جارتنا المندائية الطيبة نوشه فرحان السهيلي كانت أجمل هداياها لجوع طفولتي هو ماعون الطبيخ الذي تعده قبل يوم من عيد ( الكرصه ) المندائي حيث يحتفل المندائيون بـ ”رأس السنة المندائية “ والذي يسمى بـعيد الكرصة والعيد الكبير في منتصف تموز، وحين أخذت السماء أمانتها وتوفيت جارتنا المندائية ( نوشه ) بكيت كثيرا وأنا في عمر الثامنة وسألت أخي الكبير المرحوم عبد الأئمة : أين ذهبت خالتي نوشه .
وكان مولعا بالفلك وكواكبه ، أجابني بردٍ موسيقي وفلكي ليطمئن احساسي المبكر بفقدان امرأة لا أحب تناول الطبيخ إلا من خلال يديها قال : طارت الى المريخ وهناك ستعدُ لكَ ماعون الطبيخ ، انت نُمْ فقط وستأتي اليكَ هي بصحن الطبيخ.
تلك الليلة نمت بعد أن مسحت دموعي على أمل أن تجيء الطيبة ( نوشه ) وتطعمني لأني نمت حتى دون أن تتعشى . ولكنها لم تأتي والى اليوم أنا اضع حلم هبوط خالتي المندائية نوشه من كوكب المريخ لتأتي ليَّ بصحن طبيخها اللذيذ.
أمي كي تعوض حزني من أجل طبيخ جارتنا صارت تطبخه مع كل عشاء .
هي تطبخه بإتقان ونكهة لكن ما كانت تطبخه الخالة المندائية يحمل طعما غريبا ربما بسبب عاطفتها الطيبة واصرارها ليكون هذا الصحن لي وحدي بعد أن تصب عليه الروبة الثخينة التي تروبها بيدها من حليب دسم تشتريه من المعيدية هيله التي كنا نراها كل صباح تفترش الارض هي وبضاعتها من القيمر والخائر والحليب الذي يبكرُ من اجله اولئك الذين يتعرض أولادهم لكسر في الساق او اليدين .
وبين طبيخ نوشه وحليب (هيله ) المعيدية انتبهت الى أن نساء اللائي يعشن في قرى الماء يركبنَ المشاحيف من اول الليل ويصلنَ المدينة في الصباح ، وقد شاهدت خيال هذا المشهد على حقيقته يوم كنت ارى نساء قريتنا التي تعينت فيها معلما وهن يصعدن المشاحيف قبل منتصف الليل ليصلن الجبايش أول الصباح ويبعن بضاعتهن من القيمر والخاثر والحليب والخريط عندما يأتي موسمه .
عاد الطبيخ يعيش اجواء موائد القرية ولكن بدون المريخ وصرت أوصيَّ على ماعون منه حتى شراء فقط لأستعيد اطياف تلك الكاهنة الطيبة التي ابقت في طفولتي حلم حقول الرز وقصائد الهايكو التي قرأتها حين كبرت وكانت حقول الرز الممتدة في الجزر اليابانية تشكل خطا من ضربات قلوب الشعراء وهي تلامس العشب ومياه الغدران.
لكن المعدان هنا يملكون ذات طيبة المرأة المندائية الطيبة والتي تركتنا وصعدت الى المريخ فيرفضون اخذ المال مقابل الطبيخ وحين سمع شغاتي عامل الخدمة في مدرستنا قصتي مع الطبيخ حرص ان يجلب صحنا كل ليلة خميس تطبخه ام مكسيم ويقول تلك ثوابا على روح تلك المرأة التي كنت تحب طبيخها في طفولتك.
بين طبيخ ام مكسيم وطبيخ جارتنا الطيبة نوشة وطبيخ أمي تدور محطات الحياة ونصل الى امكنة بعيدة ولكنها على الارض وليس على المريخ وفي كل محطة حين اسكن في ذاكرة الشوق اطلب من أم اولادي لتطبخ لنا طبيخا ، فهي ايضا تفعله بإتقان ولكن بالرز البسمتي فالرز الشتال لا يتوفر في اوربا . واغلب الرز الذي هنا اما تايلندي أو هندي……..!