برزت الصين كقوة اقتصادية صاعدة بعد نهاية الحرب الباردة، حيث تحولت من قوة إقليمية آسيوية إلى قوة عالمية تستند إلى نمو اقتصادي، هذه القوة وفرت لها الخيارات والفرص، وتوسيع قدراتها الدبلوماسية، بالتالي أصبحت الصين أحد اللاعبين الرئيسيين في النظام الدولي الحالي، كما أن وزنها الدولي يتزايد بوتيرة متسارعة رفع معها سقف التوقعات إلى كونها ستصبح في السنوات القليلة القادمة القوة الموازية للولايات المتحدة الأمريكية، أو ربما القوة رقم واحد في العالم. عليه فقد شهدت السياسة الخارجية الصينية تحولات كبيرة وعرفت تطورات ملحوظة، في الوقت نفسه أصبحتالصين فاعلا مهما في اللعبة الدبلوماسية الدولية. وبعد أن أصبحللصين تواجد في كل مناطق العالم، إفريقيا، أمريكا اللاتينية،منطقة الشرق الأوسط، لاسيما أن الصين ترتبط بمنطقة الشرق الأوسط بمصالح حيوية، على رأسها تأمين الطاقة ومصالح إستراتيجية أخرى. وعلى الرغم من وجود العلاقات التاريخية بين الصين والعالم العربي، إلا أن المنطقة العربية لم تكن محور اهتمامفي الاستراتيجية الصينية كما هي عليه اليوم. حيث ظل الدورالصيني يقتصر على التبادلات التجارية والثقافية، ولم تسعىالصين لوجود فعلي في المنطقة.
وبالرغم من أن التوجهات الصينية قد تغيرت فعليا تجاه التحديات الدولية والأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط عموما والمنطقة العربية بصورة خاصة، وما انتجته تلك التحديات من تفاقم الأزمات جعلت المنطقة العربية برمتها في حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأكثرها خطورة حرب غزة، إلا إن سياستها الخارجية وتحديدا تجاه العالم العربي ماتزال ضمن إطار (سياسة الحياد السلبي). فقد بلورت الصين محددات سياستها الخارجية تجاه المنطقة وفق ما يخدم رؤيتها ولتوظيف ما يحدث في المنطقة من أجل تحقيق مصالحها كدولة عظمى. من هنا يمكن لنا أن نفهم ما هي العوامل الدافعة لدور ونفوذ صيني في المنطقة العربية وانعكاسه على الأمن الإقليمي العربي، لاسيما أن العالم العربي يشكل عمق استراتيجيا للقوى الكبرى الطامحة للتنافس على قيادة العالم.
في الجانب الآخر من الرواية، بما أن الصين من الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، فقد وقفت موقفاايجابيا تجاه العديد من القضايا العربية، فهي تدعم الموقف العربي والفلسطيني بالضغط على إسرائيل للتجاوب مع الحقوق الفلسطينية والعربية خاصة ما يتعلق منها بضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي أو وقف الاعتداء على الشعب الفلسطيني، إلا أنها في نفس الوقت تسعى إلى تحقيق التوازن مع الوجود الأمريكي في المنطقة. لاسيما أن حرب غزة اليوم ستنتج عن متغيرات لم تعد تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، بل ستطال منظومة بنيةالنظام الدولي، ومستقبل العلاقات الدولية، وطبيعة الأطراف الفاعلةفي بنية هذا النظام.
وبناء على ما تقدم نحتاج إلى طرح بعض الأسئلة حول الموقف الصيني تجاه حرب غزة؟ وسنحاول الإجابة باختصار على الأسئلة بما يسمح به المقال:
السؤال الأول: ما هو موقف الصين من حرب غزة؟ وما هو المعيار الذي تحَكَم في رد فعلها تجاه هذه الحرب؟
ج/ الواقع أن المعيار الذي يحكم الموقف الصيني تجاه حرب غزة هو مستوى العلاقات الصينية -الإسرائيلية، فالصين تسعى دائما إلى تحسين علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل، لأن ذلك سيجد له صدى كبير في الدوائر الأمريكية وخاصة اللوبي اليهودي الذي يلعب دورا مهما وفعالا في الكونكرس الأمريكي. إضافة إلى حصول الصين على التكنلوجيا المتقدمة والتقنيات العسكرية الحديثة. في السياق ذاته، استطاعت الصين من خلال توطيد علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل، إلغاء العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عليها عام 1983، والتي شملت حظرا على تصدير التكنلوجيا السلكية واللاسلكية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين. بالمقابل فإن صانع القرار السياسي في إسرائيل يدرك الأهمية المستقبلية للصين.
