23 ديسمبر، 2024 10:28 ص

الضرورة الشعرية والخطأ اللغوي

الضرورة الشعرية والخطأ اللغوي

إنَّ الضرورة الشعرية هي : ما اعتاد النحاة القدامى أنْ يطلقوه على ما ورد في شواهـدهم الشعرية ـ التي يريدونَ منها إثبات صحَّة قاعدةٍ نحوية أو فرعٍ منها قد يكون نادراً أو شاذاً ـ من الشواذ والنوادر التي وردَتْ في شعر العرب الأقدمينَ من الجاهلية حتى بشار بن برد ( 65 ـ 167هـ ) ـ ( 713 ـ 783م ) ، فقد كان آخر الشعراء الذين استشهد سيبويه بشعره ، ذلك بعد أنْ هدَّده بشار بأنَّه سيهجوه شعراً وينال منه إذا لم يستشهد بأشعاره ، ففعل سيبويه مرغماً ، ولأنَّ سيبويه  فعل ، فقد استشهد غيره بشعرٍ لبعض شعراءٍ غير ابن برد من الذين سبقوه ، وانتهى الاستشهاد الشعري به ، وكانتْ نيَّة سيبويه أنْ يوقف الاستشهاد حتى شعراء النقائض ـ جرير والفرزدق والأخطل والراعي النميري ـ لذا فلا ضرورة لشاعر بعد بشار بن برد ، وما ورد في أشعار مَن توفي بعد عام ( 167هـ ـ 738م ) فإنَّه يقع في باب الخطأ اللغوي .
 فقد عاب النقاد على أبي نؤاس قوله في بيت من بحر مجزوء الكامل العروضي :
نبِّهْ نَدِيْمَكَ قَد نَعسْ
  يَسْقِيْكَ كَأسَاً فِي الغَلَس

والصحيح أنْ يقول : ( يَسْقِكَ ) بجزم جواب الأمر بحذف حرف العلة الذي هو الياء ؛ وعابوا عليه قوله :
كَمَنَ الشَّنْآنُ فِيهِ لَنَا 
  كَكُمُونِ النار فِي حَجَرِه

والصواب أنْ يقول : ( حجرها ) ، لأنَّ النار مؤنَّثة ، وقد أخطأ في رأيي غير المتواضع مَن أوَّله على وجهٍ لا ضرورة فيه ، بأنْ قال بأنَّ أبا نؤاس يقصد أو يريد أنْ يقول : ( كَكُمُون النارِ في حَجَر الكمون ) باعتبار أنَّ ( الكمون ) هو مذكر مضاف إلى النار ، وقد كذب أبو نؤاس نفسه على الناس وعلى نفسه عندما فسَّر هذا البيت على وجهٍ ليس فيه ضرورة ، بأنْ قال : ( ردَدْتُ التذكير إلى النور ) بمعنى أنَّه قصد ما يلزم من النار والذي هو نورها ، فقد أخطأ ورفض الاعتراف بخطئه واستخدم ذكاءه في التأويل والتبرير ؛ وتسألني لمَ ترفض التأويلينِ اللذين يبدوان للوهلةِ الأولى مقنعينِ ؟ ، أقول : لقد حكمته القافية فالبيت من قصيدةٍ له مطلعها :
أيُّها المُنْتَابُ عَن عُفُرِه
  لَسْتَ مِن لَيْلِي ولا سَمَرِه

لاحظوا أنَّ أبا نؤاس لزم في هذا المطلع ما لا يلزم في التقفية ؛ وعابوا عليه في نفس القصيدة ، قوله :
كَيْفَ لا يُدنِيْكَ من أمَلٍ
  مَن رَسُولُ الله مِن نَفَرِه

  وما نقدوه إلا لأنَّه قلب المعنى بسبب القافية التي حكمته وتحكَّمَتْ به ، فالمعنى الأصلي هو : ( مَن هو من نفر رسول الله ) ، ودافع عن أبي نؤاس بعض النقاد بأنْ توهَّموا أو حاولوا إيهامنا بأنْ قولته هنا ليس فيها خلل ، بأنْ ادَّعوا أنَّه مَن كان من نفر رسول الله فرسول الله من نفره ! ، ففي هذا عندي مغالطة كبيرة وقلبٌ للمعاني أيضاً ، ولا أريد التفصيل وأكتفي بالإشارة إلى هذه المغالطة وأصفها بالكبيرة ، حتى لا يكفِّرونني ! ؛ والأبيات من بحر عروضي هو مجزوء الكامل .
 وعابوا عليه في البحر الطويل قوله :
شُمولاً تَخَطَّتها المَنُونُ فَقَد أَتَتْ
  سِنُونٌ لَهَا فِي دَنِّهَا وَسِنُونُ

