في أقل من أسبوع بدل الرئيس دونالد ترامب المشهد في سورية. فاجأ وزير خارجيته ريكس تيلرسون ومندوبته إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي المعنيين بالأزمة السورية ان رحيل الرئيس بشار الأسد ليس أولوية. وأن القرار يعود إلى الشعب السوري. لم يمض أسبوع حتى كانت صواريخ «توماهوك» تدك إحدى أهم القواعد الجوية شرق حمص. سيد البيت الأبيض قال إن بلاده انتصرت للعدالة. ودعا الدول المتحضرة الى السعي لإنهاء المذبحة وإراقة الدماء في بلاد الشام. هاله منظر الأطفال في مذبحة الكيماوي في خان شيخون. برر هذا التدخل العسكري الأحادي بمنع انتشار الأسلحة الكيماوية واستخدامها. وهذا من مصلحة الأمن القومي لبلاده. وصف المسؤولون في إدارته الضربة الصاروخية بأنها «رد مبرر ومناسب وتظهر حزمنا». وتوعدوا بالمزيد إذا لجأ النظام السوري إلى الأسلحة المحرمة دولياً منذ الحرب العالمية الأولى. لم تنتظر واشنطن قراراً من مجلس الأمن بعدما سمعت رواية روسيا عن المذبحة. رصدت أجهزتها العسكرية انطلاق الطائرات السورية من قاعدة الشعيرات، وتابعت سير خطها حتى إلقائها قنابلها السامة على الآمنين من نساء وأطفال. لا تحتاج إلى إضاعة الوقت في حوار عقيم مع موسكو التي كانت تدرك أنها لن تكون قادرة على تسويق روايتها المفبركة. ذلك أنها كانت أخذت على عاتقها في اتفاق آب (اغسطس) 2013 مع إدارة الرئيس باراك أوباما ضمان تدمير دمشق ترسانتها الكيماوية بعدما استخدمت بعضها في ضرب الآمنين في الغوطة الشرقية. ولا يمكنها تالياً أن تتحمل اتهامات بأنها لم تلتزم كلمتها، أو فشلت في إلزام حليفها. أو أن هذا الحليف الذي حالت دون تعرضه لضربة أميركية – فرنسية أخفى عليها الكثير من برنامجه.
مجزرة خان شيخون لم تكن المرة الثانية أو الثالثة بعد الغوطة. استخدم النظام السوري الأسلحة المحرمة في أكثر من موقع عامي 2014 و2015. بل إن تقريراً صدر العام الماضي تحدث عن نحو مئة وخمسين هجوماً كيماوياً. والواقع أن النظام الذي لم يعد يملك عديداً قادراً على مواجهة الفصائل المسلحة، اعتمد ولا يزال لتعويض هذا النقص على ميليشيات محلية وأخرى متعددة الجنسية ترعاها إيران و «حرسها الثوري». مثلما اعتمد على السلاح الكيماوي أداة فعالة للقتل والترويع. خصوصاً أنه لا يزال يتمسك بشعار الحسم العسكري. لكن التوقيت خانه هذه المرة. أراد الرئيس الأسد اختبار إدارة ترامب. شجعته تصريحات تيلرسون وهايلي قبل أيام. بل لعله لم يجد وسيلة للتخلص من ضغوط موسكو في آستانة وجنيف لإلزامه احترام الهدنة والتقدم جدياً نحو تسوية سياسية، سوى المغامرة بإثارة مشكلة بين واشنطن وموسكو تعيق رغبتهما في أي تفاهم محتمل قد يضع مصيره ومستقبله على الطاولة بين أوراق أخرى. أو لعله استهدف أولاً وأخيراً إسقاط مشروع التسوية التي تسوق لها روسيا. قال في مقابلة صحافية قبل ساعات من المذبحة إن حكومته ليس أمامها خيار سوى الانتصار. وأنها لم تستطع التوصل الى نتائج مع مجموعات المعارضة في المحادثات الأخيرة. ولا شك في أنه سبب إحراجاً كبيراً لموسكو التي علقت اتفاقها العسكري مع واشنطن والخاص بالتنسيق في الأجواء السورية. وهكذا عدّ الكرملين الغارة الصاروخية «عدواناًعلى دولة ذات سيادة وانتهاكاً للقانون الدولي»… كأن استخدام السلاح الكيماوي ليس انتهاكاً لاتفاقات دولية! واعتبر وزير الخارجية سيرغي لافروف أن «أي تعاون بين البلدين سيكون مستحيلاً» بعد الضربة.
راكم الرئيس ترامب رصيداً كبيراً بعد هذه الضربة. ووجه رسالة قاسية إلى نظام الأسد مفادها أنه لن يفلت من العقاب بعد اليوم إذا لجأ إلى أسلحة محرمة. وقدم نفسه إلى الأميركيين وأوروبا والعالم في صورة مختلفة عن صورة سلفه. فهو لا يتردد في قرن كلمته بالفعل. ولن يساوم في حماية الاتفاقات والمواثيق الدولية وإن تحركت بلاده منفردة أو بلا غطاء أممي. علماً أنه أبلغ بعض حلفائه الأوروبيين سلفاً قبل الغارة وطلب دعمهم، خصوصاً بريطانيا. وقد نجح في كسب تأييد خارجي واسع لخطوته خصوصاً في أوساط شركائه الأوروبيين. كما نال تقريظاً واسعاً في الأوساط السياسية المحلية. ووجه رسالة إلى روسيا وإيران أنه حاضر ومستعد لرفع وتيرة انخراطه في الساحة السورية، ما دام أن البلدين لم يبدلا موقفهما من الأزمة منذ تدخلهما العسكري. ولم يتقدما خطوة فعلية واحدة بحثاً عن تسوية معقولة. ولم يمارسا ضغوطاً على نظام لم يبد أي استعداد جدي للحل متمسكاً بالحسم العسكري. بالطبع أرسلت واشنطن إشارات واضحة إلى موسكو أن الغارة الصاروخية هذه حدودها. ولا نية أو خطة لإطاحة الأسد. أو حتى لتغيير موازين القوى القائمة على الأرض. وهذا ما يطمئن الرئيس بوتين الحساس جداً حيال أي تحرك لتغيير أي نظام بفعل تدخل خارجي.
ولعل وزير الخارجية الفرنسي جان مارك ايرولت أصاب في قوله إن الأميركيين بدأوا بتوضيح موقفهم بأن «مستقبل سورية ليس مع بشار الأسد». فما تشي به مواقف الدوائر الأميركية أن إعادة تأهيل الرئيس الأسد لم يعد خياراً. لم يعد أحد في الغرب يرى إلى هذا الاحتمال وارداً. لكن الغارة لا تشكل حتى الآن خطوة في سياق سياسة واضحة للإدارة الأميركية الجديدة. ثمة موقفان في صفوفها لم يلتقيا على رؤية واحدة بعد. هناك من لا يزال يتمسك بأن الحرب على الإرهاب لا تزال أولوية. تليها مواجهة النفوذ الإيراني في بلاد الشام والإقليم كله. وهو أمر قد يتحقق بنظر هؤلاء إذا نجحت الحملة لتحرير الرقة وأثمرت قيام «إقليم كردي» في شمال سورية وشرقها على غرار كردستان العراق يكون حليفاً للولايات المتحدة ويوفر لها قواعد يمكن عبرها قطع الجسر الذي يربط الانتشار الإيراني في كل من العراق وسورية ولبنان تالياً. ويعفيها من ضغوط تركيا وتلويحها الدائم بإقفال قاعدة إنجيرليك في وجه السلاح الجوي الأميركي. على أن يظل مصير الأسد رهن كلمة الشعب السوري. أما الفريق الآخر فلا يعتقد بأن نجاح الحرب سهل التحقيق في ظل بقاء الأسد ونظامه.
والواقع ان رجال إدارة ترامب لا يزال في حسابهم أن الاعتبارات التي أملت المواقف الأميركية السابقة لا تزال قائمة. أي ان لا بديل جاهزاً لخلافة الأسد. لذلك يخشون أن تعم الفوضى وتنهار المؤسسات. وأن تتفاقم الحروب الأهلية بين المكونات السورية على غرار ما حصل في العراق. لذلك جاءت الضربة مدروسة بعناية. لا تريد واشنطن إثارة موسكو أو الانجرار إلى مواجهة مكشوفة معها. فرئيس الحكومة دميتري ميدفيديف حذر من أن الغارة الصاروخية كادت أن تتسبب بصدام بين البلدين.
يقود ذلك إلى الاستنتاج أن ضربة أخرى مماثلة قد تجر إلى مثل هذا الصدام. ولا يعقل أن تنجر إدارة الرئيس ترامب إلى مثل هذه المغامرة. لن تجازف بدفع حلفاء دمشق إلى مواجهة ميدانية لأنها لا ترغب حتماً في الانجرار إلى المستنقع السوري. كما أن الكرملين معني هو الآخر بمواصلة الحرب على الإرهاب الذي يطرق أبواب المدن الروسية ويهدد شوارعها كما يهدد دول الغرب. وليس مستعداً بالتأكيد لخوض حرب دولية كرمى عيون الأسد. كما أنه لم يعد يأمن جانب مغامراته وتقلباته التي تدفع إلى شفير حرب كبرى. لذلك لا مفر لروسيا والولايات المتحدة من استغلال هذا المنعطف الخطير للصراع، من أجل إعادة إحياء المسار الديبلوماسي. أولاً لإنهاء الحرب وليس فقط وضع قواعد جديدة لها تعيد الاعتبار إلى المواثيق الدولية التي تحرم الأسلحة الكيماوية، وسوق آلاف الأبرياء إلى سجون التعذيب، ومواصلة سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي… وثانياً لإحياء مفاوضات سياسية جدية على أساس بيان جنيف الأول تمهيداً للتغيير الذي يطمح إليه السوريون.
قبل مجزرة خان شيخون بأسبوع كان الرئيس بوتين يمتدح عمق التفاهم بين موسكو وواشنطن في شأن سورية. وكان أركان إدارة الرئيس ترامب يسقطون من سلم أولوياتهم قضية رحيل الأسد. وحتى بعد الغارة حرصوا على طمأنة الكرملين إلى أن لا هدف لإسقاط النظام اليوم. في ضوء ذلك على روسيا أن تبدي استعداداً جدياً لمزيد من التعاون مع الولايات المتــحدة. لا يكفي أن تقدم نفســها قوة كبرى تستند إلى ترسانة عسكرية ضخمة. لن تكتمل هذه الصورة ما لم تثبت فعلاً أنها معنية بترسيخ الاستقرار والحفاظ على السلام الدولي. ومعنية بالحفاظ على المواثيق الدولية. أي عليها أن تؤدي دوراً مختلفاً في الأزمة السورية. لا يمكنها مواصلة حماية نظام موروث من أيام الحرب الباردة. فهي على رغم سعيها إلى العودة قطباً في الساحة الدولية حريصة على إعلان رفضها بعث هذه الحرب مجدداً. جل ما تطالب به هو القول إن النظام الدولي الغربي انتهى ويجب البحث عن نظام بديل. ومن ينادي بذلك لا يمكنه ان يستمر في حماية نظام ينتمي إلى الماضي ويتوارث السلطة ويحتكرها منذ نصف قرن.
لا تعلن الضربة الأميركية حرب «تحرير» في سورية، لكنها يجب أن تثمر حرب «تحريك « لمسار سياسي جاد، وإلا وجدت إدارة ترامب نفسها قريباً أمام امتحان مماثل لمذبحة خان شيخون. فآلة الموت في سورية لا تتوقف ولا توفر أطفالاً ونساء. ولا فرق بين ضحايا الكيماوي أو ضحايا البراميل والقصف الصاروخي. وقد تجد نفسها قريباً مطالبة بمواصلة نهج من الانخراط العسكري محفوف بالأخطار واحتمال اندلاع مواجهة واسعة مع روسيا وإيران. وهو ما لا يرغب فيه سوى النظام في دمشق. إنها فرصة لإعطاء الديبلوماسية دورها ومنحها أسباب النجاح.
نقلا عن الحياة