الكثير من ثوابت الإنسان العراقي البسيط ، الذي لم يكن يعرف معنا للغش او التزوير او الاختلاس والقتل إلا ما ندر ، باستثناء ما كان يقوم به أزلام النظام البائد بحق العراقيين من قتل وتعذيب وتكميم للأفواه ، كل هذه الأزمات انشات جيل عانى الكثيرين منه في طفولتهم التي شهدت هذه الأحداث القاسية بمعناها الإنساني ، ورسبت فيهم الكثير من مشاهد العنف والدماء والحرمان ، التي انطبعت في ذاكرتهم الجمعية وظهرت تجلياتها في الفوضى التي شهدها العراق بعد سقوط الصنم عام 2003 وانتشار الفوضى والعنف والإرهاب والفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة العراقية والتي كانت طفولة الأمس القريب جزء منه … الطفولة العراقية تعيش الآن بين مطرقة الأرهاب وسندان الازمات ومخلفات الحروب ،
وهي بحاجة إلى مد يد العون إليها من جميع فعاليات المجتمع ، الحكومية والدينية والنخب والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني ، الطفولة العراقية تعيش الآن حالة من الاحتضار النفسي وهي مهددة بوجودها كجزء من هذا المجتمع الذي يحاول التشبث بالحياة بالرغم عظم التهديد الذي يعيشه ، الطفل هو نتاجنا وصنيعتنا نحن الكبار بشتى توجهاتنا ومشاربنا فلكي نصنع مستقبل أفضل لهذا البلد المنكوب يجب علينا الاهتمام بعماد هذا المستقبل وهم أطفالنا … وفي مقولة جميلة للمفكرة وعالمة الاجتماع الأمريكية دورثي لونولت حول الطفولة تقول فيها …(حينما يعيش الطفل التشجيع يتعلم الإقدام ، حينما يعيش الطفل المساواة يتعلم العدالة ، حينما يعيش الطفل الأمان يتعلم الثقة بالنفس ، حينما يعيش الطفل الاستحسان يتعلم تقبل الذات ، حينما يعيش الطفل التسامح يتعلم الصبر … لكن حينما يعيش الطفل الإدانة يتعلم الاتهام ، وحينما يعيش الطفل الشعور بالعداء يتعلم العنف ) … ولاخير هو ما لانريده نحن العراقيون لأطفالنا ان يتعلموه ، بعد هذا السفر الطويل من العنف الذي عشناه مرغمين في هذا الوطن الجريح .