18 ديسمبر، 2024 8:10 م

الطفل الذي كان أنا…- 1-

الطفل الذي كان أنا…- 1-

كانت الرياح الباردة تداعب وجه أحمد بقسوة ظاهرة وهو يقف على جانب الطريق السريع قبل الفجر بساعتين. خرج من البيت بعد أن كتب ملاحظة لشريكة  حياتهِ  التي كانت لاتزال تغط في نومٍ عميق ..” سأذهب الى جذور الطفولة هناك عدة أيام..أشعر بألأختناق في هذا الجو الذي أعيشه كل يوم على وتيرةٍ واحدة منذ أكثر من أربعين عاماً..أرجو أن لاتقلقي علي لأنكِ تعرفين أين سأقضي تلك ألأيام القليلة أحتاج الى ” فرمتت ”  ذاتي بعد كل هذه السنوات. تركتُ لكِ مايكفيك من نقود عند زاوية المكتب الصغير..أحبك…” . كان أحمد يقف وحيداً عند جانب ذلك الطريق الطويل. بالحقيقة لم يكن قد قرر الذهاب إلى أي مكان لكنه أراد الذهاب الى أي مكان من خلال هذا الطريق الطويل. الشارع خالٍ من حركة أي عجلة في تلك الساعة التي تسبق الفجر بساعتين. بين فترة وأخرى كانت تمر شاحنة كصاروخ ينطلق نحو الفضاء الفسيح. مرت الدقائق ألأولى بطيئة كأنها دهر من زمنٍ ليس له وجود . من بعيد شاهد  ضياء سيارة صغيرة لم يحدد شكلها تخترق ظلام الليل كسفينة تبحر في بحرٍ متلاطم ألأمواج. رفع يده لعلها تقف أو هذا ماكان قد فكر فيه. مرت السيارة من أمامه بلمح البصر دون أن تعيره أدنى أنتباه. إنكمش قلبه وشعر أن هذا العالم يدور بعجلات متسارعة دون أن يهتم لوجوده أحد. أحس أنه زائد عن الحاجة في هذه الظروف العصيبة. عقد العزم أن يسافر إلى أي مكان ولو لأيامٍ قليلة لعله يستعيد نشاطه ولو بعد حين. وضع حقيبته الصغيرة على ألأرض وجلس عليها واضعاً رأسه بين يديه مسترسلاً في همومٍ ليس لها قرار. رفع رأسه حينما سمع أن هناك سيارة تعود الى الوراء لتقف قربه. تبادر الى ذهنه صوتاً جميلاً يصرخ في جنح الليل ” ..عمو..تعال . ركض صوب السيارة حاملاً حقيبته في يده اليسرى. في اللحظة التي إقترب فيها من مقدمة السيارة فُتح الباب ألأمامي وقالت سيدة بصوت مؤدب جداً ” ..تفضل عمو..هل تريد أن تذهب أنا ذاهبة الى السماوة ..هل طريقك في نفس طريقي؟” في اللحظة التي إستقر فيها أحمد قال بهدوء ” ألف شكر..لم أتوقع أن يقف لي أحد في هذه الساعة. عاجز عن ألشكر ” . ضحكت المرأة وهي تردف قائلة ”  لم أكن أنوي الوقوف حقا لكنني شاهدتك واقفاً هناك وقلت مع نفسي ربما يكون لي رفيق طريق لساعات قليلة. عادة لا أقف لأي إنسان حينما أكون مسافرة لمسافة لاتقل عن أربع ساعات أو أكثر..لا أعرف لماذا وقفت..حقاً لا أعرف” .