تُرَاثُ أُنَاسٍ عَن أُنَاسٍ تخَرَّمُوا
  تَوارَثَهَا بَعدَ البَنِينِ بَنُونُ

 قالوا رفع نون الجمع ، وقد أجاز النحاة لغيره من الشعراء ذلك في الضرورة الشعرية ، وليس لأبي نؤاس ضرورة شعرية كما شرحْتُ وبيَّنْتُ ، لكنَّ بعض العرب يجرونَ النون الزائدة مجرى الأصلية فيعربونها في الشعر وغيره ، ويجعلونها بمثابة كلمة واحدة مع ما اتصلتْ به ، فإذا كان أبو نؤاس من هؤلاء فلا خطأ عنده ، وهذا الموضوع ـ موضوع النون الزائدة ـ فيه خلاف وفيه نظر ؛ وعندي : إنَّ أبا نؤاس أخطأ وتمادى في الخطأ .
 وعابَ نقاد الشعر على أبي تمَّام قوله :
مِن كُلِّ أَظمَى الثَرَى وَالأَرضُ قَد نَهِلَتْ
  وَمُقشَعِرّ الرُبَا وَالشَمسُ فِي الحَمَلِ

البيت من بحر البسيط العروضي ، والصحيح أنْ يقول : ( ظمآن الثرى ) لا ( أظمى الثرى ) ، لأنَّ الواحدة ( ظمأى ) كـ ( عطشان وعطشى ) ، ولا ضرورة فيه إذا قصد أبو تمَّام بـ ( أظمى ) معنى آخر هو : ( أسود ) ، فكأنَّه أراد سواد التراب أو سماره ، فـقد قـالتِ العرب : ( رمحٌ أظمى ) إذا كان أسمر ، و ( فتاة ظمياء ) إذا كانت كذلك .
 وعابوا عليه قوله :
أَظُنُّ دُموعَها سَنَنَ الفَريدِ
  وَهِي سِلكَاهُ مِن نَحرٍ وَجيدِ

فقد أراد أنْ يقول : (أَظُنُّ سَنَنَ دُموعَها سَنَنَ الفَريدِ ) ، فـ ( السَنَن : الطريق ) ، فهو يشبِّه تتابع الدموع بتتابع الفريد النادر ، وكان الصحيح أنْ يقول : ( أظنُّ دموعها الفريد ) لأنَّه هو الذي يشبه الدموع لا طريقه ، ولو قال ذلك لاختلَّ عنده البحر العروضي الذي هو الوافر .
 أمَّا المتنبي ـ مالئ الدنيا وشاغل الناس ـ فقد عابوا عليه قوله :
خَلَتِ البِلادُ مِنَ الغَزَالَةِ لَيلَهَا
  فَأَعَاضَهَاكَ اللَهُ كَي لا تَحزَنَا

 هذا البيت من البحر الكامل ، وهو آخر بيتٍ من قصيدةٍ للمتنبي مطلعها :
الحُبُّ مَا مَنَعَ الكَلامَ الأَلسُنَا
  وَأَلَذُّ شَكوَى عَاشِق ٍ مَا أَعلَنَا

ختم المتنبي هذه المطولة الرائعة ببيت فيه ضعفٌ في التأليف ، فقد وصل الضميرينِ اللذينِ كان يجب عليه فصلهما في قوله : ( فَأَعَاضَهَاكَ ) ، ليس هذا فقط بلْ قدَّم فيهما الواجب تأخيره ، وهو الهاء ، فالصواب أنْ يقول : ( فأعاضكَ الله إيَّاها ) ، ولو قال كذلك لتهدَّم عنده بحر الكامل العروضي .
ومن نفس البحر عابوا عليه في قصيدةٍ أخرى قوله مكرِّراً الضمير :
جَفَخَتْ وَهُم لا يَجفَخُونَ بِهَا بِهِم        
  شِيَمٌ عَلى الحَسَبِ الأَغَرِّ دَلائِلُ

