22 نوفمبر، 2024 7:57 ص
Search
Close this search box.

الصياغَة مهنَة أَبِي فِي الحرب والسلام

الصياغَة مهنَة أَبِي فِي الحرب والسلام

بَغداد فِي اربعيناتِ القرنِ المَاضِي!
مُنذُ زَمَنٍ بَعيدٍ وَأَنا أُفَكرُ بِجدٍ لتدوينِ الفتراتِ الزمنيَّة، وَالأَماكنِ وَالمُدنِ التي عَمَلَ فِيها والدي (غَازي رَمَضان عَبد الأَمِير الأَميريّ 1907 – ت 1987) صائِغٌ مُحترفٌ لِمهنةِ صياغَةِ الذَّهبِ وَالفِضَّةِ، فَفِيها تَجربةٌ قاسيةٌ فِي الصراعِ مِنْ أَجلِ البقاءِ، تَستَحِقُ التَّدوين.
كَما البَرقُ مَضَتْ بِنا مُسرعةً سِنِينَ العُمرِ، وَأنا أسمَعُ مِنْ (أَبِي وَأُمِّي) وَمِنْ هَذا وَذاك وأَدوِّنَ عَلَى قصاصاتِ الوَرَقِ بَعضَ المُلاحظات.
أحرصُ أَشدَّ الحِرصِ أَن أحفظ مَا طبعَ بذاكرتِي مِنْ صورٍ وَلقطاتٍ لأَزمِنَةٍ وأَماكن كنت قَد شاهدتهُ يَعملُ فِيها، فَتَتزايدُ مُتباعدةً؛ لِمشاغِلِ وَمَشاكِلِ الحياةِ وَهَولِ الأَحداثِ الجِسام التي عشتها المَليئَةِ بالخوفِ وَالعُنفِ وَسِنيِنِ الرُّعبِ وَالجَدبِ وَالمصائِبِ وَالحربِ وَاضطهادِ السّياسةِ وَمأسِي الهِجرة، فَأخشى أنْ يَلفها الضَّياع أوَ تَلتهِمها أَفةُ النِّسيان أو تَختل وَتَتَشوش صُور البَعض مِنها.
صَباحَ يَومِ الجُمُعةِ المُصادف (05 – تَمُّوز- 2019) وَأنا عَلَى مَائدةِ الفطورِ، عَزَمتُ عَلَى أن أباشرَ بتدوينِ شيئاً عَنْ فترةِ عَمَل والدي فِي (شارع النَّهر- شارع المُستَنصِر- ببَغدادَ) (1) ومِن ثم أتابعُ محطةً أخرى فأخرى؛ تناولتُ فطوري ، وَارتديت بدلة الخروج وَرسمتُ مخططاً لما عَزمتُ عَليه.
سيراً عَلَى الأقدامِ ذَهبتُ إِلَى – كافتريا وَمَطعم (كيلاس) الذي يَقعُ فِي سنتَر ضاحية (رُوزنكورد فِي مَدينةِ مالمو /السويد) المكانُ لا يَبعدُ اكثرَ مِنْ عَشرة دقائق عَن سَكني، فِي مثلِ هذا الوقتِ بالذات يومِ (الجُمُعة) يضجُ المكان بحركةِ الناسِ بشكلٍ غَيرِ مألوفٍ أكثر كثيراً مِن بقيةِ أيامِ الأَسبوعِ ، اِذ أفتتحَ قَبلَ عدةِ أشهرٍ مكانٌ داخلِ السواقِ (سنتر السوق) خصصَ كـ (مُصَلّى للمُسلِمِين).
عِندَ وصولي (كافتريا كِيلاس) شاهَدتُ المَكان مُكتظاً بالروادِ مِنْ مُختلفِ الجِنسياتِ وَالأَجناسِ القاطنةِ فِي (مالمو) مِن ( العربِ، الكردِ، الصومال، الإيرنيين، البوسنيين، وَالسويديين وَغَيرهم) مَكانٌ تَسمعُ فِيه الحديثُ بالعَديدِ من اللغاتِ.
