يرتبط التغيير الاجتماعي بالحركة الاجتماعية التي تمثل مجموعة واسعة من القيم التنظيمية والمؤسسية التي تسعى لتغيير بنية المجتمع ضمن حركية اجتماعية إصلاحية تستند إلى القانون كمصدر أساس لبناء استراتيجيات التغيير، ومن ثم تحقيقه. ويعد الإصلاح القانوني مدخـلاً تقليدياً لبناء المنظومات الاجتماعية وقيمها؛ كذلك الحركات الاجتماعية، والتفاعل المجتمعي. وإذا اعتمدنا المدخل الحديث الذي يستند إلى القانون أيضاً في إحداث التغيرات المجتمعية متعددة الاتجاهات وليست باتجاه أحادي؛ فإنه يظهر أنه لا بد من تزاوج محكم بين القانون والمجتمع لإحداث ذلك التغيير، وخلق الجديد في القيم المجتمعية والرأي والنظام، ما يعني أننا أمام خلل كبير يمكن أن يكون سبباً مباشراً في تدني القيم وانحدارها للحد الذي بلغته اليوم وما زالت؛ أي انهيار البناء المؤسسي لكل نشاطات المجتمع، والفرد عنصر أساسي فيه يخضع لمؤسساته في السياسة والقضاء والأمن والتعليم والصحة والإعلام وغيرها من تجارة وصناعة أياً كانت قطاعاتها، وأياً كان انتماؤها، وأياً كانت ملكيتها.
تنشغل الدول ومجتمعاتها بظواهر كثيرة ومتعددة منها التغيرات المناخية وحماية البيئة وتقليل التلوث والانبعاثات الكاربونية، وكذلك التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالاتية… وهكذا لبقية الظواهر التي تهيمن على العالم. وبالمقابل يهيئ العالم بكل ما أوتي من قوة لكيفية التعامل مع مثل هذه الظواهر والتكيف معها. وكلما أدركت الدول الأمر مبكراً كلما استطاعت التعامل مع مثل هذه الظواهر، ووضع السياسات والاستراتيجيات لمعايير التعامل الصحيح والشفاف بالشكل الذي يخلق قيماً للفرد والمجتمع وعبر مؤسساته في التعامل الاجتماعي، ووفقاً للمنظومة القانونية والتشريعية وآلياتها وإجراءاتها، وبما يسهم في خلق حركة اجتماعية تقود التغيرات التي يجب أن تحدث للتعامل مع الظاهرة المراد التعامل معها وخلق أنساق للقيم الاجتماعية التي تستند إلى مستقبل الإنسان ورفاهيته.
وبالمقابل فقد أشار العديد من التقارير والدراسات والبحوث والمقالات إلى انحدار القيم الاجتماعية وتدني السلوك المجتمعي في العقود الأخيرة في العراق ممثلة بالفساد وتفشي القيم السلبية والمتدنية ضمن كل المعطيات، ومنها التكنولوجيا المستخدمة في تلك المجتمعات المتخلفة والاستخدام السيئ لأدوات التواصل الاجتماعي، التي تبث القيم السلبية الطائفية والعرقية وفرز كل ما راكمته السنون من أحقاد وأضغان، وكذلك غياب الثقة في التعاملات؛ إذ لم تجد حداً أدنى للثقة بين المتعاملين أيّاً كان نوع تعاملهم؛ وشيوع الحديث الكذب، واعتماد الغش في المنتج الملموس وغير الملموس السلعي والخدمي، فضـلاً عن تدني قيم المنظومات التربوية والصحية والقضائية وغيرها من السلوكات التي سادت وانطبعت في مجتمعنا، فأنجبت ركامات من الأمراض الاجتماعية والقيم البالية التي تناقض القيم السامية. ولقد أفرزت صناعة الفساد بكل أشكاله، إضافة إلى طمس القيم الوطنية والقيم الإنسانية التي تعنى بها البشرية، إشاعة الفوضى والثأر ونبش التاريخ وتزييفه بالطائفية والإثنية والجهوية لدرجة أحجم المجتمع عن القيم الإيجابية. ويخطئ البعض – أو يغالي أو ربما ينفخ في قربة مثقوبة – بأن مجتمعنا هو مجتمع الأصالة والقيم وغيرها من الإنشائيات، وتبقى المسألة نسبية بقدر أو بآخر.