لفهُما صمتٌ مطلق . لم يكن هناك أي صوت عدا صوت محرك السيارة  وصوت مطربه  لبنانية أو سورية تغني للحب للحياة لمعاناة ألأنسان في زمن لم يكن محدداً لأحمد في تلك اللحظة. مضت أكثر من 20 دقيقة دون أن يتكلم أي واحد منهما. كانت ماهرة جداً في قيادة العجلة والغريب أن أحمد كان ينظر الى يدها وهي تغير مبدل حركة السيارة وسرعتها..لم تكن تقود سيارة ذاتية تبديل السرعة كما تفعل أغلب النساء. قالت بصوت جميل ” عفوا سيدي ممكن أن تمد يدك وتجلب حافظة الشاي تلك الموجودة على المقعد الخلفي ..توجد أقداح بلاستيكية قربها” . بسرعة البرق جلب أحمد حافظة الشاي وسألها فيما إذا كانت تريد أن يسكب لها قدحاً من الشاي لأنها كانت منهمكة في قيادة السيارة ..حينما أشارت له بذلك راح على الفور يسكب لها الشاي وطلبت منه أن يخدم نفسه بنفسه. رائحة الشاي الرائع أعادت له حيوية لم يشعر بها منذ لحظة خروجه من البيت. كانت تحتسي الشاي وهي تقود عجلتها بطريقة ماهرة جداً . قالت ” لاأستطيع السفر الى أي مكان دون أن أجلب حافظة الشاي هذه معي ..بدونها أشعر بالضياع والنعاس في نفس الوقت..شكراً لمن صنع الشاي ..كم أحب الشاي ” . بلا مقدمات قال ” …هذه أول مرة أستقل سيارة في هذا الوقت وسائقها إمرأة. شيء غريب بالنسبة لي حقاً . لماذا تسافرين لوحدك ألا تخافين من الطريق وأنتِ تقطعين كل هذه المسافة دون رفيق سفر ؟ ”  ضحكت المرأة بصوت كأنه موسيقى وشعرت أنه يلاطفها لابل يغازلها. ” .. ولماذا أخاف تقصد قطاع الطرق أو ربما حوادث غير مترقبة. ؟ من يهاجمني أهاجمه ولدي سلاح قربي..أما بالنسبة للسيطرات فلا أخافها مطلقاً لأنني موظفة حكومية ذاهبة الى مقر عملي وقد إعتادت أغلب السيطرات على مشاهدتي كل أسبوع لأنني أذهب وأعود كل 10 أيام. بالمناسبة لدي تصريح رسمي بحمل السلاح . أنا طبيبة أعمل في إحدى المراكز الصحية في المحافظة منذ ثلاث سنوات ” .

تنهد أحمد بصوتٍ مسموع كأنه أراد بذلك أن يلفظ كل شيء في هذه الحياة . قالت بصوت ساحر ” …واو ..يبدو أن هناك شيء كبير مؤثر جعلك تطلق هذه التنهيدة بهذه الطريقة المأساوية  ”  إنتبه أحمد لحاله وراح يعتذر منها لأنه لم يكن يقصد أي شيء. أردفت قائلة ” لا عليك . الحياة متعبة تحتوي على أشياء مرهقة للروح البشرية وعلينا أن نتحمل كل شيء من أجل مواصلة هذه الحياة. نحن مجبرون لتحمل أي شيء . هذه هي الحياة .”  خيم الصمت عليهما مرة أخرى. كان الطريق سالكاً جداً . كانت سرعتها لاتتجاوز 100 كيلو في الساعة . مزقت غطاء الصمت حينما  وجهت له أسئلة كالسيل الجارف لدرجة أنه ضحك قليلاً وهو يحاول متابعة أسئلتها بدقة متناهية .  ” إمنحينني وقتاً للإجابة…” قال ذلك وهو يحاول السيطرة على نفسهِ من مواصلة الضحك.

–          حسناً خذ وقتكِ ..أردتُ فقط السيطرة على الصمت الذي يسود بيننا من وقتٍ الى آخر. إذا بقينا صامتين سأنام لأنني أشعر بنعاس شديد ولاأدري كيف سأصل الى موقع عملي .” .  وراحت تبتسم في محاولة لتلطيف الجو.

–          أصدقك القول منذ فترة طويلة بدأت أشعر بالحنين المطلق الى مسقط رأسي حيث الطفولة والصبا والشباب . أحاول أن ازور تلك القرية البعيدة لأنني أشعر أنها جزء من روحي , مهما حاولت نسيانها ونسيان تلك الذكريات الجميلة التي قضيتها هناك أشعر بالاندحار. لقد تركتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً لكنني لاأسطيع تجاهلها مهما حاولت . هل هو شيء طبيعي أم أنني أشعر بمرض الحنين المطلق الى الماضي البعيد ..لا أعرف صديقينني. أحياناً تقول لي شريكة حياتي بأن أتخلى عن فتح نوافذ الماضي البعيد كي لايؤثر على حالتي النفسية . أعرف أن كلامها صائب ولكن لا أستطيع هل هذا يدخل ضمن ألأمراض النفسية التي يعاني منها ألأنسان أم  أن هذا شيء طبيعي لا أعرف .”

