7 أبريل، 2024 12:52 ص
Search
Close this search box.

الصلات العثمانية السويدية: 3- محشي الملفوف

Facebook
Twitter
LinkedIn

الكُرُنب أو (اللّهانة) أو (الملفوف) احد انواع الخضار الورقية ويشبة الخس. يستخدم في الطبخ. وفي السلاطات، وخاصة سلاطة البيتزا. ومحشي الملفوف، ومحشي ورق العنب طبق تقليدي في المطبخ التركي، ابتكرته الاقوام التركية التي سكنت اواسط أسيا. فنقل السلاجقة الأتراك هذه الأكلة معهم حينما انتقلوا من أواسط آسيا الى الأناضول ومناطق البحر الأبيض المتوسط، وورثها عنهم العثمانيون. ومن مطبخ العثمانيين هاجرت الوصفة والتسمية معًا الى المطبخ العربي، فاحتفظت بعض المطابخ العربية بنفس التسمية التركية (الدولمة) (1)، في حين استخدم البعض الآخر من المطابخ العربية تسميات أخرى تتناسب مع التعديلات التي أجرتها على الوصفة الأساسية. لقد طورت المطابخ العربية هذه الأكلة وتفننوا واستخدموا فيها على وجه خاص ورق العنب / العريش / الدوالي، وانواع عديدة من الخضار القابلة للحشو(2). تُلف أو تُفَرّغ وتحشى بالرز واللحم المفروم والتوابل كمكونات اساسية. وغدت تشكل وجبة شهية في معظم المطابخ. وتجذرت حتى أصبحت جزءًا من التراث العربي. وربما اشتهرت عند العرب أكثر من اشتهارها في بلدها الأصلي. ولكنها تبقى موروثًا حضاريًا، وطبق يحمل عبق التاريخ ونكهة سلطانية.

الدولمة في السويد:
التواصل الملكي السويدي مع الواقع العثماني، والتبادل الثقافي بين السويد والعثمانيين خلال الاقامة الطويلة للملك هناك، كان من بعض آثاره الإيجابية، الإضافة المميزة للمطبخ السويدي. في اكلات مستوردة من الإمبراطورية العثمانية، واطباق شهية اعتمدها الشعب السويدي، واصبحت تعتبر من الأكلات المحلية الوطنية الأساسية في ثقافة الطعام (3).
ويُعتقَد ان أول معرفة للدولمة مرتبط بفترة حكم الملك كارل الثاني عشر. إذ يبدو أن العساكر مسؤولي الطبخ الذين كانوا في خدمة الملك كارل الثاني عشر في تركيا (4)، قد احضروا معهم وصفة المحشي (الدولمة) من المدينة التي سكنوا فيها مع ملكهم في بندر، أو من أدرنة (5). او ربما فعل ذلك، الطهاة العثمانيون الذين اصطحبهم الملك معه في عودته الى مملكته . ويمكن أن يكون الوسيط هم اولئك الذين بعثهم السلطان العثماني لاحقًا الى السويد لتحصيل ديون الامبراطورية العثمانية المترتبة على الملك. وقد يكون لكل من تقدم ذكرهم دورهم في هجرة الوصفة الى مملكة السويد. فإستلهم السويديون طريقة إعداد هذا الطبق العثماني، حيث نال الإستحسان والإعجاب. وبما أنّ ورق العنب ليس وافرًا في البلد في كل الأوقات، فقد استخدموا اللهانة (الكرنب/ الملفوف الأبيض) بشكل أكثر، ومن ثُمَّ أضافوا وعدّلوا بما يتلائم واجوائهم. ويحمل هذا الطبق اليوم في السويد اسم (kåldolmar) . kål تعني كُرُنب أو لهانة.

وحين نذكر جذور وأصل الأطباق، يجب ان لا يفهم ان في ذلك مغمز بمطبخ ما من المطابخ، أو غمط للتراث، أو تجاوز على الثقافة المحلية. وانما لكل مطبخ ميزته وخصوصيته. فحتّى هذا الطبق يحضى في المطبخ السويدي بمكونات اضافية وطريقة طهي تميزه عن غيره.

