23 ديسمبر، 2024 5:46 م

الصلاة تحت سياط”داعش”

الصلاة تحت سياط”داعش”

عندما كان الرسول الكريم يتهيّأ  لصلاة الجمعة ،وقُبيل الخطبة وصلت قافلة تجارية تحمل الطعام، فانفضّ المصلّون إليها ، وتركوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبصحبته عدد قليل من المصلين، وذهبوا للقافلة،  فلم يمنعهم الرسول، ولم يُسمعهم كلاما جارحا، رغم أنّ الموقف آلمه، بل ترك لهم حريّة الاختيار، فأنزل ربُّنا جلَّ في علاه سورة “الجمعة” يعاتب فيها المسلمين الذين شغلتهم التجارة ، ومتاع الدنيا عن الصلاة، بقوله  تعالى(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، فلم يأمر بمحاسبتهم، ومعاقبتهم، بل جاء استنكار الموقف على هيئة عتاب بآية قرآنيّة فيها ترغيب ، وطلب من النبي أن يخبرهم بأنّ (مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) .

استحضرت هذا الموقف، الذي ورد في الكثير من كتب التفاسير في أسباب النزول ،  وأنا أطّلع على فقرة من  الأمر الذي أصدره مسلحو “داعش” في “الموصل” بعد إعلان “خلافتهم” مهدّدين ، بواسطة مكبرات الصوت، بجلد  كلّ من يتخلّف عن أداء صلاة الجمعة من أهالي الموصل50  جلدة، بخاصّة أن تلك المناسبة استغلتها “داعش” لمبايعة “أبوبكر البغدادي”، “خليفة للمسلمين” كما جاء في تصريح لعضو من أعضاء “مجلس أعيان الموصل” !!

هذا الأمر يجعل الممارسة الدينية تقام بالاكراه، و”السياط” والترهيب وليس بالترغيب، والاقناع، كما فعل المسلمون الأوائل ،وسار على نهجهم من جاء بعدهم، وفي هذا الاكراه تعسف، فالله تعالى قال في كتابه “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ” أي “لا تُكْرِهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح جلي دلائله وبراهينه” كما يفسر ابن كثير.

والأمر لم يقتصر على الصلاة ،فالأخبار الواردة من المناطق التي احتلتها “داعش” في العراق والشام تؤكّد أنّ “الداعشيين” “قاموا  بتنفيذ أحكام الجلد أمام الناس بحق عدد من الشباب الذين يرتدون الملابس الحديثة،  أو ممن يقصّون شعرهم وفق أحدث “الموضات” ، ووصل الأمر حتى جلد من يتلفظ بكلمة “داعش”!

وكذلك التضييق على أصحاب الديانات السماويّة الأخرى رغم أن تعالى يقول في كتابه “لكم دينكم ولي دين “، فالانسان حرّ في اعتقاده مادام يعبد الله  شرط عدم التعرّض للاسلام .

والسؤال الذي يطرح نفسه ضمن هذا السياق ،إلى أيّة شريعة استندوا بتنفيذ هذه الأحكام؟ فلم نقرأ في التاريخ الاسلامي عن حوادث مشابهة، كيف سمح هؤلاء لأنفسهم أن يختصروا الدين  بتسريحة شعر أو ارتداء ثوب؟  ناسين إن ديننا الحنيف منبع للقيم الإنسانية ، والروحية ، والمثل العليا، والتسامح، والارتقاء بالنفس، والزهد – من المفارقات أن خليفتهم ” البغدادي ” ارتدى ،في أول ظهور له في الموصل، ساعة يد يصل ثمنها ستة آلاف دولار!!  فأين هو من خلفاء المسلمين الذين كانوا يلبسون الخشن من الثياب ضاربين الدنيا ومتعها عرض الحائط !؟ أم أنّ “البغدادي” خليفة على الطريقة الحديثة!!؟ 

كل تلك الممارسات تؤكّد ، بما لا يقبل الشك، إنّ الدين بالنسبة لهذه الجماعات ليس سوى مطيّة يركبونها، وشعار يرفعونه، لمداعبة المشاعر الدينية ، بهدف ضمان هيمنة أكبر على أوسع شريحة من المسلمين الذين سيجدون أنفسهم ،يوما بعد آخر، مكرهين على أسلوب حياة لا علاقة له بدين اليسر ، والتسامح،  والقيم التي أكّد عليها القرآن الكريم بقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (256). البقرة.، فأضاعوا الرشد، وتمرّغوا بالغيّ ، تحت وقع سياطهم!