تناولتْ سيكارة راقية من علبتها القريبة من مقود السيارة . قدمت له واحدة إلا أنه ظل ينظر الى يدها وكأنه لا يصدق أن هذه المرأة الجميلة تدخن السكائر. إبتسمت وهي تشير الى سكارتها بسعادة وقالت ”  هذه من أفخر السكائر الموجودة في بلدنا..لقد تعودت على التدخين منذ اليوم الذي فقدتُ فيه زوجي وولدي في إلأنفجار المروع الذي حدث في وسط العاصمة قبل فترة. كنتُ في المركز الصحي وشاهدتُ ألانفجار على شاشة التلفاز . شاهدت والدتي تصرخ وهي تحتضن صورة ولدها أي زوجي. لم أبكِ في البداية – صدقني لكنني شعرت أن كل جسدي يرتعش  وشعرتُ ببرودة غريبة في مفاصلي. إعتقدتُ أنني فقدتُ عقلي لأنني لم أصرخ ولم أذرف دمعة واحدة لدرجة أن زميلتي الطبيبة معي ظنت أنني فقدت عقلي الى ألأبد. في اليوم التالي تركت المركز الطبي دون أن أخبر المدير. لم أعد أهتم لأي شيء. حينما أصبحت على الطريق السريع باتجاه بغداد كنتُ أقود السيارة بأقصى سرعة لدرجة أنني لم أهتم لأي سيطرة على الطريق ولحقت بي سيارات الشرطة عدة مرات. كانت دموعي تنهمر بغزارة من السماوة الى بغداد لم تتوقف لحظة لدرجة أن الدموع كانت تمنعني من رؤية الطريق بصورة جيدة. لاتقل لي أن التدخين مضر بالصحة..لم أعد أهتم لأي شيء. في البداية قررت أن أترك العمل وأظل حبيسة الدار بقية عمري لكنني في النهاية عرفت أن الحياة مستمرة ولن تتوقف عند فقدان شخص عزيز أو أكثر. أنا لستُ محتاجة لراتبي أبداً لأن زوجي كانت لديه شركة كبيرة ولازالت تعمل حتى هذه اللحظة وعينت شقيقي كمدير لها بعد فقدان مالكها أي زوجي. أشعر لا بل متأكدة أن العمل مهما كان نوعه هو الحياة بذاتها . من لايعمل مسكين حقاً لأنه يشعر بالضياع التام من كافة النواحي. بإمكاني الهجرة الى أي بلد في أي لحظة وتصلني ألأموال دون أن أبذل أي جهد لكنني لا أجد متعة في الهرب من بلدي مهما كانت الحياة فيه متعبة. لاتقل – بطرانه – أو شيء من هذا القبيل لأنني تعودت سماع هذه الكلمة عشرات المرات. ”  أخذ أحمد من يدها السيكارة التي قدمتها له وراحا ينفخان الدخان في فضاء السيارة المغلق دون أن يشعرا برائحة الدخان.

