ما اتى به ايفيغيني بريغوزين قائد شركة PMC (مجموعة فاغنر) من خطاب للشعب الروسي لايعجب سوى شذاذ الآفاق والراقصين على انغام تمرده في اوكرانيا ودول الغرب , فهذا المدعي وإن تخضّب سلاحه بدماء ضحاياه من الأوكرانيين بالحرب محققآ به نصرآ للروس هنا وهناك ,
ونال المديح ووسام بطل الأتحاد الروسي وجمهورية دونيتسك الشعبية وبطل جمهورية لوهانسك الشعبية ووسام الأستحقاق من اجل الوطن من اعلى سلطة بالبلاد وقادة الجيش ليتميّز بشكل واضح بينهم ,
فهو لايزيد من حيث الوجود عن ريشة علقت بجناح جيش الأتحاد الروسي , وقد بلغ به طموحه ان يحلّق قليلآ يوم 23حزيران 2023في اجواء موسكو مستغلآ الخطأ الذي وقع به بوتين وشويغو في عدم اختباره قبل الحرب مع اوكرانيا ليبدأ بالتمرد يومه الأول .
ولكن اثناء الحرب تكشف جانبآ من حقيقة هذا الطباخ الذي كان بالأصل صاحب مطعم في سان بطرسبرغ , واحد اكبر المتلقين للعقود الحكومية الخاصة بجوانب الجيش اللوجستية , وفي مغالطات الظروف التي مرت بها المجموعة منذ انشائها عام 2014 على يد مقدم سابق ومتقاعد في الجيش الاتحادي الروسي يدعى ديمتري اوتكين واغنر ,
واطلق عليها اسم فاغنر تكريمآ للموسيقار الالماني ريتشارد فاغنر الذي كان شغوفآ به , لذلك يطلق عليهم احيانآ اسم ” الفاغنريون ” اي ” موسيقيين ” , وبعد وفاة اوتكين ترأس ايفيغيني بريغوزين المجموعة .
عندما بدأت المجموعة بالعمل بكامل تجهيزاتها العسكرية من اسلحة ثقيلة ومدفعية والأسناد الجوي بالطائرات في اوكرانيا عام 2014 , ومن بعدها في سوريا , لم تكن منضوية تحت جناح الجيش الروسي بأي قانون واضح او عقود قانونية , وهذا هو الخطأ الذي وقع به بوتين وبدأ منذ المباشرة باعمالها مع الجيش الروسي ,
وكان هذا الخطأ هو الذي تداركه وزير الدفاع شويغو بالنهاية عندما طلب من بريغوزين توقيع العقود الخاصة بعمل المجموعة مع الجيش , ولكن قوبلت بالرفض من قائد المجموعة ليختلق مبررات واعذار اخرى غير سديدة ليرخّص نفسه بتبني موقف التمرد على القيادة الروسية كأنه يحذو في ذلك حذو موقف الفريق اول مزيف محمد حمدان دقلو الملقب حميدتي ضد قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان واشعل به حربآ لاطائل منها في السودان ,
ومثلما كان موقف التمرد خاطئآ , فقد تبين ان السماح لدخول قوات بريغوزين الى موسكو وهي فارغة من القطعات العسكرية كان خطأ جسيما , سيما ان وزير الدفاع شويغو يعلم ان بريغوزين يبحث في علاقاته مع الجيش الروسي على الضوابط المريحة والمألوفة في الأتفاقات الخاصة بالأعمال التي تقوم بها الشركات الأمنية او العسكرية من ناحية , والتي تخدم شؤونه الشخصية من ناحية اخرى ,
ويعلم ايضآ ان اهداف انضواء المجموعة تحت جناح الجيش , من وجهة نظر الغرب , هي اخلاء المسؤولية من الجيش الروسي عن كل الانتهاكات التي تحدث بالحرب سواء بأوكرانيا او سورية , علمآ ان المجموعة اتهمت فعلآ بأنتهاكات لحقوق الإنسان في اوكرانيا واماكن اخرى بالعالم من قبل الأمم المتحدة ,
ويبدو من ذلك ان القيادة الروسية عمدت ان تدفع عن نفسها الأتهامات التي اطلقت على بوتين التي تمخض عنها فيما بعد بصدور امر القاء القبض عليه من قبل المحكمة الجنائية الدولية , فطلبت من بريغوزين تنظيم تلك العقود لتبطل به حجج قائد المجموعة التي تخرجه عن قواعد الاشتباك بالحرب وخاصة في الجانب الانساني.