أولاً: الفساد في العراق: رصد الظاهرة
إنّ كل ما يمكن تسجيله عبر تقارير دولية أو دراسات لمنظمات دولية وعالمية من فساد ورصيد شهري للقتل المنظم وصراع أبناء المجتمع الواحد هو أمر لم يأتِ من فراغ، وإنما كان له حيثيات سياسية ودينية وقانونية وتشريعية واقتصادية تحت إدارة سياسية واقتصادية واجتماعية متخبطة وغياب كامل لأي معالجات أو إصلاحات للمنظومة القيميّة التي تعد معقدة بتركيبتها. لذا فإن الحاجة تدعو إلى تغيير اجتماعي ولعقود زمنية طويلة من المعالجات التي يحتاجها مجتمعنا العراقي ويمكن أن تؤتي أكلها ضمن المستقبل البعيد.
ثانياً: بناء المؤسسات والقيم المجتمعية:
العقود الستة الأولى من القرن العشرين
وهنا يمكن تفسير عملية بناء القيم التي استمرت طيلة العقود الستة الأولى من القرن العشرين ولغاية 1958، وما لاحقها بعد ذلك التاريخ من تدهور وانحدار في القيم والسلوكيات وما زال مستمراً باتجاه المستقبل، من خلال بروز الكثير من الأحداث والظواهر المتوالدة والمستجدة. إنّه نتاج مرحلة غابت فيها المؤسسات والقانون والمعايير والضوابط فكان هذا الذي نراه. ومن هنا يمكن القول إن تفعيل القانون لا يتم إلا من خلال مؤسسات تُمَعْير كل الأنشطة في المجتمع: مؤسسة مالية تُعنى بالدفوعات؛ ومؤسسة أمنية تعنى بالأمن؛ ومؤسسة رقابية للإعلام؛ ومؤسسات قضائية وتربوية وصحية وتسويقية وإنتاجية وخدمية… إلى غير ذلك. وهنا يصبح المرء رهين معايير شفافة ومفصح عنها ومحكومة ومنضبطة.
إنّ هذه القواعد تعني تطبيق القانون والمعايير، وهي من تخلق التحولات في القيم العامة، وتفرز الأعراف أحياناً وتجلب مباشرة التغيير الاجتماعي؛ فالتغيرات في قيم المجتمع والرأي العام يمكن أن تغذي مرة أخرى النظام القانوني وتؤثر في التنفيذ الفعال للتشريع. وأخيراً، فإن جهود المأسسة يكون لها تأثير في الرأي العام، مع الإجراءات التي تتخذها تلك المؤسسات وتخلق التفاعل المجتمعي وتزيد دينامية الفرد بالاتجاه الصحيح، فيكون اتجاهاً مزدوجاً للفرد والمجتمع نحو هدف موحد وثنائي الاتجاه. ويخلق التكافلية للعلاقات بين الحركات الاجتماعية ضمن سيادة القانون والمجتمع.
إن من المفيد التذكير، ضمن هذا التدني والقيم التي سادت في العقد الأخير، وضمن ظواهر برزت اليوم، وأهمها النزوح. كيف إذاً يمكن تصور منظومة القيم التي ستحكم مجتمعنا للعقد القادم على الأقل؛ أو للعقود القادمة بعد أن يجد النازح الفرد نفسه ضمن تصنيفات دينية وعرقية وإثنية تمنع حركته إلا في حدود معينة، وتسلب أمواله، ويبقى موضع شك في سكناته وترحاله كونه من المدينة الفلانية أو المنطقة كذا؟ أي قيمة يمكن أن يبقى متمسكاً بها الفرد، وهو لا يجد قوت يومه؟ أي سلوك يمكن أن يسلكه ضمن هذه البيئة الجديدة (بيئة النزوح)؟ أعتقد بأن المشكلة أعمق كثيراً مما يتصور البعض؛ فقد خُلقت مجتمعات جديدة، وقُسمت مجتمعات ما قبل 2014، وباتت هناك عمليات توالد مجتمعي وقيمي ستظهر نتاجاتها بعد أن تضع الحرب أوزارها؛ إن وضعت أوزارها!