فِي (الكافتريا) هُنالكَ طاوِلةٌ بشكلٍ مُستمرٍ مُخصَّصةٍ لمجموعةٍ مِنْ (العِراقِيِّين) الذينَ حَطَ بهم الرحالُ هُنا في هذهِ المدينة الاِسكندنافية، وَأحياناً يجلسُ معهم اصدقاء مِن الجالية الإيرانيَّةِ أو العربيَّة؛ وأنا أقتربُ مِنْ (الطاولة) شاهدتُ من أودَّ لقاؤهُ وَالتحدثُ اليه بما عزمتُ عَليه؛ أنه أَبنَ عَمي (لعيبي خَلف رَمضان / أبو عادل) مِن مَواليد (1930) وَصل السويد وَهو(معلمٌ مُتقاعد) فَلَهُ ذاكرةٌ نابِهةٌ نشطةٌ فِيها من الوصفِ الدقيقِ المُسترسلِ ما يشجعُ وَيطمأن لهُ عَلَى التّوثيقِ والتّدوينِ الرَّصين.
بَعدَ التَّحية عَلَى مِنْ ضَمَّ مَجلسهم، جَلبتُ مِن المقهى (كُوبَين) مِن القهوةِ أحدهما لهُ والأخرُ ليّ ، بَعدَ أَن وافقَ أن أجلبَ لهُ القهوةَ وَقدحاً مِنْ الماءِ، وَجلستُ بجوارهِ، واستأذنتُ الآخرين بما وددتُ أنْ اسأَلهُ وَأُسجلهُ، وَأخرجتُ عُدت التَّوثيق الأَولية (الورقة والقلم) وَطلبتُ منه أن يشحذَ ذاكرتهُ وَيرجعُ بنا إِلى الفترةِ الزمنيَّةِ التي كانَ يعملُ بها (عَمهُ) والدي (غَازي رَمضان) فِي (شارع النَهر ببغداد) كانَ يُشاركنا بجلستنا أَبنَ عَمي الأَخر(سَعيد خَلف رَمضان / مَواليد 1934) وَهوَ ايضاً (صائغٌ ماهرٌ) قَديم فِي أسواق بغداد، ويعرفُ كثيراً عن عَملِ والدي فِي (سُوق خان الشابندر) فِي فترةِ خَمسيناتِ وَستيناتِ القرن الماضي.
سَألتُ أَبنَ عَمي (أبو عادل/ لعيبي خَلف رَمضان):
أَوَدُ أَنْ تَرويَ لي بِالضَّبطِ :
1- أَينَ كانَ مَحلَّ عَمَل والدي (أبو فَيصل) فِي شارع النَّهر ببغداد؟
2- الفَترَة الزمنيَّة التي عَمِلَ بها صائغاً للذهبِ وَالفضةِ فِي شارع النَّهر؟
3- مَنْ كانِ يِعملُ مِعهُ فِي المَحَلِّ (الدُّكان)؟
4- وَمَنْ هم جيرانهُ وَبالقربِ مِنهُ مِن الصاغةِ المَندائيين وَغَيرهم؟
ابتَسمَ، وَعَدَلَ مِنْ جَلستِهِ وَأَخَذَ رَشفةً مِنْ قَدَحِ الماءِ وَتَناولَ رَشفةً اخرى مِن (القهوةِ) وَبدأَ حديثهُ:
– سَأُحَدِثُكَ بالتَفضيل، لِكونِ تَلكَ الفَترةِ تَرتَبطُ مَعي بإحداثٍ كبيرةٍ بحياتِي، لا تُمحى مِنْ ذاكرتِي، فِي صَيفِ عَام (1942) كُنت للتوِ قَد أنهيت دراستي الاِبتدائيَّة مِنْ مدرسةِ (أمسعيدة الاِبتدائيَّة للبنين/ لواء العِمارة). بَعدَ مُداولات مَعَ عائلتي قررنا أَن أذهبَ للتسجيل (بمدرسةِ دارِ المُعلمين الريفيَّة ببغداد) كَيْ أتخرج مِنها مُعلماً، جِئتُ إِلى (بَغداد) قاصداً بَيت عَمي (أَبو فَيصل /غَازي رمضان) لِغَرضِ أنْ يُساعدني وَيُسجلني فِي( المَدرسة الريفيَّة أي دار المُعلمين الريفيَّة) وَالتي كانَ القَبولُ فِيها بعدَ الدراسةِ الاِبتدائيَّة، وَهذهِ هِيَ المَرة الأَولى بحَياتي الِتي أسافِرُ فِيها مِنْ العمارة إِلى بَغداد.
وَصلتُ إلَى بَيتِ عَمي (ببغداد/ مَحَلة الكريمات ) أستقبلني عَمي (أبو فَيصل) وَزوجتهُ عَمتي (أُم فَيصل) بالأحضانِ، كانَ أبنُهم البكر(فَيصل) طفلاً صَغيراً تَحمله أُمه بَينَ يَديها..
أخبَرتُ (عَمي) برغبَةِ أَهلي وَرَغبتي أن أُسجل فِي (مَدرسةِ دار المُعلمين الريفيَّة)؛ رَحبا بيَّ أَجمل تَرحيب وَخصصا لِي مَكاناً للمَبيت عِندهم فِي البَيتِ، فِي اليومِ التالي اصطَحبنِي (عَمي) مَعهُ إِلى مَحلِ عَمله فِي (شارع النَهر)؛ كنتُ مَبهوراً بِما أشاهِدهُ وَأنا أَسيرُ بجانبهِ، مِنْ بيتهم فِي (مَحَلة الكريمات) بالقربِ مِنْ (السفارة البريطانية)، ونَعبر جِسر(مُود أو المَلك فَيصل الأَول) – جِسر الأَحرار- حالياً (2)
وَنَنعطف بَعدَ عبورنا الجِسر مباشرةً إِلى شارعِ النَّهر؛ بَقِيتُ عِدَّةَ أيامٍ بَعدها أَذهَبُ كُلَّ صَباحٍ بصحبته لمحلِ عَملهِ وعندما يَغلقُ المَحلَّ أرافِقهُ للبَيتِ.
– يأخذُ (لعيبي – أَبو عادل) نَفساً عَميقاً؛ وَيُواصلُ الحَديثَ ثانيةً:
– مَرسومةً أَمَامِي صورةُ مَدخل شارع النَّهر وَأنا أَدخلُ اليه قادِماً مِنْ (مَحَلة الكريَمات) باتجاهِ ساحةِ الصالحيَّة وَالِتي يَنتصبُ فِيها تِمثالٌ للمَلكِ (فَيصل الأَول) وَهَو عَلَى صَهوةِ جَوادهِ، نَسيرُ عَلَى الجَهَة اليُسرى من الجسرِ.
يَبقى تِمثالُ (المَلك فَيصل الأَول) خَلفنا نعبرُ الجِسر سيراً عَلَى الأقدامِ وننعطف مباشرةً عندَ نهايةِ الجِسر لمدخلِ شارع النَّهر، قَبلَ أن نَصِلَ إلى ساحةِ (حافظ القاضي وشارع الرشيد).
فِي بِدايَةِ مَدخَلِ (شارع النَّهر) وَفِي الرُّكنِ (الأيمن) مِنهُ يَقعُ (مَقهى شَريف حَداد) وَيُقابلها فِي نَفسِ المَدخلِ مِن الجِهة اليُسرى القَريبَةِ مِنْ (نَهر دِجلة) مجموعة مِن الفنادق، تَتَخطى (مَقهى شَريف حَداد) يأتي (فرع) شارع ضَيق يَمتد مِن (شارع النَهر) حَتى شارعِ الرشيد، بعدَ (الفرع) مباشرةً يأتي صَفٌ مِنْ المَحلاتِ (دَكاكين) لِصاغةِ الذَّهبِ وَالفِضَّة..
المَحَلُّ الأَول للصَّائِغ المَرحوم ( رَحيم صادق الخَميسي) ثُمَ يَليه مَحَل المَرحوم الصّائِغ ( ضامِن حويزاوي/ أبو زُهير ) وَالمَحلُ الثالث مَحَلُّ عَمي (غَازي رَمضان الأَميريِّ / أبو فَيصل) وَكانَ يَعملُ مَعهُ فِي نَفسِ المَحلِّ شُركاؤُهُ فِي المَحلِ وَالعَملِ كلٌ مِنْ الصائغ (إبراهيم شاوِي شفيف) وَالصّائِغ (زامل غافل الخلف/ أبو شهاب) رَحِمهم الله جَميعاً.
يُقابلُ مَحَلاتهمْ مُباشرةً مَحلات مِنْ الصّاغة وَهُم المَرحوم الصّائِغ ( جَودة سَهر المسودني) ، ثُمَ مَحل المَرحوم الصّائِغ (صادق حاجم الخميسي/ أَبو مَنيع) وَكانَ يَعملُ معهُ شريكٌ فِي نفسِ المحل هو المَرحوم (حَمد فَلت البركاوي أبو مجبل)، ثُمَ يأتي مَحل المَرحوم الصّائِغ (جاني سهر المسودني) وَثمَ الصّائِغ الشَّهير المَرحوم الشَّيخ (عنيسي فياض مران/ أبو بشير).
