7 أبريل، 2024 6:43 ص
Search
Close this search box.

الصلات العثمانية السويدية: 2- طبق الكفتة

Facebook
Twitter
LinkedIn

اتيحت للملك كارل الثاني عشر (1682- 1718م) خلال تواجده في الدولة العثمانية لأكثر من خمس سنوات(1). امكانية الاطلاع بشكل واقعي على مجريات الحياة اليومية. ولمس عن قرب الثقافة العامة، وطرق واساليب معيشة المجتمع العثماني. ومن المعلوم ان المرء حين يكون سائحًا أو مقيمًا في بلد ما مختلف عن بلده الأصلي، في اللغة والحضارة والثقافة والعادات والتقاليد، – وكانت مدة بقاءه طويلة- فإنه سيحاول ان يتعلم الكثير من المعاني والمفردات، كي يكون اقرب الى فهم طبيعة المجتمع الجديد. لتَسهُل عليه سبل التعايش والتعامل معه. ويفترض انه سيكون من ضمن مايتعلم: الكلمات الشائعة الاستعمال، الارقام والأسعار، ربما الحروف، طرق التحية والمجاملة، انواع الاطعمة والاشربة ومقاديرها، وطرق تحضيرها. … الخ. بمعنى ان المرء يندمج ويتلبس بالثقافة الجديدة بشكل كافٍ. فما وجده من هذه الثقافة يتلائم مع طبيعته الشخصية ومع مجتمه الاصلي الذي ينحدر منه، اقتبسه واعتاد عليه. وسيعمد غالباً على تطبيقه في بلده حينما يعود اليه. وقد يحدث أن يجد الآخرون ان ما إقتبسه ليس بالسيء، فتحدث الشهرة والإنتشار له بين الناس. وهذه واحدة من مزايا السفر ولقاء الثقافات الأخرى. فهي تثري المنظومة المجتمعية. وهذا ألأمر بالضرورة ينطبق على الملك كارل الثاني عشر، الذي عاش فترة طويلة في الإمبراطورية العثمانية. حيث يعتقد أنه اعتاد على مذاق بعض المأكولات المحلية العثمانية ، فإقتبس اطعمة شهية من المطبخ التركي. ونُقِلت في عهده (كما يعتقد الكثيرون) الى المطبخ السويدي مثل: (طبق الكفتة العثمانية).
ألكفتة العثمانية:
يعتبر المطبخ التركي من اثرى المطابخ. لتنوع الأكلات العثمانية فيه. ومنه انتشرت العديد من الأكلات في الشرق الأوسط. فتركيا شكلت تأريخيًا نقطة التقاء وصراع وتواصل عالمي، وتعرضت لتقلبات سياسية جوهرية، وتبادلات تجارية، ودينية، وثقافية. حيث مرّت او إحتكت بها الثقافة البيزنطية والرومانية والاسلامية عربية وفارسية وأندلسية، وهجرات آسيوية… الخ.
ثُمَّ إنّ إمتداد مساحتها الجغرافية كإمبراطورية واسعة الأرجاء في آسيا وأفريقيا ودول أوربا ، والتي تضم طوائف ومجتمعات مختلفة، وتضاريس متنوعة. كل ذلك كان له تأثيره الكبير في التنوع الغذائي وإثراء مطبخها. واليوم يمكن ان تشم عبق ورائحة الطعام العربي الشامي، واليوناني، والفارسي، والأندلسي، والهندي، وغيرها، في المطابخ التركية.
الكفتة احد الاطباق التركية المشهورة بنكهة تاريخية عثمانية. وهي عبارة عن كرات لحم الضأن أو لحم البقر المفروم المتبل. ومعلوم ان الطهاة كانوا يقدمون أفضل الأطباق للسلاطين. وقد احب الملك كارل الثاني عشر هذه الأكلة بعد ان استطعمها عند العثمانيين. واعتاد عليها. فكان يتناولها كوجبة خفيفة مع القهوة. (سيأتي الحديث عن عادة شرب القهوة لدى السويديون في بحث لاحق). في حين ان الميسورين كانت كرات اللحم تقدم لهم كوجبة أساسية.
عند خروج الملك من الدولة العثمانية قاصدًا بلده السويد عام 1714م اخذ معه طباخين عثمانيين. وهذا يشير الى اعجابه الشديد بالمطبخ العثماني. فأقاموا في السويد، ليُعدّوا له الكفتة والطعام الذي اعتاد على تناوله. لقد ادرك ان جانبًا من الأطباق العثمانية تتناسب والبيئة السويدية، وسيهواها ابناء الوطن عندما تضاف الى مطبخهم. وقطعًا لا يمنع كذلك ان يكون قد نقل بعض من كانوا في خدمته من العساكر المسؤولين عن الطبخ، وصفة الكفتة الى المطبخ السويدي.