عاد نداء الصمت يحيط بهما من جديد بيد أن أحمد قرر أن لايدعها تتوقف عن الحديث معه مهما كلف ألأمر. كان يشعر أن صوتها وطريقة حديثها وطبيعتها في التعامل مع ألأحداث تجعله ينسلخ عن واقعه المزري الذي يعيش فيه منذ فترة طويلة. وجد فيها شيء آخر لم يجده في بقية النساء التي إختلط بهن يوماً  ما في الدراسة أو العمل أو البيت. نعم الفترة التي قضاها معها فترة قصيرة لاتتعدى نصف ساعة أو أكثر لكنه يشعر أنه يعرفها منذ أن جاء الى هذه الحياة ..أليس هذا شيء غريب !! .  كانت هناك عشرات ألأسئلة تدور في ذهنه يتمنى أن يطرحها عليها لكنه يخشى أن يسبب لها بعض الحرج أو الضيق وباتالي يفقدها الى ألأبد  – ولو أنه لم يكن قد إستحوذ عليها بعد . بين فترة وأخرى كان أحمد يتطلع الى ساعته لدرجة أنها قالت بطريقة استفزازية يشوبها نوع من الدلال المصطنع ” ..يبدو أنك متضايق بعض الشيء وتتمنى أن تصل الى المكان الذي تروم الوصول إليه بسرعة…..هل رفقتي معك تسبب لك بعض الضيق؟ قل بصراحة لاتخشى أي شيء ”  وراحت تضحك بصوت مكتوم. راح يدافع عن نفسه بطريقة منطقية بل أخبرها من أن رفقتها تسبب له إنشراح كبير لأنه يشعر أنه كان ينسلخ عن الواقع الذي يعيشه ومن ثَم سببت له هذه الرفقة نوع من الهروب المطلق الى عالم جميل من خيال ليس له قرار. كانت تقود أطراف الحديث بدقة متناهية وحذره جداً من الإشارة الى أي شيء من الأشياء الشخصية التي تعود لها ولعائلتها . سألته بجرأة عن عدد الفتيات اللواتي لعبن دوراً مؤثراً في حياته منذ الطفولة والصبا والشباب وكيف آلت إليه ألأمور. ذكر لها بأن هناك ثلاث فتيات كان لهن تأثير معين على حياته كل واحدة تمثل دور محدد من هذه الحياة . حينما أصرت على سماع حكاية كل واحدة على حده وباختصار إنصاع لها بطريقة – الطفل المطيع الذي لايستطيع مقاومة حاله من الحالات الي تواجه ألأطفال في زمن ما ووضع محدد . ذكر لها حكاية الطالبة التي كانت معه في نفس الصف في كلية ألآداب وكيف شعر تجاهها إلا أنها قبل التخرج بسنة تركته وتزوجت ضابط ميسور الحال على الرغم من أنها لم ترتبط به نتيجة حكاية حب أو مشاعر أخرى لكنها أرادت ألاستقرار وإنهاء حالة الفقر التي كانت تقض مضجعها ليلاً ونهاراً. شرح لها كيف أنه شاهدها يوماً ما في أحد ألأسواق الراقية مع أطفالها الثلاثة وزوجها الضابط الذي يكبرها بعدة سنوات. وذكر لها حكاية الفتاة التي كانت في كلية آخرى إلا أنه تزوجها وكان يحبها ايضاً وهي الآن شريكة حياته. سكت قليلاً ثم ذكر لها حكاية فتاة آخرى لازالت تلعب دوراً خيالياً في حياته على الرغم من أنه يكبرها بسنوات. هي فتاة إفتراضية من عالم الخيال لكنها تؤثر على حياته الشخصية بطريقة عجيبة. حينما سمعت كلمة – إفتراضية – صرخت ضاحكة بأعلى صوتها وهي تقول ” .. إفتراضية ؟؟ ماذا تقصد ؟ هل تعني من عالم النت وماشابه ذلك ؟” شعر أنها تسخر منه لابل تحاول المساس بعالمهِ الجميل الذي يسبح فيه منذ زمن لابأس به. حاول أن يواجهها بكلام يوازي طريقة ضحكها  أو ردعها بطريقة مؤدبة تعيدها الى حساباتٍ آخرى. مسك إضطرابه وإنفعالاته الشديدة وقال بهدوء ”  وما هو الضير أو الضرر من ذلك هل إرتكبت جريمة من جرائم العصر الحديث أو إخترقت حقاً من حقوق المواطنة في وطنٍ لايعترف أصلاً بحقوق أبنائه من كافة الشرائح …”  رمقته بنظرة خاطفة وقالت بطريقة متلعثمة ” ..عفواً لا أقصد هذا أو ذاك لكنني مندهشة لهذا ألآمر. كنت أتصور في البداية أنك لم تقترب أو تعرف أي شيء عن هذا العالم الذي يطلق عليه بالعالم ألافتراضي ..