الفَترةُ الِتي عَملَ فِيها (عَمي، أبو فَيصل) فِي (شارع النَّهر) كانت منذُ عام (1941) وَأستمر عَمله لغايةِ نهايةِ عام(1943) أي ما يقاربُ مِنْ ثَلاثةِ سَنوات، أيْ فِي قِمة الأَحداث المُهمّةِ بتاريخِ العراق سنين مصائب ومصاعب وحروب ففيها الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945)، وأحداث (حركة مايس 1941) وَما رافقها مِنْ اضطراباتٍ أمنيَّةٍ وَاقتصاديَّة.
وَيُواصلُ حَديثهُ :
– ثُمَّ أَستَقل مِنْ شُركائه فِي المَحَلِّ وَالعَمَلِ واِختارَ مَنطقةً قريبةً أُخرى حَيث اِنتَقلَ إلى مَحَلٍّ جَديدٍ فِي (شارع الرشيد فِي فُندق النَّعمان) كان يعمل فيه (صائغ ) بعدَ الظهر أي فِي المساء ،حيث كانتْ هذه المنطقة تَعجُّ بالحركةِ بَعدَ الظهر بَعدَ اِنتهاءِ الدوامِ – كانَ الجنودُ البريطانيين وَالهنود وَغيرهم مَنْ قوّاتِ الحُلفاء – يَترددونَ عَليها فَي تلك الأَوقات ففيها وبالقربِ منها مَحلاتٌ عامرةٌ بالبضائعِ وأماكنِ أخرى للهوِ وَالتَرفِيه.
فَفِي النَّهارِ كانَ يَعملُ فِي محل صياغةٍ فِي منطقةِ (الكرخ) فِي محلةِ (الفحامة) القريبةِ مِنْ (ساحةِ الشهداء) الآن، فِفي محلةِ (الفحامة)، سوق عامر بأصحاب الحرف اليدوية ( منهم النجارون والحدادون الذين يصنعون أدوات الفلاحة، وَمحلات للعديدِ مِنْ الصّاغة المندائيين.
– سَألتُ (أَبو عادل) حَدثنا الآن كيفَ سَجلكَ عَمُّكَ (أبو فَيصل) فِي (مَدرسةِ دارِ المُعلمين الريفيَّة) ؟
– يَضحَك أبو عادل، وَهو يَقول إِنَّ لِذلِكَ قِصةً (طَريفةً عَجيبةً) قد حَدثت لِي كادتْ أنْ تُغيّرَ مِنْ مَجرى حياتِي العَمليَّةِ وَالمِهنيَّة !
وَيَستطردُ فِي حَديثهِ:
– خِلالَ الأَيامِ الأَولى التي كُنت أترددُ فيها بصحبةِ (عَمي أبو فيصل) لمحلهِ قَبلَ أن يذهبَ بِي ليسجلني وَيُقدم أوراقي (لمَدرسةِ دار المُعلمين الريفيَّة)، وَبعدَ أنْ علِمَ كثيرُ من الصّاغةِ المجاورين لمَحلِ عَمي بذلك، وَمعظمهم من معارفنا وأقرباء لنا، أَشاروا على (عَمي) بالنصيحةِ أن يسجلني فِي (المَدرسة الثانويَّة) بَدل (مَدرسة دار المُعلمين الريفيَّة) مُبدين ملاحظاتهم بأنني شابٌ صغيرٌ يافعٌ وفِي مُقتبلِ العُمرِ، وَيمكن أن يشقَّ طريقهُ وَمستقبلهُ باختصاصٍ كبيرٍ وَمُهِـمٍ، كأن يكونَ طبيباً أو مُهندساً أو مُحامي، أفضلَ مِنْ أن يتخرجَ (مُعلم)، وأكثر من تحدثَ فِي النصح وَتكلمَ مَع (عَمي أبو فَيصل ) هو الصّائِغ الوجيه – الله يرحمه – ( جُودة سهر المسودني). أَقتنعَ (عمي/ أبو فيصل) بذلكَ وَاقتنعتُ أنا معهم، وأَخذنِي (عمي) وأكمل أوراقِي وَسجلني فِي (ثانوية الكرخ للبنين)، وَباشرتُ أدرس فيها، وأسكنُ فِي (بَيتِ عَمي) فالمدرسة قريبة من سكناهم وَمِنْ مَحلِ عَمي.