السؤال الثاني: ما هو طبيعة الدور الذي ستلعبه الصين اتجاه هذه الأزمة مستقبلا، بصورة يجعله ينافس الدور الأمريكي؟
ج/على الرغم من التأييد الصيني لتسوية تاريخية للصراع العربي الإسرائيلي، إلا إنها تتعمد الابتعاد عن الدخول بصورة مباشرة في تفاصيل هذه القضية، لأنها تعتبر القضية الفلسطينية تحت وصاية الولايات المتحدة الأمريكية. بمعنى أن هناك حدودا لما يمكن أن تنجزه الصين في هذه الأزمة، وإن أقصى ما فعلته الصين، أنها كانت من الداعمين في اجتماعات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وفي سبتمبر 2023، ناقش وزير الخارجية الصيني مع مسؤولين أمريكيين أبعاد الصراع بين إسرائيل وحماس، وسط مخاوف من اتساع دائرة هذا الصراع بما قد يفضي إلى حرب إقليمية.
السؤال الثالث: ما هو تأثير حرب غزة على العلاقات العربية الصينية؟
ج/ بلا شك كانت وماتزال العلاقات الصينية الإسرائيلية لها تأثير سلبي في سير العلاقات العربية الصينية، فبالرغم من حجم التبادل التجاري الكبير بين الصين والعالم العربي، إلا أن الصين تتجنب تقديم أي مساعدات أو دعم عسكري مباشر إلى الدولة العربية، وذلك لأن إسرائيل تعد أي دعم عسكري للدول العربية يؤدي إلى اختلال التوازنات في المنطقة وتهديدا مباشر لأمنها. وعليه فإن الصين منذ عام 1991 تتبع استراتيجية محددة في سياستها تجاه علاقتها مع العرب بما يخدم مصالحها الخاصة.
السؤال الرابع: وفقا (1،2،3) ما هو موقف الصين من القضية الفلسطينية بصورة عامة؟
ج/ لعل أن هناك شبه إجماع على أن الصين من الدول التي تملك كل المقومات التي تؤهلها لتتبوأ مكانة قوية على الساحة الدولية، وتنتهج سياسة خارجية سلمية مستقلة بهدف حماية استقلالها، والحفاظ على سلامة أراضيها، كما أنها تسعى إلى بناء نظام دولي اقتصادي، وسياسي جديد، بيد أنها تتبع محددات سياسية تجاه الدول العربية. فالقضية الفلسطينية من وجهة النظر الصينية تنطلق من رؤيتها للمقاومة الفلسطينية بأرضيتها الواسعة وتاريخها الطويل، حيث ترى الصين أن المقاومة الفلسطينية لم تقدم فعلا ملموسا في نمط الثورة الشعبية العارمة التي باستطاعتها تغيير موازين القوى في العالم العربي. في السياق ذاته، فإن الموقفالصيني من القضية الفلسطينية يعكس أولوياتها في السياسة الخارجية حسبما تتطلب مصالحها. عليه فإن المعضلة الأساسية من هذا الموقف السلبي تجاه القضية الفلسطينية، يعكس إفرازات الإمبريالية الاشتراكية المتمثلة في الأيديولوجية الصينية، مع العرض أن بكين تدعي دائما بأنها تسعى إلى بلورة وصياغة رؤية تنسجم وحجم المتغيرات في المنطقة، والتي تشكل جزءا من المجال الحيوي الصيني.
وتأسيسا لما تقدم، هناك ضبابية في محددات السياسة الصينية المعاصرة تجاه الدول العربية وخاصة في القضية الفلسطينية، مع تبني الصين لرؤية خاصة لحل مشكلات الدول العربية تقوم على اعتماد القنوات الدبلوماسية في تطبيق سياسة (الحياد السلبي)،بمعنى عدم التورط عسكريا في الدول العربية، يقابلها تباين فيتحديد مرتكزات السياسة العربية تجاه الصين، وتحديد مبادئ السياسة الخارجية العربية وبيان مدى تأثر الصين بأي إجراءات أو سياسات تسببت في عدم الاستقرار.