 فقد لجأ المتنبي إلى التعقيد اللفظي ليُسَوِّي أو يستوي عنده البحر العروضي ، فقد كان كلامه خفيَّ الدلالة على المعنى المراد ، فالألفاظ غير مرتبة وفق ترتيب المعاني ، والسبب تكرار الضمير ، فقصده أو أصل الكلام عنده : ( جفخَتْ بهم شيم دلائلٌ على الحسب الأغرِّ ، وهم لا يجفخونَ بها ) ، وبهذا البيت شوَّه رائعته التي ورد فيها ومطلعها :
لَكِ يا مَنازِلُ في القُلوبِ مَنازِلُ
  أَقفَرْتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ

 ومن بحر الكامل أيضاً عابوا عليه قوله :
هَذي بَرَزْتِ لَنا فَهُجْتِ رَسِيْسَا
  ثُمَّ اِنثَنَيْتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيْسَا

فقد أخطأ بأن أسقط حرف النداء ( يا ) مع المبهم الذي هو ( هذي ) ، فالصحيح أنْ يقول : ( يا هذي ، أو يا هذه ) .
وعابوا عليه من بحر الكامل كذلك قوله :
جَلَلاً كَمَا بِيَ فَليَكُ التَبرِيحُ
  أَغِذاءُ ذَا الرَشَأِ الأَغَنِّ الشِيحُ

فالصحيح أنْ يقول : ( فليكنْ التبريحُ ) ، فنون ( كان ) المحذوفة عند الجزمِ يجب إعادتها إذا لاقَتْ الألف واللام ، وهنا أخطأ المتنبي خطأ نحوياً شنيعاً .
وعابوا عليه أيضاً قوله :
أُحَادٌ أَم سُداسٌ فِي أُحَادِ
  لُيَيْلَتُنَا المَنوطَةُ بِالتَنادِ

فقد أخطأ في هذا البيت الذي هو من بحر الوافر في ثلاثة مواضع ، أولها : أنَّه صرَّف ( أحاد ) الممنوع من الصرف ، وثانيها : قوله ( سداس ) والعرب لم تجاوز في العدد ( رباع ) ، وآخرها : إنَّه حذف الياء من آخر تصغيره لـ ( ليلة ) ، فقد قال : ( لُيَيلَتُنَا ) ، والصحيح أنْ يقول : ( لُيَيلَيتُنا ) ؛ هذا ما قاله عنه نقاد الشعر ، وفيه أقول : إنَّه أخطأ في صرف ( أحاد ) الممنوع من الصرف في موضعينِ ، وأخطأ في تصغير ( ليلة ) ، لكنَّه لم يخطأ في قوله ( سداس ) لأنَّ القياس لا يمنع ، ولا يعتدُّ بأنَّ العدد ( رباع ) هو أعلى ما ورد في قرآن المسلمينَ ، لأنَّه ورد في تحديد أعلى عدد للزوجات التي يحقُّ للمسلم الواحد أنْ يجمعها على ذمَّته في وقتٍ واحد ، والقياس لا يمنع كما قلنا ، جاء في شعر الكميت بن زيد الأسدي ما لمْ يعترضْ عليه النحاة ، أو يعتبروه من الضرورات الشعرية ـ باعتبار أنَّ للكميتِ ضرورة ـ قولة في بيت من بحر المتقارب :
فَلَمْ يَِسْتَريثُوكَ حَتَّى رَمَيْـ
  تَ فَوقَ الرِجَالِ خِصَالاً عُشَارَا

 وعابوا على المتنبي أيضا ً قوله :
واحَرَّ قَلبَاهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
  وَمَن بِجِسمِي وَحَالِي عِندَهُ سَقَمُ

 البيت من بحر البسيط العروضي ، أخطأ فيه المتنبي بأنْ وصل المندوب وحرَّك الهاء الساكنة التي تدخل في الوقف ، كما أنَّه أسقط الياء من المضاف إليه ، فالصحيح أنْ يقول ( واحرَّ قلبياه ) .
 وعابوا عليه من بحر البسيط نفسه قوله :
إِبعِدْ بَعِدْتَ بَياضاً لا بَيَاضَ لَهُ
  لأَنتَ أَسوَدُ فِي عَينِي مِنَ الظُلَمِ

