23 ديسمبر، 2024 2:09 ص

الصراع في العراق وفي المنطقة

الصراع في العراق وفي المنطقة

يتوهم الكثير من الطائفيين المتحكمين بمصائر شعوبنا في العراق وكل المنطقة أن الصراع الجاري هنا هو صراع طائفي. ويعمدون إلى إيهام الآخرين برؤاهم المريضة هذه. والحقيقة أن صراعاً آخر أعمق بكثير وأرقى وأشد خطورة هو الذي يشكل السمة التاريخية لما يجري. لكنه يتلبس جلود الوحوش حين يركبه هؤلاء الذين يحاولون تحريف التاريخ ومجراه الحتمي بليّ عنقه وإدارة التوحش كيفما يرون. والحقيقة أن الصراع في منطقتنا لا يخرج عن السمات التاريخية لكل أنواعه التي مرت بها الشعوب لكنه عندنا أصبح مركبا وينطوي على سمات عديدة في آن واحد. 1- إنه إنساني:- بمعنى هو صراع الإنسان العراقي الذي يناضل من أجل أن يسترد كرامته وإنسانيته ويتحرر من شتى أنواع الظلم والإستغلال ومن التبعية العمياء والتضليل والإستغلال.. ومن الأساليب الخفية الخطيرة الرامية إلى تهميجه وترسيخ التخلف في أعماق المجتمع – وانتشار الأمية وازدياد نسبتها بشكل مخيف شاهد على ذلك.. كذلك العودة بنا إلى ثقافات القرون الوسطى وما قبلها – كما تعهد جيمس بيكر لطارق عزيز اثناء مفوضاتهما في جنيف بعد دخول العراق للكويت – وانتشار البطالة بنسبة أعلى من المعلن وتداعيات ذلك نفسيا واجتماعيا وأخلاقيا ووطنيا معروفة لكل ذي بصيرة.. والإنخفاض الشديد في مستوى الخدمات الصحية – خذ مثلا انتشار مرض السرطان في محافظات الجنوب والتشويهات الخلقية للأطفال وما يقابل ذلك من عودة الطب المخجل الذي يقوم على السحر والأدعية وكتابة الطلاسم غير المفهومة. ومعها إنتشار الفكر الديني ليس بوجهه الإنساني الكريم والتحرري الذي نعرفه بل يجري اليوم تسييسه وتحريفه وتلغيمه بالميثيولوجيا والخرافات التي بمجموعها تصب في سياسة تهميج الإنسان العراقي وتعميق ظاهرة التخلف. ومن الظواهر غير الإنسانية هي ظاهرة التسيب الإجتماعي والتفسخ الأخلاقي متمثلان بانتشار ظواهر الفساد والسرقات والخطف مقابل فدية.. وتسول الأطفال في الشوارع بدلا من وجودهم في المدارس ودور التربية والرياض.. وهكذا.. إن تعداد مظاهر ضياع إنسانية العراقي وهدر كرامته يأخذ وقتا ومكانا طويلا .. لكن هذا كله يجعلنا نقول أن الشكل الأول والجوهري في الصراع الجاري والذي يجب أن يجري هو الشكل الإنساني .

2- إن الأساس الجوهري الثاني للصراع في العراق هو صراع وطني بين : من يعمل على ربط العراق ومصيره ومستقبله بدول أخرى قد تكون بعيدة وقد تكون إقليمية أو من دول الجوار ويستسلم بخنوع لتدخلاتها الفظة في شؤوننا الداخلية وما تفاعلهم مع هذه التدخلات إلا حفاظا على مصالحهم الأنانية الضيقة وأرصدتهم وتسلطهم وتلاعبهم بمصير العباد والبلاد , من جهة , وبين الوطنيين الأبرار والأحرار من أبناء شعبنا البطل الذين يدعون إلى استكمال تحرير العراق واسترداد سيادته الوطنية والمباشرة في بناء دولة المواطنة لا دولة المكونات والدولة الراعية الضامنة لحياة ومستقبل

أبناءها جميعهم بلا استثناء أو تفرقة لأي سبب كان وبناء اقتصاد عراقي متكامل يقوم على أساس الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات والسياسة المالية الرشيدة والضرب بيد من حديد على رؤوس سارقي المال العام واسترداد حقوق العراقيين المهدورة أينما كانت. 3- كما أن الأساس الجوهري الثالث هو صراع طبقي. إذ أن الغالبية العظمى من أبناء شعبنا هم من الفقراء المعدومين والمحرومين من أبسط أسباب العيش الكريم والحياة الآمنة. فلدينا الملايين من العاطلين عن العمل من شباب خريجي الكليات والمعاهد والمدارس لا بل حتى الدراسات العليا التي حصرت لتصبح من نصيب أعضاء الأحزاب المتسلطة والمتنفذة فقط. أضف إلى هؤلاء أرامل وأيتام ومعوقي الحروب بما فيها الحروب الطائفية التي أشعل نيرانها من يلوح بها اليوم من جديد. وهناك العمال الكادحون ذوو الأجور اليومية الذين ترتبط مصائرهم ومصائر عوائلهم على ما يجنونه من أجر وهذا يرتبط أيضا بإرادة أرباب العمل وبقدرة العمال الجسدية على القيام بالأعمال الشاقة والمضنية وهم بلا أي ضمان صحي أو اجتماعي. وتعاني الطبقة العاملة العراقية من أسباب ضنك العيش الكثير وليس هناك في الأفق ما يشير إلى أي تحسن في أحوال أبنائها. والأمر نفسه يقال بالنسبة للفلاحين وصغار التجار والجنود والطلبة والمعلمين والموظفين وغيرهم من شرائح المجتمع. كما أن تدمير الإقتصاد العراقي على يد المحتل ومن بعده على يد الطائفيين وسراق المال العام والمتلاعبين بما أئتمنتهم عليه أصوات الناخبين أدى إلى تفكيك الطبقة العاملة شيئا فشيئا وبروز ظاهرة العمالة الرثة واليومية التي ربطت مصير الكادحين وعوائلهم برغبة المقاولين وأصحاب المصالح الصغيرة وإنتشار الشركات غير الإنتاجية وذات الطابع الخدمي والطفيلي.

إن التفاوت الطبقي الحاد وانقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء داخل الطائفة الواحدة والدين الواحد والعلاقات المصيرية بين أغنياء العراق والدول الخارجية التي تدعمهم ضد أبناء وطنهم في مقابل رهنه لهم يجعل هوية الصراع واحدة لا تقبل التأويل ولا الخداع. فهو صراع إنساني وطني – طبقي في آن واحد. وبناء على كل هذا فإن تلبيس الصراعات الأخيرة لبوسا طائفيا هو ليس فقط خطأ بل خطيئة. وهو ليس توهما بل تعمد يرتكبه الطائفيون لأسباب عديدة منها ولاؤهم الخارجي ومنها مصالحهم الأنانية الضيقة التي تزين لهم استغلال عواطف الناس والتلاعب بمقدراتهم ومنها أيضا ما جنوه من فوائد في المجازر الطائفية التي أقاموها. لذلك أنتهز الفرصة لأتوجه بالنداء لكل أبناء شعبنا العظيم بالوقوف صفا واحدا من أجل المواطن -الإنسان العراقي ومن أجل الوطن وفقراء الوطن ومن أجل تعرية وفضح المتلاعبين بأفئدة المواطنين ومصائرهم لنبدأ بالمطالبة الشجاعة الجريئة من استكمال تحرير العراق وبناء دولة المواطنة المدنية وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين العراقيين.