أو لنقل لديك إهتمامات آخرى وهذا العالم لايصلح إلا للمراهقين ومن ليس لديهم شي يفعلونه سوى الجلوس ساعات طويلة أمام الشاشة الكاذبة لقتل الوقت. أنا لاأخفيك سراَ أجلس كثيراً أمام الشاشة لكنني أستخدمها في أعمال لها علاقة بعملي ..صحيح لدي موقع وأتحدث أحياناً مع بعض ألأشخاص من كلا الجنسين عن طريق وسائل التواصل الأجتماعي كما يطلقون عليه في هذا الزمن لكنني لايمكن أن أجعل هذا شيء يؤثر على حياتي لأنه عالم مزيف خيالي مئة في المئة ولن تجني منه إلا الويلات إن كانت علاقاتك مع الجنس الآخر جدية ..أستطيع أن أقول وبثقة إحذر من هذا الموضوع “.  شعر أحمد بعدم الارتياح قليلاً لأنها بدأت تجره الى عالم الواقع رويداً رويداً وكأنها تحاول تمزيق عالمه الخيالي الذي يسبح فيه منذ فترة ليست بالقصيرة.  شعرت هي الآخرى بما كان يشعر به لكنها إحترمت صمته المفاجيء وتظاهرت بالانشغال بتغيير الموسيقى . كان الشارع يخلو من جميع المركبات وكأنهما يسيران في صحراء غير متناهية الأطراف. هدير المحرك هو الصوت الوحيد على ذلك الطريق الطويل. من بعيد راحت تباشير الصباح تنفلق وتظهر ألأشياء على جانبي الطريق كأنها أشباح. دون أن تنبس ببنت شفة أدارت عجلة القيادة الى الجانب الأيمن من الطريق حيث محطة الوقود . في اللحظة التي إستقرت فيها السيارة بالقرب من مكان تعبئة الوقود قالت بصوت جميل ”  عفواً سيدي يجب أن نتزود بالوقود لأنني لا أستطيع فعل ذلك طيلة تواجدي في العمل..هذه فرصة لك لأستنشاق هواء الفجر الجميل ستشعر بالنشاط والحيوية صدقني . حينما قفز الى الأرض عصفت على وجهه رياح الشتاء الباردة وجعلته يرتعش من شدة البرد. راح يحرك ذراعيه كأنه يريد تدفئتها بطريقة ما. كانت سريعة ونشطة جداً في التعامل مع عامل المحطة وراحت تتمازح معه وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد . كلما تقدم الزمن كان يشعر معها بنوع من التآلف العجيب . قبل أن تسلم النقود الى عامل المحطة إقترب منه شاب مراهق وهو يقول له ” عمو تشرب شاي ..حار ..ورائع ؟ أشار له بالإيجاب  . شرع الشاب بسرعة البرق يسكب له قدحاً من حافظة الشاي التي يحملها بطريقة إحترافية. طلب أحمد أن يسكب له قدح آخر لرفيقة طريقه. في اللحظة التي عادت فيها الى السيارة سلمها أحمد قدحها. ضحكت وهي تقول ” ..شاي !! لدينا الكثير في هذه الحافظة. مع هذا شكراً ” . وهي تحتسي رشفات من ذلك القدح قالت ” عادة لاأشرب أي شيء في الطريق خوفاً من عدم النظافة وماشابه ذلك لكنني لا أعرف لماذا فعلت الآن وراحت تضحك بطريقة هادئة. هو الآخر اخبرها بأنه لايفعل ذلك على الأكثر لكنه اراد أن يشجع ذلك المراهق الذي ينتظر الزبائن قبل الفجر بساعات . بعد فترة صمت لاتتجاوز الدقائق قال ” ..هل تعرفين أنني أحترم اؤلئك الشباب والأطفال الذي يبيعون الشاي في الصباح الباكر عند المستديرات والساحات العامة لأنهم يعملون بشرف وكرامة وأفضلهم على أغلب المسؤولين الكبار الذين يسرقون أموال الشعب تحت حجج وذرائع لاتنتهي . شيء مرعب حقاً أن بلدنا يملك هذا الكم الهائل من الخيرات لكننا نعيش كأننا شحاذين اليست هذه معادلة غريبة ؟”  قالت بسرعة ” بالله عليك إترك موضوع السياسة لأننا إن دخلنا فيه لن نصل الى نهاية موفقة ..أتمنى أن نعود الى مواضيع تجلب لنا سرور وإثارة وتجعلنا ننسى أشياء سلبية كثيرة في مجتمعنا  ..لا أريد أن أصل الى العمل وأنا حزينة بسبب موضوع سياسي تافه لايجلب إلا الحزن. سأصل بعد ساعة أريد أن اكون نشطة في الصباح. ”