منذ سنة 2010م جرى التعارف في السويد على أن يقام سنويا إحتفال بيوم الدولمة (Kåldolmens dag)، واختاروا يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) لهذا الإحتفال. وهذا اليوم يوافق يوم وفاة الملك كارل الثاني عشر. واختيار هذا التوقيت اشبه بقرينة اعتراف بارتباط الدولمة بعهد الملك. كما وأن الإحتفاء ليس بيوم الوفاة، وانما للتذكير بالشخصية الفَذّة للملك. وأن الملك كارل الثاني عشر لم يكن عنصريا ولا منغلقًا. وانما كان على درجة عالية من الإنفتاح على الثقافات الأخرى، وخاصة ثقافة العثمانيين المسلمين. مما يعني وكما يقال: أن جزءًا من الثقافة السويدية –في القرن الثامن عشر- قد تم تشكيلها من خلال التفاعل مع العالم الخارجي. فتاريخ السويد متنوع ومتعدد الأوجه. يتوافر على بصمات للتمَيّز، وأضافات إنسانية، ومعطيات حضارية، رَسّخت الثقافة السويدية السائدة في الوقت الراهن.
يرى البعض أنه لا دليل في سجلات وتدوينات تلك الفترة يثبت الزعم بأن دخول المحشي الى السويد مرتبط بتوجيهات الملك كارل الثاني عشر لطباخيه بإحضار الوصفة الى السويد. او انها انتقلت على عهده من قِبَل احد اتباعه، او الاشخاص القريبين منه المسؤولون عن الطهي. فالادلة هنا مفقودة. وهذا الاعتراض منطقي . ولكن هل يعني هذا ان الملك لم يبد اهتمامًا ولم يستلهم ما يعجبة، وما يراه مناسبًا لأمّته وشعبه، من تراث وثقافة وحضارة واسعة اقام عندها زمنًا ليس بالقليل؟. هذا أمر مستبعد، وهو الملك الشاب النابه الذي يتقد طموحًا. إذ لا بد له ان يتعاطى ويقتبس كل ماهو جيد ومفيد. ومصادفة هذا الطعم الرائع للدولمة كان لا بد ان يلفت انتباهه. ومع ذلك هنالك العديد من القرائن والشواهد المنطقية التي تشير الى جذور الطبق العثمانية:
جذور الدولمة السويدية:
1- ان هذا الطبق كان اعداده وتناوله معروفًا في الامبراطورية العثمانية وخاصة على الموائد السلطانية التي كانت تقام في المناسبات (كرمضان مثلاً) للعامة، وللخواص والنخبة. وذلك قبل تواجد الملك في الدولة العلية بأزمان طويلة. في حين لا يوجد مايؤكد وجود مثل هذا الطبق في السويد قبل فترة حكم الملك كارل الثاني عشر(6).
2- قد يكون من نقل طبق محشي الملفوف وورق العنب الى السويد، إن لم يكن بتوجيه من الملك، فبواسطة واحد او اكثر من الدبلوماسيين السويديين الذين كانوا يعملون في الامبراطورية العثمانية، والذين كانوا يتواصلون ويلتقون الملك في منفاه الاختياري الذي امتد لأكثر من خمس سنوات.
4- من المحتمل ان الطهاة الاتراك الذين رافقوا الملك في رحلة العودة الى بلده، قد اعدوا له في قصره هذا الطبق، فتعلم الطهاة السويديون منهم هذه الوصفة.
5- الوفد الرسمي برئاسة الدبلوماسي العثماني كوزبكي مصطفى اغا، الذين ارسلهم السلطان الى مملكة السويد في السنوات التالية. لإستيفاء الديون الكبيرة التي هي قروض استلفها الملك من الإمبراطورية العثمانية اثناء تواجده في الدولة العلية العثمانية. كان الوفد قد استصحب معه طهاة أتراك ليطبخوا الطعام الشرقي. وقد اقام هؤلاء الطهاة فترة من الزمن طويلة في السويد (7). وكل هذه شواهد على التقارب الرسمي والمجتمعي بين الدولة العليّة العثمانية والسويد.
3- ان السويديين استعاروا واحتفظوا في تسمية الأكلة في بلدهم بنفس التسمية العثمانية dolma. وهذا دلالة على انهم يعزون الطبق الى اصله. وانه لم يتسرب اليهم من البلدان الأوربية مثلاً. إذ قد يكون هذا الطبق معروفًا لدى بعض الشعوب الأوربية خاصة تلك التي كانت تحت النفوذ العثماني. وربما أخذ تسميات مغايرة. مما يعني ان السويديين تعلموا في المرة الأولى -على الأقل- عمل محشي الملفوف على يد الأتراك حصرًا (8).
6- ان اقدم تدوين لوصفة طهي الدولمة جاءت في كتاب طبخ شهير لـ (Cajsa Warg) في سنة 1765م ويحمل عنوان: مساعد حديثات الزواج في التدبير المنزلي. إذ يذكر الكتاب طريقة الوصفة وطهيها (الشبيهة بالطريقة العثمانية)، وانها بورق العنب ولحم البقر! (وليس بلحم الخنزير). وكل هذا يدعم الفرضية التي تقول ان هذا الطبق بدأ يشيع وينتشر من تلك الفترة في القرن الثامن عشر.
7- ربما قد يتوجس البعض – في الوقت الحاضر- ويمتعض من ربط جذور الدولمة بدولة تركيا، بسبب إسقاطات سياسية أو عقدية أو تنافسية، أو غير ذلك من الإعتبارات. وانما ألأمة المعنية بإمتداد جذور الدولمة اليها هي الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر وليس جمهورية تركيا الحالية (9).
الدولمة تراث سويدي:

الأطعمة التي عُرفت على زمن الإمبراطورية العثمانية ، ليس بالضرورة أن تطهى وتقدم اليوم تماما بنفس الطريقة التي كانت تطهى وتقدم بها في السابق. فالتغيير والتبديل دائم ومستمر. فالدولمة في تركيا في الوقت الحاضر تطلق على محشي الفلفل الأخضر. أمّا دولمة ورق العنب ، فتسمى بالتركية المعاصرة sarma أي لفائف ورق العنب. وعمومًا يمكن القول ان الدولمة اصبحت أكلة عالمية مع الأخذ بنظر الإعتبار الإختلاف في طريقة تحضيرها بين الشعوب.

أما وقد استوطن طبق الدولمة بالملفوف وورق العنب في السويد، وجرى عليه التطوير والتحوير والنكهة الخاصة. القائمة وفق مزاج الناس والبيئة والطبع والثقافة. وانه تجذر وانتشر. فلا بدّ ان يصبح جزءًا من التراث السويدي. فالعادات والتقاليد جزء من الهوية. وكما أنّ الناس بمرور الوقت تتغير عندهم الامزجة والعادات، كذلك الأطعمة ومكوناتها ومذاقاتها تتشكل وتصبح جزءًا من البيئة الجديدة. وإن بقيت الجذور الأولى مرتبطة بالأتراك العثمانيين. فالعراقيون على سبيل المثال يعتبرون الدولمة من اهم مأكولاتهم التراثية ، التي تجتمع عليها الأسرة العراقية، وهي تتصدر موائد المناسبات العزيزة. وتختلف طعومها ومذاقاتها في كل محافظة. واحسب ان الأمر ذاته يجري في البلدان العربية الأسيوية والأفريقية. وكذا الكفتة العثمانية شأنها شأن الدولمة، وغير ذلك من الأمور الإيجابية التي هي حصيلة إلتقاء وتواصل الثقافات والحضارات.
الخلاصة:
إنّ بحث الجذور عن جوانب من التراث والثقافة العامة، يساعدنا في فهم أهمية التواصل بين الشعوب والحضارات المختلفة. ومصداق ذلك نجده في التأثير الذي احدثه المطبخ العثماني على المطبخ العربي ( الشامي/ العراقي/ الأردني/ الشمال أفريقي/ الخليجي…) وكذا المطبخ الأرمني، البلقاني، اليوناني، القوقازي، البلغاري، الصربي، الكرواتي، والبوسنوي…، وكل المساحات التي كانت تحت السلطنة العثمانية. إذ تشترك كلها في مأكولات ومشروبات معينة وربما بنفس المسميات، مثل: القهوة والبقلاوة والكفتة والدولمة والبورك واللحم بعجين.
العادات والثقافات تنتقل وتعبر الحدود. والشعوب تتعلم وتستلهم وتقتبس من بعضها البعض. وجدير بالإهتمام : ان مجتمعًا متعدد الثقافات والأعراق، يستوعب الجميع بإندماج ايجابي، هو مجتمع سليم، لا غروى أن يكون اكثر عطاءًا ونماءًا وثراءًا ، لمصلحة الجميع.