 الصحيح أنْ يقول : ( أشدُّ سواداً ) ، فلا يصحُّ لغة أنْ تقول : ( هذا أسود من هذا ) ، بل : ( هو أشدُّ سواداً ) ، وفي التعجب لا يصحُّ قولك : ( ما أسودَه ) ، بلْ تقول : ( ما أشدَّ سواده ) ، وقد استغرب نقاد الشعر من المتنبي وأنكروا عليه قوله هذا وهو في معنى التعجُّب .
 ومن البحر الطويل عابوا عليه قوله :
حَمَلْتُ إِلَيهِ مِن لِسَانِي حَديقَةً
  سَقَاها الحِجَى سَقيَ الرِيَاضَ السَحَائِبِ

 فقد فرَّق المتنبي بين المضاف والمضاف إليه وخفضه ـ أي أبقاه مجروراً ـ فالصحيح والصواب أنْ يقول : ( سقيَ السحائبِ الرياضَ ) أو ( سقيَ الرياضَ السحائبُ ) ، والأمران لا يتناسبان ولا يلائمانِ البحر العروضي وقافيته .
 لمْ يقتصر نقد نقاد الشعر العربي القدامى على هؤلاء الشعراء الثلاثة ـ ( أبو نؤاس وأبو تمَّام والمتنبي ) ـ الذينَ مثَّلْتُ لهم ، لكنَّني اخترتهم لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم من يمثِّل قامة شاخصة من قامات الشعر العربي ، فأبو نؤاس ( 146 ـ 198هـ ، 763 ـ 813م ) هو أوَّل مَن خصَّ الخمرة بقصيدة منفردة ولم يسبقه إلى ذلك غيره ، وأبو تمَّام ( 188 ـ 231هـ ، 803 ـ 845م ) هو رأس الشعراء المولِّدِينَ أو هو الأبرع في توليد المعاني ، أمَّا المتنبي ( 303 ـ 354هـ ، 915ـ 965م ) فهو مالِئ الدنيا وشاغل الناس بأشعاره ومعانيها ؛ وربَّما اقتصر اختياري لهم أو عليهم لأنَّني وجدْتُ معظم شواهدهم التي نقلتها مجموعة في كتاب واحد هو : ( ما يجوز للشاعر في الضرورة ) لأبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي النحوي المعروف بالقزاز القيراوني ، بتحقيق الأستاذينِ الدكتورينِ : رمضان عبد التواب وصلاح الدين الهادي ، نشرته لهما دار العروبة بالكويت ، بإشرافٍ من دار الفصحى بالقاهرة ، التي طبعته بمطبعة المدني التابعة للمؤسَّسة السعودية بمصر في العام 1982م .
 وبإمكان القارئ الكريم أنْ يكتشف بعد أنْ يضع هذا الكتاب بين يديه أنَّني ردَدْتُ رواية الأبيات إلى صيغتها التي جاءَتْ بها في دواوين شعرائها ـ ( أبو نؤاس ، وأبو تمام ، والمتنبي ) ـ وكتبْتُ عليها تعليقاتي ورأيي الذي هو خاصٌ بي ، والذي ليس بالضرورة أنْ يتطابق مع رأي المصنِّف ورأيي والمحققينِ ، وقد كثر الاختلاف معهم أو قلَّ توافقي معهم جميعاً ، وقد أضفْتُ على تلك الشواهد شاهدينِ للمتنبي أحفظهما في ذاكرتي وتحققتُ منهما لدى مراجعتي لديوانه ، وأعرف غيرهما لكنَّني لا أريد الإطناب والإطالة أكثر ممَّا أطنبْتُ وأطلْتُ .
***
 وقد برع نقاد الشعر في جانبٍ آخر هو نقدهم للمعاني ، وبرع الشعراء كذلك في التأويل والتبرير والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة أكتفي بسوق بعضٍ منها :
 * قال أحدهم لبشار بن برد : إنَّك لتجيء بالشعر المتفاوت ، قال بشار : وما ذاك ؟ ، قال : ( تقول شعراً ثير به النقع ) ـ أي الغبار ـ في قولك :
كَأَنَّ مُثَارَ النَقعِ فَوقَ رُؤُسِنَا
  وَأَسيافَنا لَيلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُه

    وتخلع به القلوب ، مثل قولك :
إِذا مَا غَضِبْنَا غَضبَةً مُضَرِيَّةً
  هَتَكْنَا حِجَابَ الشَمسِ أو تُمطِرَ الدَمَا

إِذا مَا أَعَرْنَا سَيِّداً مِن قَبيلَةٍ
  ذُرَا مِنبَرٍ صَلّى عَلَينا وَسَلَّما

إلى أنْ تقول :
رَبابَةُ رَبَّةُ البَيتِ
  تَصُبُّ الخَلَّ في الزَيتِ

لَها عَشرُ دَجاجاتٍ
  وَديكٌ حَسَنُ الصَوتِ

فقال بشار : لكلِّ شيءٍ وجهٌ وموضع ، فالقولان الأوَّلان جِدٌ ، وهذا الأخير قلته في جاريتي ربابة ، لأنَّني لا آكل البيض من السوق ، وربابة هذه لها عشرُ دجاجاتٍ وديك ، وهي تجمع البيض منها وتحفظـه لي ، وهذا القول عندها أحسنُ من قول : ( قِفَا نَبْكِ مِن ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ) عندك .
 * واجتمع الفرزدق وجرير عند عبد الملك بن مروان في مجلسه ، فقال الفرزدق : النوار بنتُ مجاشع ـ زوجته ـ طالقٌ ثلاثاً إنْ لم أقلْ قولاً لا يستطيع ابن المراغة ـ لقب أم جرير ، لقبها به الفرزدق ، والمراغة : الأتان ، أو أنثى الحِمار العادي والوحشي ـ أنْ ينقضه أبداً ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً ، فقال عبد الملك ما هو :
فَهَل أَحَدٌ يَا ابنَ المرَاغَةِ هَارِبٌ
  مِنَ المَوتِ ؟ ، إِنَّ المَوتَ لا بُدَّ نائِلُه

فَإِنِّي أَنَا المَوتُ الَّذي هُوَ ذاهِبٌ
  بِنَفسِكَ ، فَاِنظُر كَيفَ أَنتَ مُحاوِلُه ؟

 سكت جرير قليلاً ، ثمَّ قال : أمُّ حرزة ـ زوجته ـ طالقٌ ثلاثاً إنْ لم أكن نقضته وزدْتُ عليه ، فقال عبد الملك : هاتِ فقد والله طلَّق أحدكما لا محالة ، فأنشد :
أَنا البَدرُ يُعشِي طَرفَ عَينَيكَ فَاِلتَمِسْ
  بِكَفَّيْكَ يَا ابنَ القَيْنِ هَلْ أنتَ نَائِلُه ؟

أَنا الدَهرُ يُفنِي المَوتَ وَالدَهرُ خَالِدٌ
  فَجِئْنِي بِمِثلِ الدَهرِ شَيئاً يُطَاوِلُه

 بين بيتي جرير ثلاثة أبيات أخرى حذفتهما لأركِّز على المعنى المنشود ؛ وابن القين هو : الفرزدق لا غيره ، والقينُ هو الحداد ، وكان جرير لصعصعة جدِّ الفرزدق قيون ، منهم : جبير ووقبان وديسم ، فلذلك جعل جرير قوم الفرزدق قيوناً ، وكان جرير أيضاً ينسب غالب بن صعصعة والد همام الفرزدق إلى جبير القين .
فقال عبد الملك للفرزدق : فضلك والله وطلَّق عليك ، فقال الفرزدق : فما يرى أميرُ المؤمنينَ ، فقال الخليفة : وأيم الله لا تريم ـ يقصد : لن أدعك والله تربح المكان ـ حتى تكتب إلى النوار بطلاقها ، فتأنَّى الفرزدق وحاول التهرُّب ، فزجره عبد الملك ، فكتب بطلاقها وقال في ذلك :
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا
  غَدَت مِنِّي مُطَلَّقَة نَوَارُ

وَكانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنهَا
  كَآدَمَ حِينَ لَجَّ بِها الضِرَارُ

وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَينَيهِ عَمْدَاً
  فَأَصبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النَهَارُ