أُكتَمَلتْ جَلستُنا لِهذا اليومِ إِلى هذا القدرِ مِنْ التَفاصيلِ، وَفضَّتْ جَلستنا،عَلَى أملِ اللقاءِ فِي وقتٍ أخرٍ لتكملةِ المَوضوع.
عُدتُ للبيتِ (وَأَنا بغايةِ الانشراح والإرتياح) وَعلى وَجه السرعةِ دونتُ كافة المعلومات الِتي تَحدث فيها، وَعندَ مُراجعتها، اِستوقَفتنِي بَعضُ الفقراتِ والتي تَحتاجُ إِلى تَوضيحٍ أَكثر؟
مِنها : أَنا أَعرفُ إِن إبنَ عَمي (أَبو عادل) قَد اكملَ (مَدرسة دار المُعلمين الريفيَّة ) وَتَعينَ (مُعلم)، إذن كيفَ يقولُ (أنِّي دَرستُ فِي ثانويَّة الكرخ للبنين)؟
وَالإِستِفسار الأَخر الذي وَدِدتُ أَنْ يوضِّحَه لِي أَينَ بالضبطِ موقع الدار الذي سكن فِيه (والدي) فِي محلة (الكريمات)؛ (فوالدتي) رَحِمها الله كانَتْ تُحدثنا كثيراً عَنْ تِلكَ الدارِ الكبيرةِ وَمَنْ كانَ يُقاسمهم السَكن فِيها، والأماكنُ المُهمة القريبة مِنها؟.
فَي ظُهرِ يوم الخميس (11- تموز- 2019) التقيتُ (أبوعادل/ لعيبي خلف) فِي نفس (كافتريا كيلاس) وَطلبتُ مِنهُ أَنْ نُكملَ حَدِيثنا، إِنْ كانَ يَرغبُ بِذلك، فَوافقَ..
سَألتهُ السُّؤال الأَول:
قُلتُ لَهُ انِّي فِي التِباسٍ وَتَشويشٍ فِيما يَخصُ دراستك، أَعرف بأَنكَ تَخَرجت مِنْ (مَدرسة دار المُعلمين الريفيَّة) وَتَعينت مُعلماً، بَينما أنتَ باشرتَ بدراستكَ فِي ثانويَّة الكرخ للبنين؟
– ابتَسم أَبو عادل، وَبَدأَ حَديثهُ 🙁 نَعَمْ، دَرستُ فِي (ثانويَّة الكرخ للبنين) وَأَكملتُ الصَّف الأَول المُتوسط ، وَالصَّف الثاني المُتوسط ، وَخلال العطلة الصيفية وأنا اتهيأ وَأستعد للمباشرةِ للدراسةِ فِي الصف الثالث المتوسط، حَدث أن تَمت قناعتي لأَسباب كثيرة، وَأهمها انتقال (بَيت عَمي أبو فيصل) إِلى سَكن أخر بَعيد عَن مَدرستي، وَلضيقِ ذاتِ اليد، فَصارت قَناعتي وَقناعة أَهلي أَنْ أَتوجه للتسجيل فِي (مَدرسة دار المُعلمين الريفيّة) فَهي خير ضَمان لمستقبلي، وَتَختصر لِي الطريق، فَفِيها أَقسامٌ داخليَّةٌ وَوَجباتُ طعام للطلاب، فَذهبتُ وَسَجلت وَقَبلوني طالباً فِي (الصَّفِ الأَول) وَباشرتُ الدراسةِ فيها، فَتركتُ (ثانويَّة الكرخ للبنين) وَراحت عليَّ (سنتين دراسيَّة) وَبقيت فِيها حتى تَخرَّجتُ مِنها.) ..
وَيَستطرِدُ فِي سردهِ :
– كانتْ (مَدرسة دار المُعلمين الريفيَّة) تقعُ فِي (بغداد) في منطقةِ (الرستِميَّة ) للمدرسةِ بناية ممتازة وفيها أَقسام داخلية لإيواء الطلبة، وَخلال فترة دراستي فِيها، صَدر (قَرار حكوميّ ) أَن تَتحولَ بناية (دار المعلمين الريفيَّة ) وَكل المِنطقة المُحيطة بها إِلى (وزارة الدفاع ، لتكون مَقر للكلية العَسكرية العراقية )، وَنقلت (مَدرسة دار المُعلمين الريفيَّة) إِلى مِنطقة (الكرادة) مُقابل بناية (القصرالجمهوري) فأنتقلنا للمكانِ الجديدِ حتى تَخرجي مِنها..
