الصلاة كفعل حب… قراءة فلسفية في نص زوربا واستلهامه لبناء عالم أفضل

الصلاة كفعل حب… قراءة فلسفية في نص زوربا واستلهامه لبناء عالم أفضل

اليكم رائعة من روائع الأدب العالمي ( حوار زوربا الفطري مع المثقف المتأمل )

– لا أراك تصلي يا زوربا.

• الذي يصلي لن تراه.

– هل معنى هذا انك تصلي؟

• نعم .. لا تستطيع قطرة البحر إلا أن تكون في أعماق الموج.

– ولكن كيف تصلي؟

• هل تعتقد أني أصلي صلاة شحاذ وضيع يتذلل من أجل أطماعه ومخاوفه؟؟ .. بل أصلي كرجل.

– وكيف يصلي الرجال؟

• بالحب .. أقف وكأن الله يسألني : ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحًا ؟.. فأقدم تقريري له فأقول : يا رب أحببت فلانًا , ومسحت على رأس ضعيف .. , وحميت امرأة في أحضاني من الوحدة .. , وابتسمت لعصفور وقف يغني لي على شرفتي .. , وتنفست بعمق أمام سحابة جميلة تستحم في ضوء الشمس .. , وأظل أقدم تقريري حتى يبتسم الرب…

– وإن ابتسم.

• نضحك ونتكلم كصديقين.

– ألا تطلب منه شيئًا.

• هو أكرم من أن أطلب منه .. طالما نظر فوجد حبًّا أعطى …

– وماذا تفعل عند الخوف؟

• أخاف ككل إنسان ولكن عندي يقين أن الحب يُذهب الخوف.

في هذا النص العميق من روائع الأدب العالمي، يقف زوربا أمام سؤال جوهري: ما معنى الصلاة؟ لكنه لا يجيب بجواب تقليدي، بل يفتح لنا باباً على فضاء روحي أوسع من الطقوس، وأكثر إنسانية من التضرع الميكانيكي… ؛ فالصلاة عند زوربا ليست انحناءة ظهر أو ترديد كلمات محفوظة، بل هي فعل حب، وفعل حياة، وفعل مشاركة مع الله في صياغة المعنى… ؛ اذ لم يكن زوربا في ذلك الحوار الخالد يتحدث عن الصلاة كما نعرفها في قواميس الطقوس، بل كما يشعر بها قلبه حين يضطرب بالحياة… ؛ فعدما سألوه: أتراك تصلي؟

فابتسم وكأن السؤال طفل لم يكتشف بعد أن البحر كله صلاة.

قال: لا تستطيع قطرة أن تنفصل عن الموج …

1. المعنى العميق للنص

الصلاة ليست تسولاً روحياً: زوربا يرفض أن يكون العبد الشحاذ الذي يتوسل لتحقيق رغباته أو دفع مخاوفه… ؛ هو يرفض العلاقة النفعية مع الله… ؛ وهذا يذكرنا بمقولة حكيم العراق الشهيرة الامام علي : (( الهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك , لكن وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ))

الصلاة فعل إبداع وجودي: أن تصنع من لحمك روحاً … , أن تحول التجربة اليومية إلى مادة روحية، أن تجعل الحب هو التقرير اليومي الذي تقدمه لله…

الله كصديق: الفارق هنا كبير، فالله ليس سيداً متجهماً، بل صديق يبتسم حين يرى الحب، ويضحك معك حين يكتمل المعنى.

