23 ديسمبر، 2024 6:56 ص

الضغائن تهدد وسائل الإعلام

الضغائن تهدد وسائل الإعلام

ما حدث في أوطأ الصحف البريطانية مسؤولية الأسبوع الماضي يمنحنا درسا عميقا في المسؤولية! الثقافة البريطانية تُقسّم عادة الثقافة بشكل عام والإعلام جزء منها، بالواطئة والعالية، والحال أن صحيفة التايمز مثلا لا يمكن أن توضع في نفس خانة صحيفة ذي صن، مع أن مالكهما واحد، هو روبرت مردوخ.

لقد ارتكب كاتب العمود كلفن ماكنزي في صحيفة ذي صن الشعبية، فعلا شنيعا عندما وصف روس باركلي لاعب منتخب إنكلترا ونادي إيفرتون بكرة القدم، بالغوريلا!

لم يطل الأمر كثيرا بعد ذلك، ولم يكتب بعدها ماكنزي الذي يعد من المقربين إلى مردوخ مالك الصحيفة، أي مقال، وهو الذي رأس تحرير ذي صن ما بين عامي 1981 و1994 وعاد ليكتب فيها عمودا أسبوعيا منذ عام 2015، فقد أكدت الصحيفة أنه لم يعد يكتب ويعمل فيها، منهية بذلك عقدا معه بالاتفاق المتبادل.

ولا ينتهي الأمر بإقالة أو استقالة الكاتب الصحافي المُحمّل بخبرة نصف قرن في وسائل الإعلام! الدرس في أن يخضع كاتب على درجة مرتفعة من التجربة إلى مشاعر الحنق والضغينة على الآخرين لسبب يفتقر إلى الإنسانية ويجسد ذلك في مقال مكتوب.

لذلك لم يعبر صحافي مرموق كبيتر بريستون الذي رأس تحرير صحيفة الغارديان لسنوات عن حزنه على نهاية زميله ماكنزي، لكنه تساءل عما إذا كان إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ سيُبيّض صفحة ماكنزي لاحقا بمنحه فرصة عمل جديدة!

نادي إيفرتون منع على أي من صحافيي ذي صن دخول ملعبه، بينما نشرت الصحيفة اعتذارا مكتوبا للنادي واللاعب روس باركلي تحديدا.

لم يجد ماكنزي ما يسوغ به الوصف الشنيع الذي أطلقه على لاعب كرة قدم، سوى القول إنه لا يريد تشويه تاريخه مع الصحيفة، ويفاقم الجدل بشأن ما كتبه بمحاكاة ساخرة وليست عنصرية، بينما الشرطة تواصل التحقيق في ثيمة العمود المنشور وعما إذا كان يحط من القدر الإنساني ويكشف عن كوامن عنصرية في وصف لاعب بالغوريلا.

وقال ماكنزي “أرفض السماح لهذا الجدل أن يستمر مزيلا عقودا من العمل العظيم مع ذي صن!” ولم يجد غير الاستعانة بجملة ونستون تشرشل “النجاح هو الانتقال من فشل إلى فشل، دون أن نفقد الأمل”. وكما يبدو إن ماكنزي يترقب فرصة أخرى، فهو حليف طويل الأمد للمالك روبرت مردوخ.

الدرس المثير الذي تقدمه هذه القصة المتواصلة تداعياتها في الصحف البريطانية ولم تثر اهتمام وسائل الإعلام العربية، ربما لتفسير محدود بمحليتها، بينما الحال أن المسؤولية وحساسيتها تتراجعان في ما يكتب ويُنشر ويذاع على وسائل الإعلام.

نستطيع أن ندرج العشرات من الأمثلة الشنيعة التي أُرتكبت في وسائل إعلام عربية ولم تقد نتائجها وتداعياتها إلى مصير قريب مما آل إليه الصحافي المحترف كلفن ماكنزي في صحيفة ذي صن الشعبية البريطانية.

التساهل مريع وتمرير الأخطاء متواصل، وسائل الإعلام لم تعد تشعر بنفس الدرجة من الحساسية، بعد أن انقادت إلى الخطاب السائد على الشبكات الاجتماعية، المجهر الصحافي لم يعد بنفس الدقة والتركيز، ولذلك مرت أخبار وقصص شنيعة واتهامات بغيضة وغير مسؤولة تحد من القدر الإنساني، كما شُوهت حقائق وأُخفيت جرائم تحت التهديد السياسي أو الديني أو التواطؤ مع الحكومات. صار بعضهم يكتب ويتحدث على الشاشات كي بعبر عن ضغينته تجاه الآخر.

إننا نعيش ما أسماه جون ثورنهيل “فقاعات الفلترة” لأن التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي دمّرتا الحقيقة، ويكتب في صحيفة فايننشيال تايمز “نحن نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، حيث بإمكاننا تجاهل الحقائق التي لا تُعجبنا والاستفادة من أي سرد شخصي نرغب فيه”.

إذ لم يكن الصحافي غير مسؤول عما يكتب، فهذا يعني ببساطة أن صناعة الرأي تدار حاليا من قبل مدونين يعبرون عن ضغائنهم وما يأملونه لأنفسهم وما يكون عليه غيرهم. وهذا فخ مريع يقود وسائل الإعلام إلى هوته المريعة، فالمزاعم والمزاعم المضادة ليست أداة مقبولة لوسائل الإعلام عالية المسؤولية.

سبق وأن اعتبرت ميغان كيلي المذيعة في قناة “فوكس نيوز” الأمر ذا صلة بثقة الجمهور المتراجعة بوسائل الإعلام “ثمة فجوة تتصاعد بين الطرفين فالجمهور لم يعد يصدقنا، الأميركيون مثلا لم يعودوا يبالون بكل ما تكتبه الصحف، وهذا مؤشر خطير ومقلق” ليس للصحف فحسب بل لفكرة المسؤولية والحساسية العالية في صناعة الخبر وكتابة الرأي ولحرية إشاعة المعلومات الصحيحة.

اليوم الصراعات في العالم بفعل العصر الرقمي بوصفه أداة فائقة التوصيل، جعلت من الحقائق وكأنها نقائض، الأخبار والآراء المتداولة تحمل أكثر من وجه لحقيقة، بل صارت تعبر بشكل مثير للاستياء عن الضغائن، ألم يُعبر كاتب “مرموق” عن ضغينته تجاه لاعب ووصفه بالغوريلا!
نقلا عن العرب