صرخ بصوت مرعب كأن مساً من الجنون قد تلبسه ” .. يا للمصيبة..تصلين بعد ساعة..توقفي رجاءاً ..سأعود الى طريقي” . اندهشت لصراخه وهي تقول ” ياستار ماذا حدث هل تشعر بشيء ؟؟”  دون أن يهتم لكلامها قال بحزن ” كيف سأعود في هذا الوقت لقد تجاوزنا مكان الهدف بساعتين..القرية البعيدة صارت خلفنا بساعتين…” بلا وعي أوقفت السيارة بسرعة وهي تصرخ كالمجنونة ” واو..واو…لماذا لم تخبرني من قبل هل نسينا أنفسنا أم ماذا ”   وضعت رأسها على مقود العجلة وهي لاتعرف ماذا تفعل. قفز أحمد من السيارة وأوصد الباب دونه. ركض الى الجانب الآخر من الطريق في محاولة لأيجاد أي سيارة تعود في نفس الطريق. حينما شاهدته يقف على الجانب الآخر من الطريق ادارت عجلة القيادة بسرعة البرق كأنها في سباق مع الزمن. أثارت عجلات السيارة صوتاً مرعباً وهي تستدير. أوقفت السيارة ملاصقة له وقفزت منها وهي تصرخ في وجهه ” هل أنت مجنون كيف ستعود لاتوجد سيارات الآن تمر من هنا إلا بعد فترة .. ستشرق الشمس بعد نصف ساعة. تعال الى السيارة سنجلس قليلاً ونفكر في حل لهذه المشكلة” . ظل واقفاً كأن الطير على رأسه..كان يرتعش من شدة الغضب على نفسه. بلا مقدمات سحبته بقوة من يده اليسرى وهي تصرخ ” تعال لاتكن عنيداً ..أكره الرجل العنيد…”  إنقاد لها كطفل لايعرف ماذا يفعل. في اللحظة التي جلست فيها خلف المقود أخذت سيكارة وقدمت له واحدة أخرى . وهي تنفث دخانها خارج النافذة نظرت إليه وفجأة إنفجرت ضاحكة.  ظل ينظر إليها حتى سكتت ومن ثم أردف قائلاً بحزن شديد ” لاأعتقد أن الموقف يدعو للضحك…”  قالت وهي لاتزال تضحك بصوت مرتفع ” ..عفواً لاأقصد هذا ..لكن الأمر حقاً يدعو للضحك ..أو ربما النحيب ..لاتهتم ياصديقي الواقعي وليس الافتراضي..سأخرجك من محنتك مهما كان الأمر…” صرخ بغضب ” كيف…كيف؟؟؟؟” . أخرجت هاتفها النقال وراحت تعزف على أرقامه بسرعة كبيرة .