وَلا يُوفِي بِحُبِّ نَوَارَ عِندِي
  وَلا كَلَفِي بِها إلا اِنتِحَارُ

وَلَو رَضِيَتْ يَدايَ بِها وَقَرَّتْ
  لَكانَ لَهَا عَلَى القَدَرِ الخيَارُ

وَمَا فَارَقْتُهَا شبعَـاً وَلَكِنْ
  رَأَيْتُ الدَهرَ يَأخُذُ مَا يُعَارُ

 والكسعي هو : غامد بن الحرث الكسعي ، من أمهر الرماة وأحسن الصيادين ، قالتْ عنه العرب في أمثالها : ( أندم من الكسعي ) ، لأنَّه اتَّخذ قوساً وخمسة أسهم ، وقصد مورد حمر وحشية وكمن لها ، فمرَّ به قطيع منها ، ورمى واحداً فنفذ فيه السهم وجازه ليصيب الجبل وأورى ناراً ، فظنَّ أنَّه أخطأه ، فرمى ثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً ، وهو في كلِّها يظنُّ خطأه ، فعمد إلى قوسه فكسرها ، ثمَّ باتَ ، ولمَّا أصبح الصبح فإذا الحمر مطروحة مصروعة وأسهمه بالدم مضرَّجة ، فندم ندماً شديداً ، وعضَّ إبهامه حتى قطعه .
  * وعابوا على الأحوص قوله لعمر بن عبد العزيز :
وأَرَاكَ تَفعَلُ مَا تقولُ وَبَعضُهم
  مَذْقُ الحديثِ يَقُولُ مَا لا يَفعَلُ

 لأنّ َالملوك لا يُمدحونَ بما يلزم عليها فعله أو القيام به ، بل تمدحُ بالإغراق والتفضيل بما لا يستطيع غيره فعله .
 * وعاب نفرٌ من النقاد على كثيِّر عزَّة قوله :
أُريْدُ لأَنسَى ذِكرَهَا فَكأنَّما
  تَمَثَّلُ لِي لَيلَى بِكُلِّ سَبِيلِ

 فقالوا : إذا كان يحبُّها لماذا يريد أنْ ينسى ذكرها ؟ .
 * وعابوا على يزيد بن مالك الغامدي قوله :
أكُفُّ الجَهلَ عَن حُلَمَاءِ قَومِي
  وأَعْرِضُ عَن كَلامِ الجَاهِلِينَا

إذا رَجُلٌ تَعَرَّضَ مُسْتَخِفَّاً
  لنَا بِالجَهلِ أَوشَكَ أنْ يَحِيْنَا

 لأنَّه أوجب لنفسه في البيت الأوَّل الحلم والإعراض عن الجُهَّال ، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتماديه في معاقبة الجاهل بأقصى عقوبة وهي القتل .
 * وقف أبو نؤاس بين يدي الفضل بن يحيى البرمكي ، مادحاً إيَّاه وآله ـ آل برمك ـ بقصيدة مطلعها :
أَرَبْعَ البَلى إِنَّ الخُشُوعَ لَبَادِي
  عَلَيكَ وَإِنِّي لَمْ أَخُنْكَ وِدَادِي

 ولمَّا وصل إلى قوله في آخرها :
سَلامٌ عَلى الدُنيَا إِذا مَافُقِدْتُمُ
  بَنِي بَرمَكٍ مِن رائِحِينَ وَغَادِي

 اشمأزَّ منه الفضل وكشَّر في وجهه واغتاظ منه وكرهه ، ثم أطرق قائلاً له : ويحك نعيْتَ إلينا أنفسنا يا أبا نؤاس ، فما كان من أبي نؤاس إلا أنْ استطرد قائلاً مرتجلاً مكمِّلاً لتلك القصيدة :
بِفَضلِ بنِ يَحْيَى أَشرَقَـتْ سُبُـلُ الهُدَى
  وَأَمَّنَ رَبِّي خَوْفَ كُلِّ بِلادِ

فَدُونَكَهَا يَا فَضْلُ مِنِّي كَرِيمَةً
  ثَنَتْ لَكَ عَطْفاً بَع~دَ عِزِّ قِيَادِ