وَطلبتُ منهُ أَن يوضحَ لِي أَينَ كانَ يَقعُ (بيت والدي) فِي تلك الفترة التي سكنَ مَعهمْ فِيها، وَهل يتمكن مِنْ وَصفِ الدار، وَمَنْ كانَ يُشاركهُم السكنُ فِيها؟
أَجابَ أَبو عَادل :
– نَعَمْ، بِكِلِّ تأكيدٍ لَمْ أَزلْ اتَذكرُ ذلِكَ جيداً، لكوني قَد سَكَنت من مرةٍ أخرى مَعَ أهلي عند انتقالنا من (أمسعيدة / العمارة إلى بغداد) سكنا في نفس المنطقة في (الستينات).
كانَ مَوقع البيت فِي المِنطقةِ القريبةِ مِن بناية السفارةِ (البريطانية)وَفِي الجهةِ المقابلةِ لها كانتْ مَجموعة مِن (بيُوتات) حَديثةٍ ذاتِ طرازٍ معماريٍ جَميلٍ متميزٍ، لَمِ تَزلْ لغاية اليومِ قِسمٌ منها باقية وَمِنها بيت (عبد الله الشاوي) وبيت (شاكر الوادي).
كانَ البيتُ الذي سكنَت فِيه عائلة (عَمي أَبو فيصل) فِي المِنطقة التي قبل بناية السفارة (لبريطانية) بقليلِ وأنتَ قادم مِنْ جهةِ جِسر (مود) سابقاً – الأَحرار- البيتُ مبني من الطابوق وكانَ كبيرٌ جداً وَيحتوي على غرفٍ عديدةٍ كانَ يُسمى البيت (الناصي) لكونه أَوطأَ مِنْ الشارع الذي فيه ، البيت (أيجار) بيت تسكنه عدة عوائل جميعهم من (الصابئة المندائيين) عندَ الدخولِ للبيتِ مِن البابِ الرئيسية يُوجد ممر عريض مسقف وَعلى جانبي الممر مُشتملان كلُّ واحد منهما فِيه غُرفتان مٌتجاورتان وَمَعها (حمام وتواليت) هذا على جهةِ اليمين وَكذلك مثله عَلَى جهةِ اليسارِ غرفتان وحمام وتواليت، وَبعدَ اتمامِ الممر تَدخل إلى (الحَوش) وَفيه مَساحةٌ واسعةٌ فِي الوسطِ (فَضاء مَكشوف) تُحيطها العديد مِن الغُرفِ وَلها حَمامها وَتواليتها الخاص؛ الحوش وَجميع غُرفه تَسكنها عائِلة المَرحوم ( نَاهي الخفاجي – الشيشتري- أَبو طالب وغالب) وَهو المُؤجر الرئيسي من صَاحبِ الملك الرئيسي، وهو الذي يؤجر (المشتملين) وَيَستلم إيجارها من الساكنين، وَيمكن للعائلة أن تؤجرغرفة واحدة مِنْ المشتمل، وَمن العوائِل التي كانت تسكن معهم في نفسِ (البيت)عائِلة المَرحوم (ياسر صكر الحيدر/ أَبو جبار)، وَعائلة المَرحوم (عَبد الواحد مران، والدُ الشاعِر المَشهور(عَبد الرزاق عَبد الواحد)،والمرحوم (حازم مشعل الخميسي).
ثُمَّ سَألتهُ سُؤالاً أَخر: قلتُ لهُ كانتْ (أُمي) تَتَحدثُ كثيراً عَنْ البيت الناصي ـ وتذكر دائماً بالخير المرحمومة (زوجة ناهي الخفاجي / أم طالب) وتحدثنا كذلك عن حديقةٍ قريبةٍ من موقعِ البيت في (الكريمات) يَتوسطها نصب (تمثال) كبير عالي للجنرال البريطاني (مُود) وهو عَلى ظَهر الحِصان، وَتَقول (أمي) كنتُ كلما اذهبُ للتسوق (الفاكهة وَالخضروات وَالسمك) مِنْ سوق (الشواكة) القريب جداً منا كنتُ أَمرُ مِن أمامِ (التمثال) فِي الذهاب والإياب؟
– أجابَنِي نَعَمْ ، كانَ فِي تَلكَ الفترةِ تِمثال (للجنرال ستانسلي مُود) وَسط حديقة أَمامَ السفارة البريطانيَّة يبعدُ عنْ البيتِ عدةِ خطوات، وَقدْ أُزيلَ التَمثال أَيام (ثورة 14 تموز 1958)مِنْ قبلِ المُتظاهرين الغاضبين المُؤيدين لثورةِ تموز!