المراجع والهوامش:
(1) الدولمة dolma بالتركية تعني حشو. والأصل في ابتكارها أنها تؤكل على الماشي، أو على الواقف في اثناء الحفلات مثلاً بدون ملعقة وسكين. وتؤكل باردة أو ساخنة. كما وتؤكل كوجبة رئيسية أو كمقبّلات.
(2) كالباذنجان والفلفل والخيار والكوسا والبصل والطماطم والبطاطا والكرنب والسلق، وكل خضار قابل للحشو.ويتميز محشي كل بلد ويتنوع حسب توفر مفردات هذه المحاصيل الزراعية محليًا لكل بلد.
(3) وكالة الأناضول الرسمية https://www.aa.com.tr/ar/
(4) راجع: لماذا لجأ ملك السويد الى الدولة العثمانية؟. http://www.alnoor.se/article.asp?id=364686
(5) أنّا ماتسون (باحثة في قسم الآداب بجامعة أوبسالا السويدية) تقول أن الملك اصطحب معه وصفة تحضير الكفتة والقهوة ومحشي الملفوف، لدى عودته إلى بلاده. نقلاً عن وكالة الأناضول الرسمية في 29/4/2018م. وكذلك في ترك برس. https://www.turkpress.com.tr/node/48478
(6) عرفت الدولما منذ القرن العاشر، واتسع انتشارها مطلع القرن الرابع عشر على يد طباخي السلاطين العثمانيين http://focusegy.com/2017/07/18
(7) كوزبكي مصطفى اغا، احد قادة الشام العثمانيين. كان سفير الامبراطورية العثمانية الى المحكمة السويدية سنة 1727 تم ارساله الى ستوكهولم لجمع ديون ملكية كان قد تحملها الملك كارل الثاني عشر عندما لجأ الى الدولة العثمانية بعد انتصار القيصر بطرس الأكبر على السويد عام 1709 غير ان كوزبكي مصطفى اغا فشل في جمع هذه الديون، بسبب الضائقة الإقتصادية التي كانت تمر بها السويد آنذاك. https://artsandculture.google.com/
(8) اقتبس اهل الشام الفاظًا تركية: (يبراق) وتعني ورق الشجر بشكل عام أو ورق العنب، لمحشي ورق العنب باللحم المفروم Yaprak dolması. و(يالنجي) لمحشي ورق العنب بالخضار والبقول بدون اللحم (Yalancı تعني الكذاب تعبيرًا عن خلو المحشي من اللحم المفروم). وتسمى الدولمة في الأردن وفلسطين (ورق الدوالي)، وفي مصر (المحشي)، وفي الجزائر (يبرق دولمة).
(9) http://faktoider.blogspot.com/2018/05/svenska-kottbullar-inte-turkiska.html
خالد أحمد عبد المجيد

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]

 

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب