لم يسبق للعراق في التّاريخ المعاصر على الأقل أن تولَّى أعلى سلطةٍ تنفيذية فيه صحفيٌّ كان عاملا في الصّحافة بشكلٍ مباشر، عدا ما كان من بعض النّماذج التي اشتغلت في فتراتٍ مختلفة من حياتِها في الصَّحافة، مثل سعدون حمادي الذي عُيِّن رئيسًا للوزراء في مارس 1991، وقد كان من قبل رئيسًا لتحرير جريدة الجّمهوريّة، ونوري المالكي الذي أشرف على صحيفة الموقف التي كانت تصدر في دمشق، وكان يكتب المقالات وبعض الأعمدة الثّابتة، وتولَّى رئاسة الوزراء في مايو 2006، ومن ثَمَّ عادل عبد المهدي “رئيس الوزراء المستقيل” الذي اشتغل في الصَّحافة والكتابة في فرنسا لسنواتٍ طويلة، وحتّى بعدها استمر بكتابة المقالات لصحفٍ مختلفة، وتسلّم مقاليد رئاسة الوزراء في أكتوبر 2018.
لذا يمكن لنا القول إنَّ الكاظمي مصطفى هو أوَّل رئيس وزراء يحظى بها المنصب؛ من مجتمع الصحفيين، ومعروفٌ عنه أنَّه صحفي متمرِّس، وقد تكون هذه ميزة، أن يكون من يصل لهذا الموقع التنفيذي الحسّاس يمتلك إمكانات الصحفي الكبيرة والكثيرة التي تؤهلُّه لإدارة هذا المنصب بقدرةٍ واحترافيّةٍ عالية، فالصّحفي ينبغي أن يكون ذكيًا محترفًا بارعًا في استخدام أدواتِه، وأهمُّ صفاتِه الصدقُ والحيادُ والمهنيَّة، ولديه آلية للتّعامل مع مجريات العمل قائمة على التخطيط والتفكير المُنظّم والإبداع، ويستطيع استنباط الحقائق والمعلومات بسهولة، ويظلُّ مستمرًا في سبيل إثبات الحقيقة وإيصالها للجمهور.
لكنَّ الذي لا يعرفه أحدٌ هو هل أنَّ هذا الصّحفي سيستخدم ذكائه ومهاراتِه التي امتلكها من عمله في الصّحافة، ومن ثمَّ عمله في جهاز المخابرات الوطني العراقي لأربع سنوات، في تسيير عمل وزارتِه وتنفيذ خططها، أم أنَّه سيصطدمُ بالحواجز الكثيرة الموضوعة والتي ستضعها أمامه الأحزاب السياسية، وتعرقل قدرات وزارته وتتدخّل في عملها؟ وهل سيقوم هو باستخدامها بالأساس؟ وهو المعروفُ بقدراتِه في حل النّزاعات والتفاوض وتقريب وجهات النّظر، والدعوة إلى السَّلام ونبذ العنف والتّطرّف، حسبما يُروَّج عنه، أم أنَّه سيغضُّ الطرف ويُساير الوضع الرّاهن في سبيل الحفاظ على المنصب؟
قد تتحدّد الإجابة عند عرض أهمِّ التحديّات التي تنتظر الكاظمي ووزارته، فهي كثيرة ومتنوعة وبعضُها تتّصف بالصعوبة، خصوصًا فيما يتعلّق بسياسات البلد الرَّئيسة المعنيَّة مثل الانتخابات وغيرها، وقد يعمل الكاظمي على أساس أنَّه سيبقى في هذا المنصب لسنةٍ واحدة فقط، لحين موعد إجراء الانتخابات وتنفيذها، وموضوع العمل على إجراء الانتخابات المبكِّرة، هو أوَّل تحدٍ يواجهُه الكاظمي، وهو ما يُعلِّقُ عليه العراقيون آمالهم، وفي الوقت ذاتِه، تنتظره قضية قتل المحتجين العراقيين في مدن مختلفة من العراق، وما تعرَّضوا له من اغتيالاتٍ وانتهاكاتٍ وضربٍ واعتقالاتٍ ومطاردةٍ وتغييب، فالمحتجون مصرّون على أن يُقدَّم الجناة إلى العدالة وينالون جزائهم، فهل سيكون الكاظمي قادرًا على ذلك؟ ولا يجب أن ننسى أنَّ تلك المجريات حدثت كلُها وكان الكاظمي يدير أهمَّ جهازٍ أمني في البلاد، فبالتأكيد هو والعاملون في الجهاز تحت يديه يعرفون كلَّ تلك التفصيلات التي تتعلَّق بقتل المحتجين وكل العنف الذي تعرَّضوا له، على افتراض أنَّه جهاز استخباراتي، فالمنطقُ يقول إنَّه يعلم كلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ تجري في البلد، فكيف لا يعلم عن الجهات والشخصيات التي كانت وراء حوادث مروّعة تنتهك حقوق الإنسان وتشوّه صورة البلد في الخارج، وإن كان لا يعلم، فتلك مصيبة المصائب، وهي أوَّلُ مؤشرٍ على عدم جديَّته، وعدم مقدرتِه على العمل بنزاهةٍ ومصداقيّة، وهو غيرُ مؤهلٍ لهذا المنصب، سواء كان السبب هو الضغوطات السياسيَّة التي يتعرَّض لها، أو أنَّه كان لا يعلم أيَّ شيء في الحقيقة، مثله مثلَ كثيرٍ من ساسة العراق، الذين لا يعلمون شيئا، أو يدَّعون ذلك.
والملفات الأخرى التي تنتظره، تتمثّل في إنهاء الفساد الذي استشرى في كلِّ شبرٍ من العراق، وساهم بإضعاف أجهزة الدّولة الرّقابيَّة، وأداء المؤسسات الخدميَّة، وما إلى ذلك من تبعات، والتحدّي الثاني هو الواقع الاقتصادي الهش للعراق، والذي أثَّـرَ سلبًا على البطالة في العراق بشكلٍ كبير، وساهم بارتفاع عدد العاطلين عن العمل بين فئة الشباب. وكلُّ هذه الأسباب قادت إلى ازدياد رقعة الفقر الجغرافيَّة، وهي مؤشرٌ خطيرٌ على نوعيَّة الأزمة التي تعصف بالبلد، خصوصًا في ظلِّ أزمة جائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وما تلاهما من آثارٍ سلبيَّة على مستوى الاقتصاد والسّياسة، ويصاحبُ كلَّ ذلك غياب التخطيط والاستراتيجيّات والرؤى السياسيّة والماليّة والاقتصاديَّة، التي يمكن أن تنقذ البلد من الهاوية.
اليوم، يتساءل الشارع العراقي: هل سينالُ الكاظمي وتشكيلته الوزاريَّة ثقة المواطنين ورضاهم؟ وهل سيقتنعون بالشّخصيات التي تُشكِّلُ وزارته؟ أم أنَّها ستكون مثل سابقاتِها؟ لأنَّها جاءت بالأساس من خلال توافق الكُتل السِّياسيَّة وبمباركة الزّعامات ودفعهم، وهم الذين ساهموا بتراجع مستوى الدَّولة على مرِّ السّنوات التي مضت، أم هل سيُعوِّل العراقيون على الكاظمي باعتباره لم يأتِ من رَحمِ حزبٍ مُعيَّن؟ والذي ربَّما يكون قد أوصل نفسه لهذا المنصب بعد جهوده في التفاوض وفرض شخصيته على الكُتل السّياسيَّة وقادتِها.
والسّؤالُ الأهمُّ هنا؛ هو هل سيكون الكاظمي قادرًا على إدارة البلد، وإدارة وتحويل الصِّراعات التي تواجه العراق، وحلِّ الأَزَمات الداخليّة التي تُعقِّد مشهد استقرارِه وانتعاشِه، بعيدًا عن سطوة الأحزاب والجّماعات المسلّحة؟ أم أنَّه سيظلُّ مقيدًا؟