خَلِيلِيَّةٌ فِي وَزنِهَا قُطرُبِيَّةٌ
  نَظائِرُها عِندَ المُلُوكِ عَتَادي

وَمَا ضَرَّها أَنْ لا تُعَدَّ لِجَرْوَلٍ
  وَلا المُزَنيِّ كَعْبٍ وَلا لِزِيَادِ

 فغطى على فعلته ، وأسكت الفضل البرمكي عنه فنال عطاياه ، ولم تمضِ على هذه الحادثة إلا مُدَّة قصيرة حتى أوقع الرشيد بآل برمك كلِّهم ، فصحَّ فأل أبي نؤاس فيهم ! .
 * واستهجنوا قول أبي محجن الثقفي في وصف جاريةٍ مغنية :
وتُرْفِّعُ الصَوتَ أحيَانَاً وَتخفضُهُ
  كَمَا يَطِنُّ ذبَابُ الروضَةِ الهَزِجُ

 فقالوا أيُّ قينةٍ هذه التي تحبُّ أنْ تُشبَّه بالذباب ؛ وقالوا بأنَّه سرق بيت عنترة بن شداد العبسي في وصف ذباب الرياض فقلبه مفسداً المعنى ، وهذا البيت المسروق هو :
وَخَلا الذُبَابُ بِهَا فَلَيسَ بِبَارِحٍ
  غَرِداً كَفِعلِ الشَارِبِ المُتَرَنِّمِ

 * كذلك استهجنوا قول محمد بن أحمد بن حمدان المعروف بالخباز البلدي ـ نسبة إلى مدينة ( بلد ) العراقية ـ  ذلك الشاعر الأميُّ المتوفى سنة ( 380هـ ـ 990م ) ، والذي قال عنه أبو منصور الثعالبي صاحب كتاب ( يتيمة الدهر ) : ( كان أمياً وكان حافظاً للقرآن يقتبس منه ، ………. ، ومن عجيب شأنه أنَّه كان أميَّاً وشعره كلُّه مُلحٌ وتحفٌ ، وغررٌ ولُطف ، لا تخلو مقطوعة له من معنىً أو مثلٍ سائر ) ، قلتُ : ومع ذلك استهجنوا قوله :
كَأنَّ شَقَائِقَ النُعمَانِ فِيهِ
  ثِيَابٌ قَد رُوِيْنَ مِن الدِمَاءِ

 مع أنَّ تشبيه الشاعر هنا هو تشبيه مصيب ، إلا إنَّ فيه بشاعة في ذكر الدماء .
* واستقبح قول الداهية بشار بن برد :
وَجَدَّت رِقَابُ الوَصلِ أَسيَافَ هَجرِنَا
  وَقَدَّت لِرجْـلِ البَينِ نَعلَينِ مِن خَدِّي

 فقالوا : ما أهجن ( رجل البين ) وأقبح استعارتها ولو كانتْ الفصاحة بأسرها فيها ، وكذلك قالوا عن ( رقاب الوصل ) .
 * أمَّا أبو تمام فقد نال نصيبه من استقباح النقاد واستهجانهم وتعييبهم شعره ، ومن ذلك قوله :
فَلَوَيْتَ بِالمَوعُودِ أَعنَاقَ الوَرَى
  وَحَطَمْتَ بِالإِنجَازِ ظَهْرَ المَوعِدِ

 فالمعنى في غاية الرداءة ، وفي ( حَطْم ظهر الموعد ) استعارة قبيحة جداً ، فالإخلاف هو الذي يحطم ظهر الموعد لا الإنجاز .
وقوله :
تَحَمَّلتَ ما لَو حُمِّلَ الدَهرُ شَطرَهُ
  لَفَكَّرَ دَهراً أَيُّ عِبأَيهِ أَثقَلُ

 قالوا : ليس هناكَ معنىً أبعد من الصواب من هذه الاستعارة المَكنيَّة ، بأنْ جعل للدهر عقلاً وجعله مفكِّراً في أيِّ العِبأينِ أثقل .
ومثله قوله السابق في نفس القصيدة :
بِيَومٍ كَطُولِ الدَهرِ فِي عرضِ مِثلِهِ
  وَوَجدِيَ مِن هَذا وَهَذاكَ أَطوَلُ