–          الو..الو…. دكتورة سعادة..كيف حالك..وصلت الى منتصف الطريق لكنني نسيت أن أجلب كافة المستندات المطلوبة ..سأعود الى البيت..لا أعرف ربما أحضر غدا أشعر بالنعاس وألأرهاق الشديدين..أرجو أن تبلغي المدير هذا الكلام..لاتخافي لن يحدث شيء وإن حدث الى الجحيم ..سئمت كافة تصرفات البعض…مع السلامة. “. في اللحظة التي أغلقت فيها هاتفها صرخت ” ..واو..نعم..نعم…ستكون مغامرة جميلة لي هذا اليوم. ”  أخرجت دفتر ملاحظاتها وسلمته الى أحمد وهي تقول ” خذ هذا القلم وأكتب عنوان قريتك البعيدة…سأذهب معك ..أريد أن أراها وليحدث مايحدث..أريد أن أغير هذا الروتين القاتل الذي يحيط بي منذ سنوات. ”  بين متعجب ومندهش ومرتبك خطَّ لها العنوان بدقة. شرعت تحفظ العنوان لعدة دقائق وكأنها تستذكر دروسها قبل الامتحان بدقائق.

وضعت الدفتر امام عجلة القيادة وانطلقت بأقصى سرعة. لعدة دقائق لم ينبس أحدهما ببنت شفه. كان أحمد منهاراً حزيناً لهذا الخطأ الذي سبب له كل هذا الألم..شعر بذنب ليس له مثيل. أحست بألمه لذلك قررت أن تفعل شيء. قالت ” ..أنظر كم أن شروق الشمس جميل في هذه اللحظة..الشمس كأنها لوحة فنية..حقاً شروق الشمس رائع..كم أعشق هذا الوقت من الصياح ” .  تنهد بصوت هاديء كأنه يضع كل اسراره في تلك التنهيدة على الطريق الطويل. دون أن تلتفت إليه قالت ” حدثني عن صديقتك الافتراضية…كيف تعرفت عليها..ما اسمها..الى أي عائلة تنتمي..من أي مدينة..ماهو عملها..كم عمرها..هل هي متزوجة..كم طفل لديها..تحصيلها العلمي ..كل شي..لو لا حديثك عنها وعن أشياء اخرى لما وصلنا الى هذه الحاله. ” وراحت تضحك مرة أخرى. قال بهدوء ” ..لا أعرف أي شيء عنها..لم تحدثني يوماً عن حياتها الشخصية..لا تريد أن يعرف عنها أي صديق افتراضي أي شيء عن حياتها. هي محقه في هذا. كل ما أعرفه عنها أنها تعمل في صيدلية حكومية في مركز صحي أو مكان خاص لا أعرف في أي مكان من المدينة. كل ماكتبته في صفحتها كلمة – صيدلانية – حاولت عدة مرات أن أسالها عن حياتها لكنها ذكية جداً في الجواب الدبلوماسي..لاتريد أن يزعل منها أحد ولا ترغب أن تزعل من أحد. أشعر ن لديها شخصية قوية جداً ليست سهله كما أشعر به تجاه الفتيات الأخريات . أنا لا أعرف إن كانت متزوجة أم لا. لا اعرف في أي منطقة تسكن وكل ما أعرفه أنها في العاصمة. ”  رمقته بنظرة خاطفة وهي تدندن بأغنية لمطربة لبنانية مشهورة. وهي تحاول إجتياز مركبة طويلة قالت بصوت هاديء ” هل تحبها ؟ ” إرتعش أحمد لهذه الكلمة . شعر أنها تريد تعريته على حقيقته لا بل تجاوزت الخط الأحمر لرفقة الطريق. كررت عليه القول ” هل تحبها أم ماذا ؟” . قال بصوت منخفض لكنه مسموع ” ..لا أعرف..هل أحبها أم هناك شيء آخر . وما فائدة الحب في حكاية كهذه ؟  هي مجرد إسم افتراضي خلف شاشة وهمية ..”   اردفت قائلة ” .لنطرح السؤال بطريقة أخرى…ماهو الشيء الذي جذبها اليك..جمالها أم صفة أخرى جعلتك تفكر فيها أو لنقل تهتم بها دون الصديقات الأفتراضيات الأخريات ؟ ينبغي أن تكون صادق مع ذاتك وإلا فأنك كاذب أو شيء آخر…”  بلا تفكير خطف علبة سكائرها من أمام مقود السيارة وسحب سيكارة وهو يقول لها ”  هل تريدين واحدة ؟ ”  قالت بسرعة ” ..جرا كه نه  ؟” صاح بتعجب ”  ماذا تعنين …لم أفهم هذه العبارة  ؟ ”  صاحت وهي تضحك ” المعذرة هذه عبارة ترددها والدتي على الدوام…حينما يسألها شخص ما ..جرا كه نه.. وتعني بالفارسية لماذا لا..سافرت عدة مرات الى إيران مع مجاميع سياحية وتعلمتها..يبدو أنني بدأت أرددها مثل الببغاء..المعذرة ” في اللحظة الي سلمها السيكارة قالت بسرعة ” شكراً جزيلاً ” إلا أنه قال بسرعة ” ..خواهش ميكنم ”  نظرت إليه بسرعة وهي تقول ” ..ماذا ..لم أفهم هذه الكلمة …” قال ” بالفارسية ” عفواً…” ضحكت بصوت مرتفع وهي تقول ” يبدو أنك أعدت لي ماكنت قد فعلته بك ..”  شرح لها كيف أنه تعلم بعض العبارات من النت وماشابه ذلك.

إستمرت السيارة تنهب الطريق نهباً كأنها في سباق مع الزمن. طلبت منه أن يشرح لها برنامجه حينما يصل الى القرية البعيدة. أين سيذهب ..مع من سيتحدث..الى أي مكان ينوي الذهاب ؟ أرادت أن تعرف كل شيء . أخبرها بأنه سيتصل بأحد أبناء صديق طفولته لينتظره في مكان محدد عند بداية القرية البعيدة لأنه إعتاد على البقاء في بيتهم طيلة زيارة القرية البعيدة . كما أخبرها بأن كل أبناء القرية يتمنون أن يبق في بيت أحدهم لكنه يفضل المكوث في ذلك البيت لأعتبارات نفسية كثيرة. ..وسيذهب لزيارة كافة المناطق التي إعتاد أن يلعب عندها حينما كان طفلاً حيث بيتهم الطيني كان هناك. قاطعته بسرعة ” وماذا عني ؟ كيف سأتعامل مع الوضع حينما نصل؟ هل أوصلك وأعود أم أبق معك وأتعرف على جميع أصدقاؤك ماذا سيقولون عني وكيف عثرت علي هذه أشياء مهمة بالنسبة لي كي أعرف كيفية التصرف والحديث .  ؟ بلا تردد قال ” هذا الأمر يعود لكِ..هل تريدين أن أقول الحقيقة بتفاصيلها أم لديك إقتراح أخر. حينما تكونين معي سينظرون إليك بكل إحترام وتقدير ولن يسألوا من أنت إلا بقدر التعارف وهل أنت من الخط الأول من أقربائي لاشيء آخر…”