اذن هي مغالطة اقترفها شويغو , لأنه يعرف بصيرة قائد مأجور يعج بالخلافات وقليل الخبرة بالعلم العسكري وشؤونه التخصصية , ويعطيه حرية التنقل بقطعاته العسكرية داخل موسكو وروستوف وهما خاليتان من القطعات واثناء الحرب .
وليس من شك ان بريغوزين استغل تعبئة الشباب الروس بالجيش والزج بهم في سوح القتال بفترات تدريبية غير كافية بسبب فداحة الخسائر البشرية وازدياد زخم المعارك بشكل مستمر ولا يتيح استكمال تلك الفترات التدريبية نظرآ لحاجة التعويض وسد النقص في القطعات للحفاظ على القدرة القتالية وهي تمسك المواضع الدفاعية في قواطع المسؤولية ,
واستغل كذلك سقوط قذائف المدفعية الروسية على رؤوس قواته بشكل خاطيء , ماجعله يشهّر وبالإعلام وبشكل انفعالي بضعف القيادة الروسية , الأمر الذي تسبب في احراج الرئيس بوتين بشكل مزري من ناحية , وفي صنع نموذج جديد لبطل روسي جعله في خيال وقلوب وعقول الشباب الروس وخاصة المعارضين منهم لحكم بوتين ليحتذوا به الى امد بعيد من ناحية اخرى .
اما في صبيحة اليوم الثالث للتمرد , فقد نشرت الصحف الروسية ان الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو قد توسط لإنهاء الخلافات مع قائد فاغنر وان قطعاته العسكرية سوف توقف تحركاتها العسكرية واختار الذهاب الى مينسك عاصمة بلاده , وتم العفو عن افراد قواته العسكرية والسماح لهم بتوقيع العقود ليكونوا بأمرة الجيش الروسي لمن يرغب .
وبهذا يكون تمرده قد انتهى وانتهى معه رقص الراقصين في اوكرانيا والدول الغربية , وما كان تحليقه في سماء روسيا إلا تحليق ريشة غريبة عن اطوار الجيش وقد علقت في جناحه ردحآ من السنوات , وجربت ان تحلق خارج نطاق الأعراف العسكرية كأي مارق يجرب حظه ليصنع له وجودآ يحلم به في خياله , وكانت النتيجة انها فشلت محاولته وهوت على صخرة الواقع تجسيدآ لقول الشاعر :
يظل المارقين مدى الدهر بفقه ماتعودوا فإن حلقوا سقطوا هلكى من سوء مافقهوا
ولايخفى على الجميع ان القوى العسكرية على نمط مجموعة فاغنر , يكون مدادها الاهواء ولاتهتدي لا بالفعل ولا بالقول حتى يفعل الشعراء ,كما يقول المتنبي , ووحدها قوانين الدولة العادلة التي تكبح جماح الأهواء والمروق عن مصالح الشعب المترسخة في نفوس القائمين على رأس هذه القوى , اما اذا تم التعامل معها بنسق التعامل مع بريغوجين وتلحق كريشة في جناح اي قيادة للقوات المسلحة وفي اي بلد , فهنا تبدأ المغالطة وتقع الكارثة ويعاد السيناريو الذي صنعه مع بوتين وشويغو .