ثالثاً: الفساد في العراق
في أدبيات وتقارير عالمية موثقة
عرض تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2002 عدداً من المؤشرات المؤسسية في البلدان العربية، ومنها العراق. وقد احتل العراق الدولة الأسوأ في مؤشراتها
واستمرت التقارير تتوالى، ولا سيَّما بعد سقوط العراق تحت الاحتلال والفترة التي تلت ذلك خلال السنوات 2003 ولغاية 2015، ومنها منظمة الشفافية العالمية، التي اعتبرت أن الفساد في العراق تقوده الأحزاب السياسية، بل إن هناك من اتهم الحكومة بنشر الفساد في ظل تكتُّمها على البيانات والمعلومات وعدم شفافيتها. وعلى الرغم من التصنيفات الكثيرة والمتعددة للفساد، وأن أسبابه عميقة وواسعة إلا أن رؤية معينة يمكن طرحها (قد لا تكون أسباباً وإنما حيثيات مؤسسية) ستتناولها هذه الورقة بالنقاش والتحليل لتسلط الضوء على ثلاث مؤسسات عراقية ساهمت في تفشي ظاهرة الفساد وشيوعها، وهي في الوقت نفسه معنية بمحاربتها:
1 – انتهاك الموازنة العامة للحكومة والفساد
تعمل الموازنة العامة للحكومة بوصفها أحد أهم مخرجات المنظومة الحكومية المالية والمحاسبية في العراق ومنذ تأسيس الحكم الوطني في سنة 1921 بسياقات تشريعية وقانونية، واستطاعت أن تبني شبكة من المبادئ والعلاقات المالية والنقدية، وانعكست اجتماعياً بصيغة قيم وأعراف طيلة عقود من الزمن اشتركت في بنائها عدة مؤسسات إلى جانب المؤسسة المالية والنقدية الحكومية وهي كل من المؤسسة التشريعية والمؤسسة الاجتماعية والإعلامية وقوى المجتمع المدني، وأفرزت نمطاً من القيم الأدائية والمالية الحكومية، وكذلك قيماً اجتماعية تمثلت ببناء الثقة بين الوحدات الاقتصادية في المجتمع؛ كما بين أفراد المجتمع من جهة، والحكومة من جهة ثانية.
إن ما دأبت عليه الموازنة طيلة عقود الدولة العراقية ما بين 1921 ولغاية 2003 يتمثل بالمسؤولية الكاملة للحكومة عن استحقاقاتها وتوقيتاتها والالتزامات المالية والنقدية، فكانت بمنزلة ظاهرة مؤسسيّة ضمّت هيكـلاً مؤسسياً قانونياً وتنظيمياً يُعنى بالموازنة العامة للحكومة، ويُنَفّذ عمليات موازناتية مُنمّطة وفق مسارات وإجراءات وسياقات، وبتوقيتات لا تتغير بدءاً من الخطوة الأولى في الإعداد وانتهاءً بعملية الإخراج النهائي للموازنة، وكذلك اعتماد أدوات قانونية ومالية ومحاسبية وفق المعايير العالمية؛ عندها تكون الموازنة العامة للحكومة جاهزة للتنفيذ في بدء العام المعدة من أجله. لكن ما إن حلت سنة 2003 وبات العراق تحت الاحتلال حتى انهارت المنظومة المالية كغيرها من المنظومات وهُدّمت الموازنة هيكلياً وضُربت عملياتها وأدواتها رغم عراقتها)).
