يحتار المتابع للحالة السياسية في العراق وفق أية معايير تاريخية وأية خانة من خانات النظم السياسية المعاصرة، على الرغم من المظاهر المزدحمة التي اكتظ بها المشهد منذ عام 2003 ولحد اليوم، حينما رسم ونفذ ممثل الاحتلال الحاكم بريمر قواعد النظام السياسي الجديد، وأقنع بالفرض والأوامر جميع المبتهجين (بالرداء) الذي فصله على قياسهم، وفق التقسيمات الطائفية والعرقية التي تنتمي إلى عصور الجهالة والتخلف.
ولم يكن الأميركان أغبياء حينما تعاطفوا وسوّقوا شعار “المظلومية الشيعية” وسلموا ممثليهم الحكم في العراق وفق وصفة الانتخابات بديلا حسب نظرهم عن حكم (العرب السنة) لثمانين عاما. مع أن جميع الحقائق التاريخية والسياسية تؤكد وحدة مكونات أبناء هذا البلد، ومن أن النظام السياسي البديل للنظام السابق ينبغي أن يقوم على أسس المواطنة الصحيحة وإشاعة العدالة والحرية والديمقراطية ونبذ الطائفية السياسية. ومنذ العام 2003 دخل العراق في أزمات متعاقبة أكثرها تعقيدا ما أنتجته (شراكة العملية السياسية) الفضفاضة من استقطابات سياسية طائفية وعرقية. فحزب الدعوة وجد في نفسه القوة لقيادة العملية السياسية بعد أن حصل مسؤوله (المالكي) على تفويض في الحكم من جميع الحركات والكتل الشيعية، ومباركة كل من واشنطن وطهران وصناديق الانتخابات، وقبول أياد علاوي بصفقة أربيل عام 2010.
فيما تجد القوى السياسية الأخرى وفي مقدمتها “القائمة العراقية” أنها مهمشة وليست شريكة حقيقية في السلطة، إلى جانب الإحباط الشعبي الذي ولدته سياسة استهداف “المكون العربي السني” وملاحقة أبنائهم وزج الأبرياء منهم في السجون وإقصائهم عن وظائف الدولة تحت أحكام قوانين “بريمر” سيئة الصيت. مما دفع الكثيرين منهم إلى الارتماء في أحضان “تنظيم القاعدة” صنيعة المخابرات الإقليمية والدولية إلى جانب انتظامهم في فصائل المقاومة المسلحة ضد الاحتلال العسكري الأميركي الراحل بفعل تلك المقاومة.
وكان من الطبيعي أن تأخذ لعبة الحكم البدائية منحى التصعيد والاستقطاب غير الواضح، بين المالكي من جهة وعلاوي والبرزاني من جهة أخرى بعد أن وصفوا انفراده بصناعة (دكتاتور جديد) في العراق. مما وضع التحالف الشيعي الكردي في مهب الريح بعد أن أوصل المالكي إلى الحكم إثر رضوخ علاوي الفائز بفارق صوتين في الانتخابات تحت وعود وهمية، وفسر تطور الخلاف الكردستاني مع المالكي بالخطير عندما اقترب من فوهة بركان النفط على خطوط التماس الكردية العربية.
لقد رأى المالكي في تلك الحملة عرقلة مبرمجة لمنع وصوله إلى موقع “الزعامة” الذي عمل لأجل بلوغه منذ عام 2010 أو قبله بقليل. لقد وجد أن ما حصل عليه من دعم إيراني أميركي مزدوج يؤهله للوصول إلى ذاك الهدف، ومن السهل حسب تقديراته عبور المشكلات الطارئة مع التحالف الكردستاني، فأوراقها سهلة، كما أن المشكلة مع الكتل العربية المشاركة في العملية السياسية قادر على تجاوزها حين عمل على اختراق جسم القائمة العراقية وشراء بعض قادتها (المحترقين). وهو يجد أن الخصم الرئيسي الخطر بروز تيار وطني وقادة سياسيين تفرزهم المظاهرات العراقية الحالية العابرة للطائفية يحملون بصدق معاناة المحرومين والمهمشين، ولهذا سارع إلى كبح جماحها بوسائل أمنية وإعلامية حادة.
