27 ديسمبر، 2024 7:45 م

سياسة الصِّدام والهيمنة والتسلط وإهمال الآخر وظلم الشعب وعزل العراق عن محيطه العربي والاقليمي والدخول في حروب ومواجهات محلية واقليمية كل ذلك كان نهجاً متبعاً طوال حكم النظام السابق مما دفع الولايات المتحدة الامريكية والقوى التي تمحورت حولها إلى اتخاذ قرار دولي بقيادتها ، تبنى إسقاط النظام الدكتاتوري بقوة السلاح.
موقف “المعارضة العراقية” كان مؤيداً لهذا القرار على اعتبار أنها ستشكل “الكابينة الجديدة” لحكام العراق تحت مظلة الاحتلال الذي اعتبروه تحريراً وانتصاراً وعيداً وطنياً.

بعد إسقاط النظام الدكتاتوري انطلق صوت الحرية مصدعا جدران الصمت والكبت ومحطما كل الأغلال التي كانت تكبله طوال ثلاثة عقود ونصف من الزمن الصعب يحدوه الأمل نحو بناء عراق جديد متصالح مع نفسه ومع الآخرين
بينما صوت زناجير الدبابات الأمريكية التي جابت شوارع العاصمة بغداد عام 2003 كان يسمع في كافة المدن العراقية وهي تحمل فوق ظهورها “قادة النضال” نحو الخلاص من الدكتاتورية والظلم

ولكن التساؤلات التي باتت معزوفة الألسن والأسماع لدى العراقيين بعد سقوط النظام هي ، مالذي سيحصل بعد ذلك ؟! وما هي المكاسب للشعب والوطن ؟ وهل جلوس الحكام الجدد على الكراسي بعد الاطاحة بالدكتاتور هي المحصلة النهائية لهذا التغيير مكافأة لهم ؟!
إن الإجابة على هذه التساؤلات وللأسف تزيد من وجع العراقيين وتقودهم للحديث عن بدايةٍ لقصة حزينة ومؤلمة ستجد الأجيال القادمة تفاصيلها على صفحات التاريخ وهي تتحدث عن أسوء حقبة سياسية مرّ بها العراق بعد عام 2003

لقد أصيب العراقيون بخيبة أمل كبيرة جراء ماحصل في بلدهم من تراجع خطير تراكم خلال اكثر من 15 عاما مضت منذ التغيير الذي كانوا يتطلعون من خلاله الى بناء دولة جديدة ومنهج جديد لعراق متصالح مع نفسه وجيرانه ومع دول العالم
وبدلاً من طموح التقدم نحو الأمام ، علت أصواتهم بتمنيات العودة الى الوراء ولسان حالهم يردد البيت الشهير :
“رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلما ،،، صرتُ في غيره بكيتُ عليه”
انها سياسة المتناقضات وانعدام الرؤية باتجاه بناء الدولة والتشبث بموروثات الماضي الفكرية والمذهبية وغيرها من السلوكيات التي قلبت المعايير النوعية رأسا على عقب فأنتجت لنا حالة من الانقسام السياسي والمجتمعي ناهيك عن ارتفاع مرعب في نسبة الفقر والبطالة وتفشي الأوبئة والامراض المجتمعية والصحية وتراجع كبير في المنظومة القيمية فما نهض البلد من كبوة إلا وسقط في أخرى هي أشد وقعا من سابقتها لينتقل الحال من سيء الى أسوأ وكما يقول المثل العراقي الشهير ( آٍمٌ حًسيِن جـِنًـتـَي بـُوحًـدًه صـرٍتـَي بـُآٍآٍثَـنًـيـٍن )
لقد حسم العراقيون قضية التمييز مابين النظامين السابق والحالي وفق معيار المقارنة بين ( سيء وأسوأ ).

لا نحتاج الى طول بحث عن دليل للتخبط والتناقض الحاصل في سياسة البلد الخارجية فالنتائج واضحة من سلوكيات ومواقف دارت ومازالت تدور ضمن نطاق المصالح الحزبية والفئوية والمذهبية فمن رضي بالأميركان محررين واستقبلهم بالورود يرفضهم اليوم ومن رفضهم محتلين وقاومهم بالسلاح يطلبهم للبقاء ومن عاب على النظام السابق خصومته مع أشقائة العرب وجيرانه ينتهج نفس سياسة العداء لهم .

المجتمع الدولي وجد نفسه مضطرا للتعامل مع المنظومات المجتمعية والتقارير الصحفية والاستخباراتية من أجل الحصول على معلومة قد تسعفه في حل الغاز وطلاسم السياسة الخارجية للبلد التي تعددت وتنوعت وتناقضت في مواقفها استنادا الى الانتماءات الفكرية او المذهبية او الحزبية “كل حسب مصلحته” ليتحول المشهد العراقي على إثر ذلك الى حلبة للصراعات الإقليمية والدولية تضاف الى الصراعات والانقسامات الداخلية .
الشعب العراقي اليوم يتطلع الى اجابة واضحة يقدمها له هؤلاء “المناضلون الجدد” و”قادة التغيير” الذين اوصلوا البلد الى حالة من التشرذم وانحطاط القيم تسيد فيها الفاسدون تبين له مفهوم التغيير الذي أحدث نقلة عكسية باتجاه الفوضى واللادولة ؟
ويوضحوا له الحكمة من اطلاقهم العنان ليد الفساد كي تسلب اللقمة من فم الجياع وتورث العوز لشعب تطأ أقدامه أرضا وضع الله تحتها كل أسرار الغنى والترف .

إن وضع العراق اليوم هو نتيجة حتمية لسياسات لم تكن تمثل إرادة وطنية جامعة تأخذ من مصالح البلد منطلقا لها نحو التعاملات الداخلية والخارجية بقدر ما كانت تمثل صراعا لإرادات خاصة من أجل تحقيق مصالح حزبية وفئوية ، ثم ضاقت أكثر فصارت المصلحة الشخصية هي البوصلة بالنسبة لأغلبية عارمة من الطبقة السياسية.

نحن أمام واقع يحتاج الى صحوة للضمير الوطني المستتر ليفعل دوره من أجل انتشال البلد من واقعه المؤلم ويضعه على سكة الخلاص من خلال استئصال سرطان الفساد المستشري في معظم مفاصل الدولة ، وهذا لا يحتاج إلى إجراءات استثنائية فحسب ، بل يحتاج أيضا إلى رجال استثنائيون يعتمدون قواعد استثنائية لتخليص البلاد من وضعها المزري.