وبعد أكثر من تسعة عقود شكّلتْ معظم سِنِيِّ القرن العشرين، وبعد سلسلة من التشريعات والتعليمات والضوابط أسهم بصياغتها سلسلة من العاملين والخبراء والمختصين – شكلت بحق منظومة كاملة – لتسقط بأيام قليلة وليصدر بعد ذلك قانون الإدارة المالية للدولة يحمل الرقم (94) لسنة 2003 تحت عنوان سلطة الائتلاف المؤقتة، وكان مليئاً بالأخطاء والتناقضات، ولا ينسجم والمنظومة التي كانت سائدة قبل ذلك التاريخ ويبدو أنه قد أُعد من قبل أناس لا يملكون أبسط قدر من المعلومات عن النظام المالي العراقي].
لقد استطاعت منظومة الموازنة العامة للحكومة إرساء أطر رأي عام، وتمخض عنها أنماط وأنساق وسياقات مالية واقتصادية واجتماعية تعمل داخل المجتمع العراقي، وتحولت فيما بعد إلى قيم قانونية، وأضفت الطابع المؤسسي على العمل المالي الحكومي في العراق ضمن تفاعلية متبادلة للقانون والمجتمع. واستمرت هذه القيم في الارتقاء لغاية سبعينيات القرن الماضي لتنتكس المنظومة المالية انتكاستها الأولى عندما حجبت البيانات والمعلومات عن النشر واعتبر الاطلاع عليها مساساً بالأمن القومي للعراق، وتلتها حالة تسرب الممارسات السياسية واجتياحها العمل المالي الحكومي، وبدأت هناك تغييرات في القوانين والتشريعات بطابع سياسي بحجة المعركة والحرب والجبهة والحدود والأرض والأمن القومي وغيرها؛ لتنتقل تلك الأعراف السياسية إلى قيم تناقض بجوهرها ذلك البناء الثر من الإرث القيمي في المالية الحكومية. وما إن حل عقد التسعينيات من القرن الماضي ودخول سنوات الحصار، حتى انقطعت العلاقات المالية الدولية مع العراق ولا سيَّما المؤسسات المصرفية العالمية ومنظومات الأمم المتحدة. لقد بدت المنظومة المالية الحكومية يتيمة هزيلة، وبدأت تعكس ممارسات وقيماً جديدة، ولا سيَّما في الدفوعات والاستثناءات والاستحقاقات والتوقيتات والتسويات].
وما إن جاء الاحتلال حتى سقطت المنظومة بالكامـل؛ ليرث المجتمع العراقي ممارسات وقيماً جديدة وشيوع شبكة من العلاقات قادتها الفئات الحاكمة والأحزاب عنوانها رد المظالم وإعادة الحقوق وحقيقتها الفساد بثوب الديمقراطية والفدرالية؛ وكانت نتائجه أن يندرج العراق من ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم. وما زال القصور الكبير يسود نشر المعلومات والبيانات والإفصاح عنها والشفافية في ظل إحجام الحكومة ومؤسساتها عن ذلك].
2 – تشتيت وتفتيت مهام ديوان الرقابة المالية والفساد
يعود تأسيس ديوان الرقابة المالية العراقي في تاريخه لسنة 1927 حيث صدر أول قانون للتدقيق المحاسبي وكان يحمل الرقم حيث تأسيس دائرة تدقيق الحسابات العامة، وقد عرفت فيما بعد بديوان مراقب الحسابات العام. وشهد الديوان عدة تعديلات تشريعية استمر العمل بها لغاية سنة 1968 حيث صدر القانون الرقم (42)، والذي اعتُبر تطوراً نوعياً في الرقابة المالية وتحت مسمى ديوان الرقابة المالية. وقد خُوِّل الديوان صلاحيات مالية وإدارية وفنية وقضائية، وكذلك أنيطت به مهمة التحقيق مع المخالفين وتحويلهم إلى لجان انضباط معينة ومحاكم مختصة. ومارس الديوان المهام الرقابية وسعى نحو تحقيق الكفاءة ورقابة الأداء، أعقب ذلك صدور القانون الرقم (194) لسنة 1980 ليسهم بشكل كبير في توضيح وتحديد الأهداف لهذه المؤسسة العريقة وتطوير مهامها ودفعها نحو معيرة العمل المالي والمحاسبي والإداري، واكتساب الاستقلالية في العمل وحدد القانون هيكلية الدولة والتقسيمات الإدارية ومساهمة الديوان في تطوير أدائها ورقابتها.
وقد أسهم ديوان الرقابة المالية خلال عمره الطويل بوصفه مؤسسة رقابية تعنى بمراقبة النشاطات المالية والمحاسبية والإدارية للقطاع الحكومي الذي كان يهيمن على الدولة العراقية، وكذلك الشركات المساهمة والمختلطة والتي تعد قطاعاً مهماً في العراق إبان الفترة 1945 ولغاية 1990. بعدها صدر القانون الرقم (6) في سنة 1990، وبدا في الفترة اللاحقة أنّ هناك تغيراً في عمل الديوان ولا سيَّما في ظل الحصار، حيث هيمنت المتغيرات السياسية على تلك الفترة ولغاية 2003 حين سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكي وليصدر بعدها أمر سلطة الائتلاف الرقم (77) لسنة 2004، وتناول فيه الحاكم المدني الأمريكي للعراق تعديل قانون ديوان الرقابة المالية، ورسم للديوان آلية التعاون مع الجهات الرقابية الجديدة المستحدثة كمفوضية النزاهة العامة ومكتب المفتش العام، فكانت بمثابة بداية تفتيت وتشتيت المهام الرقابية في العراق وتعدد الأهداف وضياع المهام والمسؤوليات وازدواج الصلاحيات. لقد شكل هذا الحدث استكمالاً لمرحلة التسعينيات وحالة الانحدار ونهاية الممارسات والقيم والأعراف الرقابية التي استغرق بناؤها عقوداً من الزمن امتدت لتغطي القرن العشرين.
ساهمت هذه المؤسسة الرقابية عبر منظومة مهيكلة من قوانين وتشريعات ومعايير وإجراءات وضوابط؛ برسم صيغ الممارسات الحكومية والتعاملات والارتقاء بها؛ ومواجهة حالات الفساد المالي والإداري؛ وبناء منظومة قيمية في المجتمع مصدرها تلك النشاطات الرقابية للمؤسسة؛ شارك في بنائها شخصيات كثيرة طيلة تلك السنين. وأياً كان السبب الذي يقف وراء تطور تلك المؤسسة الرقابية والبيئة التي تعمل فيها والصيغة المتبادلة بين المؤسسة وبيئتها ومجتمعها وحركية التغير التي قادتها بالوقوف ضد حالات الفساد بكل أنواعه المالي والإداري والمحاسبي، وعلى الرغم من التغير الذي شهده العراق إلا أنّ انهيار المؤسسة الرقابية وتدني نشاطاتها وتشتيت فعالياتها من قبل سلطة الائتلاف لا شك مثّلت حجر الزاوية لانتشار الفساد، وشيوعه وتناميه في بيئة حاضنة سادت فيها القيم الفاسدة بكل صيغها وشاعت فيها الأعراف والسلوكيات المنحرفة.