لقد وفرت السبع سنوات الماضية للمالكي وسائل وأدوات التحكم في الثروة والسلطة، وكانت أمامه فرص هائلة للدخول في حقل الزعامة السياسية التي لها قوانينها العامة وتقاليدها الخاصة في العلاقة بجمهور الشعب كلّه بقطع النظر عن مفهوم الفئة أو الحزب أو الطائفة.
الواقع الحاضر يحمل مئات النماذج من السياسيين الذي بصموا في أوطانهم ماركة الزعامة الوطنية سواء تلك الشعوب التي مرت بمحن الحروب والكوارث أو أزمات الفقر والتخلف والنمو البطيء. مثل ماندلا الذي بسط السلم الأهلي في جنوب أفريقيا بعد حرب التمييز العنصري الطاحنة، ومحمد مهاتير الذي حوّل ماليزيا من بلد متواضع إلى بلد ذي اقتصاد ساهم في ارتفاع دخل شعبه ثماني مرات خلال عشر سنوات، أو الراحل الشيخ زايد بن سلطان الذي جعل من الإمارات قطعة من المدنية والحضارة بعد أن كانت واحة رمال، وحافظ جيل الشباب الحاكم من بعده على مواصلة الرسالة، وأردوغان الذي جعل من تركيا خلال سنوات قليلة صين المنطقة، ومثال الرئيس الأورغواي “خوسيه موخيكا” الذي أصبح غاندي القرن الواحد والعشرين في حسن قيادته لشعبه وزهده، وفي المقابل هناك نماذج لزعامات الأقليات المتعصبة والمتطرفة مثل الزعيم الصربي كاراديش.
الأزمات والمحن والحروب تخلق قادة ومنقذين، ومحنة شعب العراق في معاناة الحروب والاحتلال وفرّت الفرص التاريخية لبروز مثل هؤلاء القادة، ولا أعتقد وغيري كذلك أن ما يحصل في العراق هو تنافس في هذا الميدان، إنهم جميعاً في صراع من أجل التحكم في السلطة والمال في بلد دخلت خزينته منذ 2003 وإلى حد اليوم عشرات المئات من مليارات الدولارات في وقت ما زال فيه مواطنوه لا يحصلون على الحد الأدنى من خدمات الماء والكهرباء، بل تعطل دوائر الدولة “احتفالا بيوم المطر” حيث غرقت بغداد في أيام احتفالات البشرية بأعياد بداية العام الجديد 2013. كما تغرق العاصمة وغيرها من مدن العراق كل يوم بدماء الأبرياء جراء العمليات الإرهابية التي يقال إن خلفها أجندات سياسيين محليين وغير محليين.
هل هناك بارقة أمل لخروج العراق من محنته؟ الفرص ما زالت قائمة أمام المالكي ذاته لكونه الحاكم الحالي لتغيير مجرى الأزمة، وذلك بفتح كتاب محنة الشعب والدخول في تحدي الحلول الجذرية وقراءة مطالبه بروح من يحب هذا الشعب، واتخاذ إجراءات وقرارات جريئة وعادلة تنصف عشرات الألوف من الأبرياء وتطلق سراحهم بلا دعاوى كيدية، وتبقي من تلطخت أياديهم بدماء الشعب وإحالتهم إلى القضاء العادل، وتعديل قانون المساءلة والعدالة أو إلغائه وتحويله إلى قانون قضائي وليس سياسيا، والعمل على إنصاف موظفي الدولة السابقة لكونهم مواطنين عراقيين لهم حق الحياة، وتعديل قوانين أوكار الاحتلال العسكري الأميركي وحاكمه بريمر مثل قانون “الإرهاب” الذي ينتعش في العراق، والشروع في محاربة فعلية للفساد وأوكاره وشبكاته ومنابعه داخل الحكومة عن طريق فضحها عبر الإعلام وإيداعها السجون العادلة، والدعوة المخلصة لجميع الوطنيين العراقيين ليأخذوا مكانهم في صناعة وطنهم وبينهم كفاءات نادرة في مجالات العلم والثقافة والسياسة والإعلام، والخروج من نفق الطائفية السياسية المقيتة عملياً بتجريمها وفق القانون، وإزاحة جميع مؤسساتها الدعوية والإعلامية لتحل محلها قيم المواطنة العراقية.
طريق الزعامة السياسية في العراق واضح لمن يقدر عليه.