الصلات العثمانية السويدية:
التواصل بين الملك كارل الثاني عشر والسلطان احمد الثالث، استمر بعد عودة الملك الى بلاده. فقد ارسل السلطان العثماني الى الملك السويدي عدد من الطهاة. وبعض الهدايا تضمنت مجموعات من الإبل يصحبها رعاتها ووضعت في قصر الملك. أمّا الطهاة العثمانيين فقد أقاموا في قصر الملك لمدة طويلة وأعدوا له الطعام وفق أُطر وقوالب المطبخ التركي العثماني.
انتشرت المعرفة بالكفتة (كرات اللحم) واشتهرت بين الشعب السويدي، واحبوا طعمها. وغَدَت تحظى بمقبولية لدى كل الأعمار. وانتهى الأمر بطبق كرات اللحم المقلية ألـ (شْوت بُولَّر köttbullar) كما يطلق عله في اللغة السويدية، أن اصبح من أشهر الاطباق الكلاسيكية السويدية المفضلة والمحبوبة في المنازل السويدية في الوقت الحاضر. ويجدر القول هنا، أنه حتى لو كانت جذور هذا الطبق من الخارج الا انه ماعاد كما هو الحال في القديم. فقد تَسَويَد الطبق (اصبح سويديًا) إذ طوره السويديون واصبح جزءًا من تراثهم، وله مذاق وشكل مغاير قطعًا عن الشكل الأصلي. ففي تركيا هو طبق كفتة. وفي السويد هو طبق شْوت بُولّر.
تخصصت مطاعم (إكيّا) التابعة لمعارض (إكيّا IKEA) (الشركة السويدية العالمية المتخصصة في صناعة الأثاث) بفروعها المنتشرة في العالم، بتقديم مايقال قرابة مليوني طبق من هذه الاكلة الشعبية الشهيرة يوميًا. فقد عُرف هذا الطبق واشتهر عالميًا حتى في تركيا ذاتها. ويقدم غالبًا مع مكملات غذائية مثل البطاطا المسلوقة، أو المهروسة، كمُكَوّنات رئيسية في الطبق. ويُقبِل حتى الأطفال على اكل كرات اللحم حين تقدم لهم – على وجه خاص- مع السباغيتي. لقد ساهمت شركة (إكيّا) في إكساب طبق (الشوت بولّر) الشهرة العالمية، بتقديمها هذا الطعام الشهي بقالب سويدي مميّز.
اقرار الحكومة السويدية بأن الكفته تركية:
اقرت الحكومة السويدية رسميا بتغريدة في ابريل 2018م، أو لنقل أومَأت الحكومة السويدية عبر حسابها الرسمي على تويتر (الممول من وزارة الخارجية والمعهد السويدي)(2)، بأن جذورالكفتة السويدية هي وجبة ترجع للمطبخ التركي. وجاء في التغريدة: “في الحقيقة إن الكفتة السويدية، تعود إلى وصفة جاء بها الملك كارل الثاني عشر من تركيا العثمانية، دعونا نقر بالحقائق”. بمعنى انه ليس من ابتكار السويد.
تناقلت وسائل اعلام إخبارية عالمية هذا الإقرار الرسمي (الإيماءة)، مثل: (BBC, CNN, New York Times, The Sun, Daily Telegraph, Metro UK,). وقوبل بسعادة وبتفاعل ايجابي كبير في الاعلام التركي. وافتخر الطهاة في تركيا. حتى عبّر احدهم من مدينة إنيغول (في بورصة) لوكالة انباء دوغان التركية. فقال: “إنه لشرف أن يصبح الطبق التركي نموذجًا للمطابخ المختلفة في جميع أنحاء العالم. وأنه لا ينبغي على (إكيّا) ان تبيع الطبق كما لو كان سويديًا”.
اعتراض على الإقرار:
المنشور الرسمي (الإقرار) واجه مشاعر قوية وانتقادات من بعض الباحثين والمتخصصين في الأغذية حول اصل كرات اللحم. مثل ريتشارد تيلستروم الأستاذ المساعد في جامعة ستوكهولم. الذي اعتبر ان معلومات المنشور مُلَفّقة وغير صحيحة. وانه لا أحد يعرف بالضبط متى بدأ السويديون طهي طبق كرات اللحم. واعتبر الاستاذ ريتشارد ان اقدم مصدر وأول ذكر لكرات اللحم ورد في كتاب الطبخ لـ (Cajsa Warg) في عام 1755م اي بعد وفاة الملك كارل الثاني عشر بقرابة (37) عام. وهذه فترة طويلة كما يعتقد، وبالتالي يستنتج انه لا ارتباط للملك بطبق الكفته (3).