3 – المصارف العراقية الخاصة أغطية وقنوات للفساد
أياً كان دور المصارف في العراق الذي مارسته في الاقتصاد منذ بداية تأسيسها في نهاية القرن التاسع عشر واستمرارها لغاية بداية الستينيات من القرن الماضي حيث أمّمت المصارف العراقية الخاصة في سنة 1964، ومن ثم مرت في مرحلة الاندماج، وكان الهدف الاتجاه نحو تطبيق نموذج بنك الدولة (أسوة بالنظم المصرفية للدول الشيوعية إبان تلك الفترة). ولكن برز اتجاه آخر وقف بالضد من ذلك لينتهي المطاف بمصرف تجاري وحيد في العراق هو مصرف الرافدين، ومن ثم انشطر إلى مصرفين هما الرافدين والرشيد، ولغاية بداية التسعينيات حيث تم إقرار قانون تأسيس المصارف الخاصة، وكان العراق يرزح وقتذاك تحت الحصار الاقتصادي. وقد استمر تأسيس المصارف العراقية ليصل عددها إلى 39 مصرفاً في سنة 2014 منها 7 حكومية و24 أهلية تجارية واستثمارية و8 إسلامية].
لقد شكلت المصارف الأهلية في العراق قنوات وأغطية للعمل على تلبية حاجات النظام إبان سنوات الحصار، فكانت مصارف عائلية بعيدة كل البعد من المفهوم المؤسسي، واستمرت على هذا النمط، وبعد احتلال العراق وحالة الانفتاح الاقتصادي والمالي التي شهدها، وتعطيل قانون التحويل الخارجي أخذت المصارف تمارس أنشطة متنوعة معظمها غير مصرفية ولا سيَّما في بيع العملة الأجنبية (الدولار) وقد شكلت مع البنك المركزي وسائر المصارف منظومات شبكية لتدفقات الدولار بين العراق وبقية أنحاء العالم أو للتجارة بعملة الدولار داخلياً، وكذلك تغطية الكفالات والضمانات والائتمانات والتعهدات في ظل غياب المنظومات الرقابية وتعطلها من عملها تجاه هذا القطاع.
لقد برزت المصارف ضمن العمل المالي المنظم في العراق منذ ثلاثينيات القرن الماضي كمؤسسات وطنية حكومية، واستمرت بمساهمة فاعلة في دعم الاقتصاد العراقي وإرساء قيم التشجيع والدعم للأعمال صغيرة كانت أم كبيرة، ولا سيما المصارف المتخصصة في الشأن الزراعي والعقاري والصناعي. وكذلك استطاعت المصارف التجارية ارساء دعائم الثقة في التعاملات المالية وسداد الالتزامات في استحقاقاتها، فانعكست تلك التعاملات قيماً مضمونها الالتزام والدقة والتوقيتات الزمنية. ولكن انحسرت كل تلك الممارسات منذ أن فرض الحصار على العراق وسقطت تماماً خلال السنوات 2003 ولغاية 2015. ومن رؤية ثاقبة للمصارف العراقية الخاصة نجد بأنها ما زالت مصارف صغيرة وهزيلة بحجم رأسمالها وحجم موجوداتها وودائعها وسائر أنشطتها المصرفية. ولا يزيد رأس المال للمصارف الخاصة على الأربعة مليارات دولار موزعة على عدد كبير من المصارف الصغيرة، والتي فشل البنك المركزي في تحقيق أي اندماجات بينها، الأمر الذي يؤشر إلى ضعف المنظومة الرقابية المصرفية والإشراف المصرفي وإلى أن هذه المصارف الأهلية تتمتع بدعم سياسي وتعمل واجهات أو وكالات لجهات أخرى تقف وراء ستار تسعى لتحقيق أهدافها من خلال هذه المصارف. كما يؤشر إلى أن هذه المصارف تمثل أغطية لأنشطة وعمليات غير تلك التي تمارسها في العلن].
ومن تدقيق بسيط على كشوفاتها المالية تظهر بأنها كشوفات لا تعبر عن حقيقة الوضع المالي للمصارف ولا تعبر عن نتائج أعمالها. إن وراء ذلك سبباً بسيطاً وهو أن هذه المصارف تدار من مالكيها ولا تتمتع بفصل واضح لملكيتها عن إدارتها، ومن هنا يمكن الوقوف على طبيعة عمل هذه المصارف ودرجة مساهمتها بحجم الفساد في العراق، وهو أمر صعب القياس والتقدير].