الحب كطاقة للخلاص: عند الخوف، لا يستنجد زوربا بالمجهول أو الطقوس العجائبية، بل يثق أن الحب هو الذي يمحو الخوف…

2. مدلولات النص الفلسفية

هذا النص يفتح أمامنا منظوراً مختلفاً لفهم العلاقة بين الإنسان والمقدس:

إنه يحرر الروح من أسر الطقوس الشكلية، ليضعها في قلب التجربة الإنسانية اليومية…

يجعل الأخلاق والجمال والفن والحب جوهر الإيمان الحقيقي…

يدعو إلى مسؤولية شخصية: كل صلاة هي تقرير عن أفعالك، لا عن كلماتك…

يربط التدين بالفرح لا بالخوف، بالابتسامة لا بالعبوس ؛ بالإنسانية لا بالأنانية …

3. كيف نستفيد منه في بناء واقع مغاير لما نعيشه الآن

في عالمنا العراقي اليوم، حيث الدين غالباً ما يُختزل في المظاهر أو يُستغل في السياسة، يمكن لهذا المفهوم أن يكون ثورة هادئة:إعادة تعريف التدين: من أداء واجبات شكلية إلى بناء علاقة حب ومسؤولية مع الخالق ومع الناس… ؛ وتطهير المجال العام من النفاق والرياء الديني: حين يصبح معيار التدين هو الحب والخير… ؛ عندها ينهار دور المتاجرين بالشعارات الدينية والدجالين والمتسترين بالدين والمعتاشين عليه …

بناء إنسان جديد: إنسان يرى في عمله وإبداعه وحبه وابتسامته صلاة مستمرة، لا مجرد أوقات منفصلة في اليوم…

إلغاء ثنائية الخوف والطاعة العمياء: واستبدالها بعلاقة حرة ومسؤولة، تجعل الإنسان فاعلاً لا مفعولاً به.

4. إسقاطه على الواقع العراقي

إذا أخذنا العراق مثالاً، فإن هذا النص يمكن أن يكون دعوة لتحويل الدين من أداة صراع ومزايدات مذهبية إلى طاقة روحية تعيد بناء الوطن: أن نصلي عبر حماية الضعيف بدلاً من الانشغال بتكفيره.

نعم : في العراق، حيث تتزاحم المآذن وتتنافر القلوب، وحيث يتناوب على المنابر دعاة الكراهية وتجار الطوائف، يمكن لفلسفة زوربا أن تكون جرعة خلاص.

أن نصلي بحماية الشارع من الرصاصة، لا بتبرير القتل باسم المذهب والدين والقومية…

أن نصلي بإطعام الجائع، لا بإنفاق الأموال على سباق الزخارف والمآذن والطقوس الفارغة…

أن نصلي بزراعة نخلة تُظلُّ الفقراء، لا بخطب سياسية تُشعل النيران بين الإخوة…

وأن نعيد تعريف الإيمان ليصبح هو الحب الذي يبدد الخوف، والعدل الذي يطفئ الفتنة، والجمال الذي يعيد الثقة بالحياة.

أن نصلي عبر زرع شجرة بدل الانغماس في جدالات فارغة.

أن نصلي عبر صون كرامة الجار بدل الانجرار وراء الطائفية.

أن نؤمن أن الحب يذهب الخوف، فلا نخضع لابتزاز الساسة ولا لتهديد المتطرفين.

فإذا استطعنا أن نحب كما صلى زوربا، فلن نحتاج أن ننتظر ابتسامة الرب… لأن ابتسامة العراق نفسه ستعود.

إن صلاة زوربا هي في جوهرها فلسفة للحياة: الحب كعبادة، والكرامة كطقس، والفرح كقداسة.

وإذا أردنا أن نصنع واقعاً جديداً، فعلينا أن نبدأ من هنا: من تحويل كل فعل حب، مهما كان صغيراً، إلى صلاة.

هذه الفلسفة ليست هروباً من الدين، بل عودته إلى قلبه الأول؛ حيث كان التدين لقاءً حياً بين الإنسان والسماء، لا صفقة بين طقوس ومكاسب.

إنها دعوة إلى أن نصلي في الشوارع والحقول وأماكن العمل، لا لأننا فرغنا من الحياة، بل لأننا نعيشها بامتلاء.

أن نرفع رؤوسنا، ونحوّل كل يوم إلى نشيد حب: ابتسامة لطفل، إنقاذ لقلب وحيد، زرع شجرة، أو مسح غبار الخوف عن وجه إنسان…

أحدث المقالات

أحدث المقالات