على الجانب الآخر، هنالك من يعتقد بصحة المعلومة التي نشرت على تويتر. يقول اوليفر غراسمان (محرر وسائل الإعلام الإجتماعية في موقع Sweden.se) انهم كانوا يعتمدون في المنشورعلى حقيقة مقبولة. مع ذلك فهم لا يرون بأسًا من زيادة التحقق من المعلومة بشكل افضل (4). وتشير الـ (بي بي سي) إلى مقابلة أجرتها وكالة الأناضول التركية مع الباحثة في قسم الآداب جامعة أوبسالا السويدية، (آنّى ماتسون) بقولها حتى وإن أحضرها الملك كارل الثاني عشر وأحضر دولمة الملفوف والقهوة إلى السويد، إلا أن التواصل مع الثقافات الغذائية الأخرى، تخلق ثقافات غذائية جديدة محددة (5).
ربما نظر البعض الى انَّ إثارة الموضوع، مغمز في التراث السويدي. بإعتبار أنّ الناس في مختلف بقاع العالم حينما يرون (الشوت بولّر) يربطونه ذهنيًا بالسويد. ولكن ربما ليس بعد هذه الضجة الإعلامية (6). فالخشية أن تتبدل الصورة. وهذا الخوف مبرر الى حد ما. ولكن لكل طبق ميزاته حتى ولو كانت جذوره بعيدة او غير معروفة،. لقد تفوق السويديون في الإعداد والترويج لهذه الوصفة حتى اصبح (الشوت بولّر) طبقًا سويديًا بلا منازع.
البيتزا والفلافل والكشري:
من غير المُرجّح ان يكون هنالك تأثير سلبي على مطاعم (إكيّا) فما تقدمه يحمل الدمغة السويدية والطعم المميز. تأمل طبق (البيتزا) التي اذا ذُكِرت، فإنها تنسب الى ايطاليا. مع ان جذورها في تركيا أو اليونان أو في كليهما. ولم يقلل هذا الإرتباط التاريخي من شهرتها الإيطالية. تأمل الفلافل التي اصبحت اكلة شعبية مميزة في العديد من دول اوربا. وجذورها في مناطق الشام شرق البحر الأبيض المتوسط. وتأمل الكشري اشهر أكلة شعبية في مصر. فإذا ذكر الكشري ارتبط الأسم بمصر، ولكنها مستوردة تاريخيًا من الهند ، وهنالك من لا يقر بذلك. فكل اكلة في بلدها الجديد تتجذر وتأخذ صيغة وشكلاً وطعمًا مخصوصًا، قد يكون قريباً أو بعيدًا عن الأصل. ومن ثم لا ضير ان يُدعى طبق الطعام، كفتة سويدية، وبيتزا ايطالية، وكشري مصري.
الخلاصة: بغض النظر عن الإيماءة الرسمية بعثمانية الكفتة، إلا إنّ المعترضين لم يقدموا دليلا يثبتوا فيه بشكل قطعي على أنه لا ارتباط للملك كارل الثاني عشر بجلب وصفة طبق كرات اللحم (الكفته) من تركيا العثمانية الى السويد. ويبدو لي أنّ المُقرّين الذين اعتبروا ان مصدر طبق كرات اللحم هو الامبراطورية العثمانية على زمن الملك كارل الثاني عشر. هم الآخرون لم يقدموا دليلاً جازمًا يُعَضّد ما ذهبوا اليه. بيد أنّ هنالك العديد من الشواهد والإستنتاجات المنطقية تُرَجح وتؤكد صحة ما ذهب الية المقرّون بعثمانية الطبق، وهذا ما سنأتي الى بيانه بنقاط محددة في ثنايا موضوع (طبق الدولمة) وهو المبحث التالي (الثالث) وسيكون بعنوان: (الصلات العثمانية السويدية: 3- محشي الملفوف).

المراجع والهوامش:
(1) ظروف بقاءه في تركيا العثمانية تجدها في بحث سابق منشور تحت عنوان: لماذا لجأ ملك السويد الى الدولة العثمانية؟.
(2) المعهد السويدي وكالة حكومية تابعة لوزارة الخارجية مهمتها زيادة اهتمام العالم بالسويد.
(3) صحيفة اكسبريسن في 4/5/ 2018 https://www.expressen.se/nyheter/nyhet-om-svenska-kottbullar-sagas-av-forskare-fabricerat/
(4) https://lajvo.se/den-klassiska-svenska-favoriten-koettbullar-kommer-egentligen-inte-fraan-sverige
(5) www.unt.se/nyheter/uppsala/ar-svenska-kottbullar-inte-svenska-4971286.aspx
(6) اندش جي اس نيلسون. unt.se/nyheter/uppsala/ar-svenska-kottbullar-inte-svenska-4971286.aspx

خالد احمد عبد المجيد

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب