23 ديسمبر، 2024 4:03 ص

الضحك في زحام الموت

الضحك في زحام الموت

في الجبهات القتالية، وتحديدا عند حيطان الصد وأثناء الهجومات، عندما يصبح الانسان بمواجهة الموت مباشرة، تستفحل المواقف المرعبة والحزينة على عقل كل انسان، هذه المسالة لا تعني النيل من شجاعة المقاتل، بل هذا القلق وانشغال البال جزء من لعبة الحرب.

قد تمر بعض المواقف المضحكة، لكن بالمقابل تمر الكثير من المواقف المحزنة، كيف يستطيع الانسان أن يضحك في موقف يرى الناس تقتل والبيوت تهدم، بشر يحترقون ويصرخون ثم فجاة تنطفئ حياتهم، وأنت ترى ولا حول ولا قوة لك.!

الكثير مثل هذه المشاهد التي تراها هي اصلا كمائن لاصطياد مقاتلي الحشد؛ كون الجميع يعرفهم اصحاب غيرة، مدن عامرة فجأة تتغير معالمها لتنقلب الى خرائب، وكأنها اطلال ماض..! هذه هي الأجواء التي غالبا ما يعيشها المقاتل في الجبهات والتي لا تسمح حتى ان تترك لك فرصة لتفكر بنفسك او بعائلتك..!

تصبح الحياة كلها رهينة ما تعيش الآن، ولكن هناك استثناءات لابد ان تؤمن بها، الاعمار المتقاربة للشباب تخلق بينهم ألفة كبيرة، وهذه الألفة تخلق تواشجا روحيا، واغلب المقاتلين ابناء محافظات تتشابه، يعني تقارب مستويات البيئة، ثم تجد فيهم الاقارب والاصدقاء، وهذا الثنائي الذي ملأ الجبهات ضحكا بريئا، فهما يسخران من كل موقف غير سليم، هما اخوان من اب واحد، كانا لا يكتفيان بالضحك بل تراهما يلعبان حتى في اشد ساعات الحرج..!

ألفة غريبة تتحدى الموت الذي طالما خجل من ابتسامتهما وضحكهما الطفولي، والمشكلة انهما لا يجيدان سرد طريفة واحدة، ولا يفتعلان الضحك، بل كانا يستحضران النكتة من قلب الموقف، يقول جعفر وهو الاخ الاكبر:ـ المواقف المضحكة هي التي تتحرش بنا.

كنت اتوقع مع نفسي انهما ابناء عوالم شيدها البكاء والألم وحرقة لا تهجع، وفعلا اكتشفت انهما ابناء الشهيد عبد الكاظم حسون، احد شهداء الانتفاضة الشعبانية في كربلاء، وقد ربتهما امهما بدموع العين، كانت تواري دمعتها عنهما؛ كي تكبر ابتسامتهما بين الناس.

كان جعفر يحاول دائما ان يهدئ من ضحكات احمد:ـ فضحتنا ما بك؟ وهو يخشى ان يفسر هذا الضحك تفسيرا آخر، وأنا الى الآن لا اعرف: ماذا يعني بالتفسير الآخر..؟ يقول احمد:ـ ما بكم ألا تدرون ان الحرب مهزلة، وإلا فهنا احداث مهلكة من الضحك لا تستطيع ان تراها خارج هذا العالم الرهيب.

لاحظت ان الجميع قد ألفوا هذا الضحك، بل يشاركونهما دائما، فيجدون لذة كبيرة في المشاركة، والاهم انهما مقاتلان نادران من حيث التورية والسيطرة والاقدام، وضبطهما لفنون القتال بشكل متميز.

قاتلا في مدينة العلم وفي بيجي والصقلاوية وفي البغدادي، يقول احمد:ـ أصبحنا مثل والدنا، يقولون انه كان مقاتلا كبيرا من مقاتلي الانتفاضة، وأكيد سنشبه والدنا حتماً؟ من المواقف النادرة عثرنا على داعشي هارب، متنكر بزي امرأة، اعتقد ان الموت كان ارحم عليه من ان يقدموه صيدا سهلا الى احمد وأخيه جعفر.

يا الهي.. كم كان الموقف ساخرا وخاصة عندما كانت توجه له الاسئلة اللاذعة: ماذا ستفعل لو اعجبت بك امرأة من النازحات، وخطبتك لابنها؟ ومثل هذه الاسئلة التي ما عدت اتذكرها وهي خالية من التجاوزات الرخيصة؛ لكونها تصدر من ابناء عائلة متربية، لكن للموقف احكام، فهو كيف يسمح لنفسه ان يهين رجولته الى هذا الحد؟ أليس الموت اهون؟

هذه هي بعض النماذج الواهية التي يقاتلنا بها داعش، وفي موقف آخر عثروا على داعشي تجاوز السبعين من العمر، يتحدث العربية الركيكة التي يجعل فيها الرجل امرأة والمرأة رجلا او ربما مجموعة رجال، رفض آمر اللواء ان يؤذيه احد، ويتم تسليمه الى الاخوين احمد وجعفر.

الله كم كان الموقف مضحكا لحد الذهول، صرنا نخشى ان يختنق احد المقاتلين من الضحك، أظهرا قيمة التصابي الغبية عنده، فهو بهذا العمر لا يحلم إلا بالخمرة والنساء… لا حول ولا قوة الا بالله، بعد مدة قليلة توسل الموت على ان يبقى تحت نير ضحكاتهما..!

الحروب تئن، تئن دائما، ولا يمكن ان توقف مأساتها ضحكات بريئة، هنا دماء تسيل وارواح تزهق وذاكرة المكان لا تقف الا عند هذا الانين، وعند عتاب جعفر لأخيه احمد شبعنا بكاء:ـ. حقا تركتني احمد ورحلت عني شهيدا، وأنا هل حسبت حسابي؟ ألا سألت نفسك مع من اضحك بعد اليوم؟، والقتال مازال مستعرا.