 فمن المحال أنْ يكون للدهر عرضٌ .
كذلك استهجنوا إلباسه الزمان صوفاً بعد أنْ كانوا رداءً له ، في قوله :
كَانُوا بُرُودَ زَمَانِهِم فَتَصَدَّعُوا
  فَكَأَنَّمَا لَبِسَ الزَمَانُ الصُوفَا

 ولم يستحسنوا تشبيهه الظُلم بالبعير ووصفه له بأنَّه بارك ، في قوله :
كُلُوا الصَبرَ غَضَّاً وَأَشرَبُوهُ فَإِنَّكُم
  أَثَرْتُم بَعِيْرَ الظُلمِ وَالظُلمُ بَارِكُ

 * وكان الآمدي صاحب كتاب ( الموازنة بين الطائيينِ ) قد استهجن واستقبح قول أبي عبادة البحتري في مدح الخليفة المعتزِّ بالله :
لا العَذْلُ يَردَعُهُ وَلا الـ
  ـتعْنِيفُ عَن كَرَمٍ يَصُدُّهُ

 فقال : وهذا عندي من أهجن ما مُدِح به خليفة وأقبحه ، مَن ذا يعنِّف الخليفة أو يصدُّه ؟ ، إنْ هذا بالهجو أولى منه بالمدح .
***
وهناك نوع أخيرٌ من نقد الشعر العربي لن أتطرَّق إلى نماذجه حتى لا تطول هذه المقالة أكثر ممَّا طالتْ ، وهو ما استحسنوه منه وأثنوا عليه ، علماً أنَّ عندي منه شواهد كثيرة ، كما أنَّ عندي شواهد أخرى كثيرة ممَّا عابوه واستهجنوه واستقبحوه غير التي ذكرتها لم أتطرَّق إليها لنفس السبب .
لم يبقَ لي في هذه الأكتوبة إلا أنْ أشير إلى أنَّها رسالة إلى كلِّ مَن يتصدَّونَ لكتابة الشعر ويضمِّنونه أخطاءً لغوية بادِّعاءٍ باطل أنَّها ضرورات شعرية ، فلا علاقة للخطأ اللغوي بالضرورة الشعرية التي توقفتْ عند بشار بن برد المتوفى سنة ( 167هـ  ـ 783م ) ، كما شرحتُ وبيَّنتُ قبلاً .
أمَّا شويعري ما يسمُّونها أو يطلقونَ عليها ( قصيدة النثر ) ، فأقول لهم : أنا لا أعرف أنَّ للنثر قصيدة ، وقد كتبْتُ عن ذلك في مقالة سابقة لي ، وعندي عن النثر وقصيدته المزعومة بحثٌ طويلٌ ضافٍ سأنشره يوماً ما على صفحات جريدة ( الزمان ) إذا راق القائمينَ على النشر فيها واستحسنوه ، وسأناقش فيه بالتفصيل المُمِلِّ موضوعَ ترجمة أشعار الشعراء الغربيينَ الذين قلَّدهم شويعرونا ولبسوا ثوبهم ، ومنهم ابتدعوا بدعتهم التي سمَّوْها ( قصيدة النثر ) ، وخلطوا بينها وبين الشعر الحرِّ ، من دون معرفةٍ ودرايةٍ ، وللأسف ساعدهم بعض نقَّادنا على ذلك كلِّه بأنْ أثنوا عليهم ومدحوهم أو سكتوا ، حتى لا يُتَّهمونَ ـ أو لا يتهمونهم ـ بالرجعيَّة والانغلاق ؛ وسأبتعد فيه عن ذكر أسمائهم حتى لا أجرح مشاعرهم ، وربَّما أبتدع لهم نصوصاً قريبة من كتاباتهم بتغيير بعض المفردات أو إضافة أخرى من عندي ، حتى لا أقتبس نصوصهم التي سأسفِّه عباراتها وأطعن ببيانها وأفكِّك تراكيبها المفكَّكة أصلاً ، فأحزنهم على أنفسهم ، وأغضبهم منِّي .
 وأخيراً وليس آخراً : هذا ما عنَّ لي اليوم من ملاحظاتٍ ، آملاً أنْ ألتقيكم في مناسباتٍ أخرى أعرض لكم فيها نماذج نقدية أخرى عن نقد شعر العرب ونثرهم .
 
ـــــــــــــــــــــ

للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة إلى :
[email protected]
[email protected]