18 ديسمبر، 2024 8:55 م

الطالب الحائر بين الطب والعمارة

الطالب الحائر بين الطب والعمارة

سألني مرة، صديق مثقف وواعي وهو طبيب إختصاصي معروف، مستفسراً عن تخصص مفيد لولده، الحاصل على معدلٍ عالٍ في الإمتحان الوزاري للإعداديات، (وكونه يحمل أفكاراً تقدمية) متوخياً أن يستطيع ولده خدمة الناس والمجتمع بالشكل الأمثل. وأراد مني أن أبين له مفاضلة بين مهنتي الطب والعمارة. هنا حاولت ألا أكون منحازاً إلى مهنتي، كي أستطع إجابته بشكلٍ منطقي.

بدأت بحديثي إليه: “نحن كبشر نحتاج إلى الطبيب، عندما نمرض أو نشعر بحاجتنا إلى الحصول على إستشارة منه. أما حاجتنا إلى المعماري فهي دائمة و متأتية من كونه هو الذي يصمم لنا كل الفضاءات التي تحتوي فعالياتنا طوال حياتنا ( وبمختلف صورها). فنحن عندما نولد تحتوينا أما غرف ولادة أو قاعات العمليات لولادة قيصرية. وبعدها، طوال حياتنا، نعيش في بيوت وشقق بعمارات متباينة الإرتفاعات ومنذ نعومة أظفارنا، نذهب إلى دور الحضانة ورياض الأطفال، وبعدها المدارس والجامعات، ثم نعمل في مباني لمكاتب ومصانع ..

ونرتاد الذهاب إلى الأسواق والمولات عند حاجتنا إلى التبضع، ونذهب إلى المباني الترفيهية كالسينمات والمسارح والمتاحف والمراكز الثقافية، والمناطق الخضراء المفتوحة عند شعورنا بالحاجة إلى الترفيه، وإذا ما أدينا فرائض العبادة فإننا نحتاج إلى الجوامع والكنائس والمعابد، وحتى المقابر في الدول المتقدمة يجب أن تصمم مواقعها بشكل لائق ،، كل هذه الفضاءات هي من تصميم المعماري، نتفاعل معها طوال حياتنا، وينقلنا إلى حالة غنية بالحواس والأحاسيس والفكر. فإذا كان تصميمها إبداعياً، فإننا نعجب بها وننبهر بفضاءاتها التي تبعث في نفوسنا الإعجاب والشعور بالإرتقاء .. نعم كل هذه المشاريع المعمارية هي التي تسهل علينا أسلوب عيشنا وعملنا و نستأنس

بها من خلال النشاطات التي نمارسها فيها، وهي تخلق في نفوسنا متعة فنية، لاسيما عندما نعلم بأن هذا العمل الفني هو من صنع الإنسان، وإنه تم إنجازه ليؤدي وظيفة نحن بحاجة إليها، هذه المشاعر تأتي من خلال إحساسنا بالمجهود الفكري المبذول لإخراج هذا العمل المعماري الإبداعي .. وعندما نريد أن نتساءل، هل أن كل مبنى نشيده يمكن أن يقال عنه بأنه عمل معماري فني .. فإننا في هذه الحالة يجب أن نصيغ سؤالاً آخر بهذه الصيغة: (ما هو الفن ؟) وما هي المتعة الفنية، وكيف نتحسسها، وكيف يمكن لها في أي مبنى أن تتجسد فيه؟ ” لا حظت على الرجل أنه يتابع حديثي بكل إهتمام، فواصلت قائلاً: ” أتذكر، إثناء دراستي في مراحلها الأولى بالمانيا في بداية ستينات القرن الماضي، بأني قرأت كتاباً عن المعماري الشهير (ميس فان ديروه)(1) يذكر فيه بأنه يرفض أن يدعونه معمارياً .. قائلاً إنني بَنّاءْ .. وبعد أن طرحت سؤالاً على أساتذتي في كلية هندسة العمارؤة في مدينة (فايمار) بألمانيا عن سبب رفض (ميس) أن يكون فناناً أو أن يُسمى عمله المعماري فناً .. فأجابني أستاذ نظريات وتاريخ العمارة قائلاً: أنه رفض الفن بمعناه التقليدي كتعبير جمالي .. ولكنه في الواقع هو وصل إلى أعلى مراحل الإبداع الفني المعماري بتصميماته المتنوعة، بفضاءاتها المدروسة وإنشاءاتها الجريئة، التي عبر فيها عن تقنيات العصر الذي عاش فيه .. وأضاف قائلاً بأنك بالتأكيد لاحظت تأثيرات مشاريعه المعمارية، كيف أنها أدت تأثيرها على المشاهد بصرياً ونفسياً وفكرياً .. وهي أعتبرت ضمن نطاق الفن، سواء قصد ذلك أم لم يقصده في تنظيراته الأولى.

وأخيراً لابد من القول بأن للتذوق المعماري هناك متعة مركبة تجمع بين المواد المستعملة والأحاسيس التي طرحها المصمم، والفكر الذي ينتمي إليه .. بحيث تبقى تُبهر أذواق المتلقين من مختلف الثقافات والخلفيات والأعمار.

آنذاك شربت قهوتي، وفرحت لقناعة الأب بأنه سينصح ولده أن يتقدم للتسجيل في قسم هندسة العمارة، وقد كان الطالب حقاً في أثناء دراسته من خيرة الطلاب الذين درسوا لدينا.