عندما كان العراق محتلاً من قبل الدولة العثمانية لم تتضح فيه المعالم الاقتصادية إلا بشكل بسيط إذا كانت اغلب المقومات الاقتصادية متخلفة ومتاخرة جدا فلا وجود للصناعة ماعدا بعض الحرف التي كانت تمارس في البيوت وبالرغم من تخلفها وتأخرها كانت تلاحقها الضرائب العثمانية وكذا بالنسبة للزراعة التي كانت تمثل المورد الأساسي لمعيشة السكان في ذلك الزمان الى جانب الثروة الحيوانية وهي أيضاً تخضع للنظام الضريبي العثماني،
قد أوجد العثمانيون طريقتان لاستغلال الاراضي الزراعية الاميرية اي( التابعة للدولة )،
الطريقة الاولى: تسمى الاقطاع الذي شاع استخدامه في الاراضي الشمالية والوسطى من العراق ومن خلالهِ تقوم السلطات العثمانية بتحديد ما يأتي من تلك الأراضي الزراعية الى السلطان العثماني أو خزينة الدولة ويقسم الباقي على ابناء الأسر الحاكمة وأمراء الجيش مقابل إن يقوم أولئك بتنفيذ اوامر السلطان بأدارة المنطقة، وكذلك بتقديم عدد من أبناءها الفلاحين المحاربين متى ما دعت الحاجة اليهم ،
اما الطريقة الثانية: فهي طريقة الالتزام، وهي إن تقوم الدولة بمنح حق استغلال الاراضي( المقاطعات) وجباية مواردها وكذلك الضرائب المفروضة عليها عن طريق المزايدة او الضمان مقابل بدل سنوي محدد من قبل الدولة العثمانية يدفعه الملتزم، وكان الملتزمون في الغالب من حاشية السلطان أو الولاة المتنفذين أو شيوخ العشائر حيث أُقطعت لهم اراضي شاسعة جدا وقد استغلوا جهود الفلاحين الفقراء أبشع استغلال وظهرت الطبقية المقيتة بأبشع صورها، إذ هناك المترفون جدا والفقراء جدا،
وقد عُرفت هاتان الطريقتان المذكورتان عند العراقيين بالاقطاع وسمي شيوخ العشائر المتعاقدين زراعيا مع الدولة، بالاقطاعيين وقد بقى هذا الحال في العهد الملكي ولم يتغير الشيء الكثير منه بل إن قوة الاقطاعية تضاعفت في هذا العهد لإن اغلب الشيوخ الاقطاعية أصبحوا من النواب في مجلس الأعيان الملكي ولم تتراجع الاقطاعية ومن وراءها الطبقية إلا بعد انقلاب تموز ١٩١٤ بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اصدر قانون الاصلاح الزراعي وحدّ بذلك من الفوارق الطبقية الهائلة تحت شعار ( الارض لمن يزرعها ) فضلا عن اتخاذه اجراءات اخرى ساعدت أيضاً من تقليل الفوارق الطبقية لصالح الفقراء واستمرت الطبقية في التناقص والتضاؤل حتى مجيء حزب البعث الى السلطة في انقلاب ١٩٦٣ وانقلاب ١٩٦٨ وكانت الاشتراكية من الاهداف المهمة لدى حزب السلطة وقامت الحكومة في هذه الفترة بالكثير من المشاريع في سبيل تطبيق الاشتراكية والحد من الفوارق الطبقية واستمر مؤشرها في التدني حتى قيام الحرب العراقية الايرانية التي بسببها تدهور الاقتصاد العراقي كثيراً وضعف الدعم الحكومي للكثير من المنتجات وظهرت السوق السوداء بشكل جلي مع تعامل حكومي اتسم بالمد والجزر بسبب ظروف الحرب ثم جاء الحصار الاقتصادي ليجهز تماماً على الاقتصاد العراقي وانهيار قيمة العملة الى ادنى مستوياتها.
ونتيجة لما تقدم بدأ المستوى الطبقي يرتفع شيئا فشيئا بعد إن نزل العراقيون بجميع عناوينهم الى السوق والتجارة أبان فترة الحصار وبرزت طبقة من التجار والرأسماليين الذين اخذوا يتلاعبون في اسعار السوق والبضائع صعوداً ونزولاً، ودام الحال على ماهو عليه حتى سقوط النظام السابق على يد الولايات المتحدة الأمريكية ولم تكن هناك رؤية واضحة لنظام سياسي جديد وكذلك نظام اقتصادي او خطط تنموية تنتشل العراق من واقعه المنهار على اكثر من صعيد،
ورغم التفاؤل الذي تأمله العراقيون إلا انه لم يتحقق شيء ملموس في الواقع الاقتصادي والتنموي بل أنعدمت وتراجعت الكثير من المقومات الاقتصادية كالصناعة والزراعة وغيرها وقد فتحت ابواب العراق على مصرعيها للتجارة الخارجية التي بدورها ساهمت في دمار الإنتاج الوطني بجميع صنوفه بالتالي حصول البطالة والبطالة المقنعة،
إن تبلور معالم النظام السياسي الجديد في العراق الذي تمثل في أيجاد المؤسسات التشريعية والتنفيذية والمؤسسات الرقابية قد لعبت استحقاقاتها المادية كالأجور والرواتب لشريحة النواب والرئاسات الثلاث وتوابعها على زيادة الفارق الطبقي هذا الى جانب الصرفيات والنثريات التي تخص مكاتب المسؤولين الحكوميين وكذلك الايفادات والزيارات وما شاكلها،
كما إن استئثار بعض الاحزاب واعوانها وشخصياتها المتنفذة بالمقومات الاقتصادية العراقية من تجارة واسواق وبورصات ومصارف وجامعات اهلية ومدارس اهلية ومزارع وبحيرات سمكية وثروات حيوانية الى جانب الفساد الاداري والمالي أدى الى تصاعد الرأسمالية وبالتالي أنتعاش وازدهار الطبقية وبصورة مرعبة جدا ليكون هناك الثراء الفاحش والفقر المدقع الذي تمثل في إن الكثير من ابناء الشعب العراقي لايملك مئة متر ليسكن عليها بل وهناك من يسكن المقابر ، وبملاحظة بسيطة للمباني، والمولات، والفنادق، والعمارات، و و و….. يتبين كم هو الفارق بين الفقراء والاثرياء.
إن استمرار الوضع على هذا المنوال دون معالجات حقيقية سوف يؤدي الى ما لايحمد عقباه،
فالتجارب التأريخية لمثل هذه الاوضاع تُنبئنا بعواقب كارثية تحرق الاخضّر واليابس.