ظلت تفكر لبعض الوقت بطريقة جدية . على حين غره قالت ” إسمع ياسيدي..أتمنى أن تقول لهم بأنني زوجة أحد أصدقاؤك المقربين جداً  وأرسلني معك لثقته المطلقة بك لأنه لايثق بأي أحد سواك. هو يريد أن يشتري أرض في هذه المنطقة أو المناطق المجاورة  وأنت لاتعرف فيما إذا كانت هناك أراضٍ للبيع لذلك جئت معي لتسأل أصدقاؤك في هذا المكان. إن وُجدت الأرض سنعرف المكان والسعر ولا نتخذ أي قرار إلا بعد أن نعود الى زوجي ليدرس الأمر. هو يحتاج الى أرض زراعية مناسبة أو لبناء مصنع صغير لمواد البناء. ماهو رأيك ” صرخ أحمد وهو يبتسم ” ..واو..يالكِ من ذكية في هذه الأمور..موافق….” ضحكت وهي تقول ” هذا إطراء جميل..على بركة الله..من يدري ربما نشتري أرض ..من يدري. ” . صمت أحمد بعض الوقت ثم أردف قائلاً ” ..هل تريدين أن نذهب لوحدنا قبل أن نتصل بصديقي أو إبنه..أنا أعرف كل شيء عن المنطقة ولا أحد يعترضنا..وإن إعترضنا أحد سنكشف عن هويتنا وماشابه ذلك  ” . قالت فرحة ” ..رائع ..نذهب لوحدنا قبل أن نتصل بهم..ستشرح لي أي شيء عن المنطقة..مكان طفولتك وذكرياتك ..أي شيء…من يدري ربما أتعلق بالمنقطة ” . أخرج أحمد تلفونه وراح يتصل بصديقه ” ..هلو فلاح كيفك..سيكون غدائنا في بيتك إن شاء الله..مع شخص واحد..أرجو أن لاتكلف نفسك  ..سنعود في المساء .” في الطرف الآخر كان هناك صوت منفعل يصرخ ” أهلاً وسهلاً في أي وقت..هل أرسل لك ولدي ليصطحبكما ..حينما تصلا المكان المتفق عليه إتصل بي مع السلامة ” . إبتسمت فرحة بكلام صديقي وشعرت بنوع من الارتياح. قالت ” أشعر بجوع شديد..سنقف عند أي مطعم جيد ونتناول الفطور الصباحي ” . فرح أحمد لهذا الموضوع لأنه كان يتضور جوعا هو الآخر. عند أحد المطاعم السياحية أوقفت سيارتها وتوجها الى صالة العوائل. طلب أحمد كباب وطلبت هي فطور خفيف. كانت الصالة هادئة في ذلك الوقت . شعر أحمد أن حالته النفسية بدأت تتحسن وهو ينظر الى حركة المارة على الطريق السريع وحركة العمال الشباب وهم يتسارعون لخدمتهما. فجأة قال ” عفواً سيدتي لم أعرف أسمك…حتى هذه اللحظة ” . ضحكت وهي تقول ” ماذا يفيدك إسمي..إطلق علي أي إسم..أقبل به .”  قال بسرعة ” حسناً سأطلق عليك إسم..إنبلاج..وهو مرادف لشروق الشمس..لأنك إنبلجتِ أمامي في زمن لم أتوقعه مطلقا ” .  ضحكت بصوت رائع وهي تقول ” إنبلاج..واو..إسم جميل جداً ”  منذ تلك اللحظة صار يدعوها بهذا الأسم وهي تعودت عليه كأنه إسمها الحقيقي .

يتبع….