تناول البحث حيثيات الفساد المالي في العراق من خلال مناقشة انهيار المؤسسات الرقابية، والتي يعود تاريخها إلى تأسيس الحكم الوطني في بداية القرن العشرين، وقد تم التركيز على ثلاث مؤسسات بوصفها مؤسسات رقابية وهي: المؤسسة الموازناتية ومؤسسة ديوان الرقابة المالية والمؤسسة المصرفية الخاصة. ومنذ بداية الحصار الاقتصادي على العراق في مطلع التسعينيات من القرن العشرين بدت ملامح الفساد تظهر وتستمر، وقد تفاقمت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003. لقد شكل الفساد في العراق بعد ذلك التاريخ ظاهرة عامة وشيوعها كان على كل المستويات، وفي مختلف المجالات. وعلى الرغم من أن المواطن العادي البسيط بدأ يلمس نتائج انعكاس الفساد على سلوك المجتمع وقيمه في إطار حزمة العلاقات الاجتماعية التي يتعامل معها المواطن أياً كان موقعه في المجتمع، إلا أن الأمر الأهم يتمثل باتهام الحكومة بالفساد، وكذلك الموظف الحكومي ومن يتعامل مع الحكومة من قريب أو بعيد، وشيوع الممارسات الفاسدة ضمن الهرم التنظيمي الحكومي. وعلى الرغم من الإجراءات والضوابط التي فرضت للحد من الفساد في الظاهر، ولكنها في الباطن تمثل منهجاً له، ولدرجةٍ طاول الأمر الحقوق الأساسية للمواطن، وحقه في الحصول على وثائق تثبت هويته وشخصيته، وصعوداً إلى قمة الهرم ضمن صيغ التعاقدات والتعهدات والصفقات والممارسات وغيرها.
لقد انتهكت الموازنة وقانونها إعداداً وتنفيذاً وتوقيتاً من قبل الحكومة، فلم يعد الإنفاق مرتبطاً ببنودها، وكذلك الإيراد فكان هذا بمنزلة الحيثية الأولى للفساد، وكذلك الأمر في المؤسسة العريقة الثانية وهي ديوان الرقابة المالية حيث شُتّتت مهامه من خلال ازدواجية المهام بينه وبين هيئة النزاهة ومكاتب المفتش العام. وهذا ما فرضه الاحتلال بقانون وسنّه بالممارسة، فكان هذا إيذاناً بنهاية المؤسسة الرقابية الأولى في العراق وتعطل الوظيفة الرقابية عن ممارسة دورها، فكانت هذه الحيثية الثانية، واتساقاً مع ما سبق برزت هناك شبكة من التعاملات المالية والقنوات المخفيّة للمصارف العراقية الخاصة، كل هذا شكّل حيثية ثالثة للفساد، وانعكست بشكل قيم اجتماعية سالبة في ظل تعطيل للتنفيذ القانوني.
لقد استطاع العديد من المنظمات الدولية الوقوف على طبيعة الفساد وشكله وتصنيفاته ووضعت العراق في الموضع الأسوأ في العالم، ولكن في الحقيقة هناك جوانب أكبر لم ولن تبلغها تلك المنظمات، ولا يستطيع أي باحث علمي قياسها. وبالمقابل فقد شكل الفساد ظاهرة عامة شائعة يمكن لمسها وتشخيصها بسهولة، وتبقى هناك السياسة بمؤسساتها وأحزابها بمنزلة بنية تحتية للفساد وتمثل منهجاً وفكراً له.
تأسيساً على ما سبق وأخذاً بمعطيات التقارير الدولية، ولا سيَّما صندوق النقد الدولي ومنظمات الأمم المتحدة التي تعنى بالتربية والصحة والشفافية وغيرها، نتوقع مستقبـلاً مظلماً للمجتمع العراقي قد يمتد لعقود في ظل انهيار المؤسسات الرقابية المعنية وانتشار قيم الفساد وهيمنة أحزاب أيديولوجية دينية لا تؤمن بالتنمية والمستقبل.