23 ديسمبر، 2024 10:48 ص

(( كانت قرية جميلة غناء بأشجارها الكثيفة المثمرة بالفواكه وزهورها المبعثرة هنا وهناك محيطة بالبيوت البسيطة جدا تدل على ساكنيها البسطاء في معيشتهم تطل بوجهها المشرق على الساحل الجميل للشاطيء بامواجه المتكسرة على حبات رماله البراقة يفترشها بين الحين والاخر وبالخصوص بعد ميلان الشمس بحرارتها لتقرض وجوه السواح والزائرين النصف عراة الممددين على رماله ليستمتعوا بحرارة الشمس الجميلة التي تلامس الوجوه المحمرة مستمتعين بحمامهم الشمسي اللطيف والقسم الاخر تحت المظلات المتدلية فوق البعض منهم وصخب الاطفال وهي تلامس أقدامهم أمواج الشاطيء الصغير وضحكاتهم البريئة وهم يلعبون بالرمال ليقيموا منها تماثيلهم الطفولية وقلاعهم وفي المساء يتغير كل شيء في القرية حيث تتحول القرية وهذه البيوت البسيطة الى حلقات من الرقص الجميل والطرب الغجري وأنغام الموسيقى لتدور عليهم بعض الفتيات الجميلات وهن يتراقصن ويتمايلن ليملئن الجو فرحا وبهجة وسرورا حتى الصباح . ومن بين الفتيات فتاة جميلة في العشرين من عمرها ذات الوجه الدائري الابيض المشرأب حمرة والشعر الكستنائي المجعد كأمواج البحر الهائج لقريتها والقوام الممشوق طولا كالغصن البان محط أنظار الفتيات والشباب من قريتها الغجرية المتمردة على الواقع والمتحررة من القيود العائلية والاجتماعية حالمة بأحلامها الخاصة التي رسمتها مخيلتها الغاضبة على واقعها وعلى أقرانها لتكون بمعزل عن الاخرين رافضة لكل ما يقيد حريتها وأسلوبها الخاص بالحياة متحملة أنتقاد عائلتها العنيف وفي الصباح الباكر تنهض بكل رشاقتها وأنوثتها لتقف أمام المرآة الطويلة المسندة الى الحائط لترى كامل جسدها وهي تدور حوله لتستطيع أن ترى قوامها الممشوق بكل بهاء وجمال لتقنع نفسها انها هي الاجمل والاروع من بين أفراد قريتها وتتفرس وجهها الذي تستحي منه المرآة لجمالها وبعد ما تأخذ قليلا مما أعدته لها والدتها من الفطور على عجالة لتخرج مسرعة الى فناء الدار ممسكة بقفص مشبك لطائر مغرد جميل ربته على يديها منذ سقوطه من العش ليعيش في كنفها مع أحلامها وآهاتها يشكو احدهما الاخر همومه بصوت حزين وبتغريدة تطرب أذنيها الموسيقية العاشقة .كانت تجلس أمامه ساعات وساعات لتبث شكواها وما يدور من أفكار ترهق رأسها المرهق حين تفكر بترك حياتها باحثة عن الاستقرار العاطفي والنفسي والعائلي مع شريك لها بمواصفاتها هي وحدها وأن يكون من خارج الوسط العائلي ليتقبل مفردات شخصيتها المتمردة على الواقع الذي ملت منه ورفضته وبالمقابل تعود الى التسائل عن خوفها من المحيط الذي تعيش فيه خارج نطاق العائلة الغجري فهل سيتقبلها . هذا مما زاد فرحة الطائر بهذا القرار الجريء في البقاء على ما هو عليه والذي كان ينتظره منها بفارغ الصبر وبشغف لأنه قرر كذلك البقاء بعيدا عن الحرية وأزال من مخيلته الخروج من القفص الذي تربى فيه وعاش طفولته على يد الفتاة الغجريه ورعايتها الى مجهول قد يكلفه حياته ولأن الفتاة الغجريه تعرف معنى الحرية والاستقلال والتحرر من القيد فقد وجدت ضالتها بذلك الطائر الجميل المغرد الذي جمعها به علاقة حميمة منذ الصغر لأنه وحده يعرف معنى الحريه ويقدر مذاقها وطعمها وعندما كانت تجلس امامه وتطلق العنان لحزنها وشكواها وتسائله بمكنون صدرها كان يملا الفناء بالتغريد ليطرح ما يجول في خاطره من الم الغربة للوطن والاهل والاصدقاء والم الحرية المفقودة منذ زمن بعيد لولا السلوى التي تفيض عليه الغجرية لكان أنتحر ومات هما وكمدا فكانت له السلوان والامل في البقاء لأنهم في مأساة واحدة . وفي بعض الاحيان كانت الفتاة الغجرية توصد الباب والشبابيك عليها لتخرج الطائر من قفصه لتجلسه على يديها الناعمتين لتطعمه من فمها فتات الخبز وتسقيه من رضاب شفتيها الصغيرتين وتجلسه تارة على كتفها ليغفو بين طيات خصال شعرها المتدلي على كتفها ثم يتمادى قليلا ليقترب شيئا فشيئا حتى يلامس وجنتيها الجميلتين الناعمتين كريشه الملون تراقصه وتداعبه وتغني له بلهجتها الغجرية مستأنسة به وهو يرد عليه بصوته العذب يفيض جو الغرفة تغريدا كانها سمفونية حب جميلة بين عاشق ومعشوق بين عازف وملحن هكذا الحال يوميا , زاد الارتباط بينهما وتوثق شيئا فشيئا ليصل بها الحال شكواها له من ما يدور في قلبها من حب لشاب من أطراف القرية يبادلها الشيء نفسه ويختلس النظر اليها بين الحين والاخر ويراقب كل تحركاتها لكن خوفها من المجهول وما يخبأه لها القدر من مفاجئات تتراجع عن فكرتها في الارتباط به وتخوفها من دخول قفص الحياة العائلية الذي لا يمنحها الحرية التي عاشتها طوال حياتها وعندما تتوجه بالسؤال الى الطائر مخاطبة أياه يطرق الطائر برأسه نحو الارض وزفرات الالم والاه تحرق صدره وتحبس أنفاسه ولسان حاله يقول أما أنا من لي في هذه الدنيا ومن لا يحب الحرية والعيش خارج القفص الصغير من يرفض أن يحلق في هذه السماء الجميلة ويشم عطر أزهارها زهرة زهرة وشجرة شجرة . لكن يرجع ويقول من يعرف ما المستقبل المجهول وكيف الامان من الخارج وأنا لا أعرف ما يدور من حولي لا أهل لي ولا أقرباء قد يكون الخروج أنتحار بيد صائد للطيور أو رمية حجر من صبي طائش ينهي حياتي . أن هذا الصراع الفكري الدائر يوميا بينهما وهذه الشكوى والالم توقف كل مشاريعهما والاثنين خائف من النتائج الغير محسوبة النهاية جلست الفتاة أمام قفص الطائر وهي واثقة من نفسها هذه المرة وبأرادة صلبة لتتخذ القرار النهائي لا رجعة فيه بأنها سوف لن تجازف في دخول القفص الزوجية أبدا لتبقى تتنعم بحريتها في مجتمعها الغجري لا يعكر صفوه حرية أخرى ))