هذه الثلاثية التفاعلية تصنع القوة والإقتدار , وتُطلق الطاقات الحضارية وتحققها في واقع الحياة , وتؤكدها بالسلوك المتواصل.
ومن الواضح أن البشرية لم تتمكن من إبتداء خطواتها الحضارية إلا بعد أن تحررت شيا فشيئا من قيود البحث عن الطعام , فحالما تعلمت الزراعة وإستقرت , وجدت الوقت الضروري للإنشغال بمفردات الإبداع والتفاعل الخلاق مع المكان.
وكلما تحررت المجتمعات من أسر البحث عن الطعام , كلما تقدمت وتطورت.
فالمجتمعات المتأخرة تستنزف وقتها في البحث عن الطعام وتوفيره , وإرضاء الحاجات التي تتكبل بها , وتُمارَسُ عليها كوسيلة للحكم.
وقد أدرك الصينيون أهمية الطعام بعد أن قاست بلادهم من المجاعات , وأعلنوا أن الطعام أولا , فالمجتمعات التي لا تُطعم نفسها لا يمكنها أن تحقق شيئا نافعا , ولذلك تم الإهتمام بالزراعة وصناعة الطعام , حتى صار لديها الفائض منه , وبذلك تحرر أبناؤها من قيد البحث عن الطعام , ووجدوا الوقت الكافي للإبداع فتقدمت بسرعة غير مسبوقة.
ومجتمعاتنا لا تزال تعاني من هذه المشكلة التي تتعضل وتتعقد , فتعتمد على غيرها لإطعامها , والذي يُطعم يَستعبد الذين يُطعمهم ويوفر لهم القوت , فيتحولون إلى تابعين له.
ولن تتمكن المجتمعات من إحراز التقدم إذا عجزت عن إطعام نفسها , وإتكلت على غيرها لإطعامها.
كما أن الشراب بأنواعه ضروري لحياة البشر , سواءً كان ماءً صالحا للشرب أو مشروبات غازية وغيرها من المشروبات التي يتناولها الناس , ونعرف أن المجتمعات المتأخرة تعاني من عدم توفر الماء الصالح للشرب , بل أنها تعادي أنهارها ولا تفهم في الإستثمار بثرواتها المائية , مما جعلها معرضة لآفات الجفاف والعطش وعدم القدرة على النماء.
وبعد أن يتوفر الطعام والشراب , ويهدأ روع البشر , يبدأ بالخروج من أسره البقائي والتجوال في فضاءات المعرفة والإبداع , وهنا يأتي دور الكتاب والثقافة والمعرفة التي يحتاجها بعد ان توفر له الطعام.
وبما أن البحث عن الطعام قيد ثقيل في معاصم المجتمعات المتأخرة , فأنها لن تتمكن من الإنتقال إلى مسارات التقدم والعطاء الإبداعي الحضاري الأصيل , لأنها تريد أن تأكل وحسب , وهذا أقصى ما تستطيع إنجازه.
ولكي يتحقق أي تقدم في أي مجتمع يجب عليه أن يُطعم نفسه ويُسقيها أولا , وإلا فلن تقوم قائمة لمجتمعات تستجدي طعامها وشرابها من الآخرين!!