دَوَنتُ اليَومَ هذهِ الصَّفَحاتُ مِنْ الذاكرةِ لِجزءٍ مِنْ سِيرةِ حياة أّبي الزاخرةِ بالعَطاءِ وَالكِفاحِ المَريرِالعنيدِ المُثابرِ النزيهِ فِي الحَياةِ وَالعَملِ؛ فَكمْ توالتْ عليكَ الرَزايا والخطوب وَالمِحن وَأَنتَ تَطوف بالبلاد، تَتَخَطى الأهوالَ وَالصِّعاب، بعزيمةٍ لا تَلين، بصبرٍ وَجَلدٍ، لتنتزع رَغيف الخُبزِ بكرامةٍ وَعزة نفسٍ وشَرف، هَنيئاً لصمودكَ الذي أفلحَ وَظَفر، لتبقى سِيرتكَ وَساماً وَنِبراساً حَياً يَتناقلهُ مُحبيكَ جيلاً بَعْدَ جِيل لمواقفٍ وذكرياتٍ لا تُمحى وَلا يطويها النِسيانُ وَعادياتُ الزَّمَن.
أتمتُ كتابتها في مالمو/ السويد يوم الجُمعة 22 مايس/ مايو 2020
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والدي ( غَازي رَمضان عَبد الأَمير الأَميريِّ مِنْ مواليد ناحية الكحلاء – أمسعيدة- لواء العمارة عام ( 1907) توفي في قضاء العزيزية – محافظة واسط بتاريخ (01 تشرين الأول 1987)
(1) شارِعُ النَّهر: يَقَعُ فِي جانبِ الرصافة مِن العاصمةِ بَغداد ، وَهو مِن اقدمِ شوارع (بغداد) وأعرَقها، فهو امتداد لسوقِ (الخَفافين العباسي) القريب مِن (المدرسة المستنصريَّة) التي بناها الخليفة العباسي (المستنصر بالله عام 1233 م )، ويسمى الشارع فِي السجلاتِ العراقيَّة الرسميَّة (شارع المستنصر) يمتد الشارع بمحاذاةِ (نهر دجلة) لغايةِ (جِسر الأحرار)، يوازيه مِنْ جهة الشرق (شارع الرشيد) وَيرتبط الشارعان (النهر والرشيد) بالعديد من الشوارعِ الفرعيَّةِ؛ أطلقتْ العديد من التسمياتِ عَلَى شارعِ النَّهرِ، فهو شارع الذهب، شارع البَنات، شارع الأَفراح، وَشارع العَرائِس.
(2) الجنرال مُود : هو (فريدريك ستانسلي مُود 1864- ت 1917 )، جنرالٌ بريطاني أُشتهر بقيادتهِ لحملةِ بلادِ الرافدين ، وَكانَ هو القائد للقواتِ البريطانيَّة التي احتلتْ بَغداد فِي (18- أذار- 1917) وبعدَ عدَّةِ أشهر فِي (11- تشرين الثاني 1917) توفي ببغداد بمرضِ الكُوليرا.
جِسرُ الأَحرار: فِي عامِ (1918) شيدَ الجيش البريطاني جسراً مِن الحديدِ عَلَى القواربِ، سُمي الجِسر باسم (الجنرال مُود) يربطُ بين جهةِ (الكرخ – الصالحية) وَجهة (الرصافة- ساحة حافظ القاضي) وَفِي عام (1941) تمَ انشاء جِسر حديث مِن الخرسانةِ وَالحديدِ عَلَى أعتابِ جسر (الجنرال مُود ) وَسُميَ بجِسرِ (المَلك فيصل الأَول) وَبَعدَ (ثورة 14تموز 1958) تَمَ تَغيرُ الاسم إِلى (جِسرِ الأَحرار)..

أحدث المقالات