لا يمكن فهم طبيعة الصراع ضد الكيان المؤقت إلا من خلال موضعته داخل المكانة الصحيحة له ضمن خارطة الصراعات التي حصلت وتحصل بين الجماعات الانسانية، وعلى الرغم من وجود العديد من الترسيمات والتصانيف بخصوص أنماط الصراعات وأنواعها، إلا أن ما يهمني هنا تأكيد التمييز بين نوعيّ (صراع الوجود) و(صراع المصالح)، ففي الصراع الأخير يكون هدف العدو الحصول على مصلحته الخاصة، ويسعى الى تحصليها بشتى الطرق والوسائل، ولا يهمه فناء الخصم أو القضاء عليه، وإنما يمكن ان يكتفي بخاصية الإضعاف والتشتيت التي تُمكنه من تحقيق المصلحة التي يصبو اليها، ومن أمثلة هذا النوع هو الصراع ضد القوى الاستعمارية التي شهدتها وتشهدها المنطقة منذ عقود ليست بالقليلة، كالصراع ضد الاحتلال الامريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو غيرها، فهي وإن قتلت الكثير، إلا أن هدفها ليس القتل، وإنما هو تحقيق مصالح أخرى، كالثروات وطرق التجارة ومسارات الانتشار والنفوذ.
بينما في الصراع الوجودي، يكون نفس وجودك هدفاً للعدو، أي يسعى جاهداً للقضاء على وجودك، مهما قدّمت له من تنازلات أو سعيت الى عقد إتفاقيات أو تسويات، فوجودك يشّكل تهديداً وجوداً للعدو، وليست أية مصالح أخرى، ويبرز الصراع ضد الكيان الصهيوني ضمن هذا النوع من الصراعات.
وفي ظل الصراع الوجودي، ومع إدراك أن طبيعة السردية الصهيونية تنظر إلى غير اليهود (الغوييم) بوصفهم كائنات أدنى مرتبة من الحيوان، لا يمكن الوصول إلى تسوية أو اتفاق او تطبيع في العلاقة، لأن الاخر لا يؤمن بمكانتك الوجودية كإنسان يستحق الحياة والسلام، ومن هنا يكون من الوهم الحديث عن أن التطبيع يُمكن أن يُفضي الى سلام حقيقي في المنطقة، إن ما يهدف اليه الصهاينة هو إخضاع الدول العربية والاسلامية، عبر توظيف الإرادة الأمريكية والغربية كأداة ضغط، وإسكاتها عن المواجهة، مقابل اتفاق سلام (مؤقت) ليس إلا، إن لم نقل إنه استسلام حقيقي، ولذلك ليس من المفاجأة ان يكون المشروع الامريكي الذي يريده ترامب أن ينقل أهالي غزّة الى مصر أو اقتطاع جزء من جغرافية الاردن لإسكانهم، مع أن هاتين الدولتين من أوائل الدول المطبعة مع الكيان، ومع ذلك لم يسلم أمنها القومي من التمدد الصهويني!
وعلى نفس السياق يأتي التبرير غير الأخلاقي الذي يبررون فيه جرائم الحرب والمجاعة في فلسطين اليوم، إنها نتاج طبيعي للصراع الوجودي المستمر، إذ لن تتوقف ماكنة القتل والفتك الصهيونية إلا بإبادة الفلسطينين، وكل من يقف بوجه مشروع دولتهم (من الفرات إلى النيل)، وليس من غريباً أن يُعلن المفكر الجيوستراتيجي الصهيوني أرنون سوفير، وهو خبير الديمغرافية والهندسة السكانية للكيان، وكذلك مستشار رئيس الوزراء الأسبق آرييل شارون، عام 2004م، في صحيفة Jerusalem Post عن أن قتل أهالي غزّة هو الحل لأمن إسرائيل! يقول سوفير (عندما يعيش مليونان ونصف في غزّة المغلقة، هذه ستكون كارثة إنسانية لنا، وسيصبح هؤلاء حيوانيات متوحشة أكثر مما هم عليه الآن، ومع مساعدة الإسلام الأصولي المجنون، سيكون الضغط على حدودنا مريعاً، وستكون هذه حرباً فظيعة، لذلك إذا أردنا البقاء على قيد الحياة، فيجب على القتل، والقتل، والقتل، طوال اليوم، كل يوم)! هذه هي الرؤية المرسومة لقطاع غزّة منذ عام 2004م، عندما كان عدد السكان أقل من مليون ونصف تقريباً، أي قبل أحداث السابع من أكتوبر بعقدين من الزمن تقريباً، إنهم يدركون أن صراعهم الوجودي في المنطقة يجب أن يستمر في سياق القضاء على وجود كل من يقف كحجر عثرة أمام مشروع الدولة الموعودة، ومهما توهّم بعضنا، أو أرادوا أن يوهمونا بأن التطبيع يمكن أن يُفضي الى السلام في المنطقة، فإنه إما غبي أو يتغابى؛ لأن العقيدة الصهيونية لا تؤمن بإستحقاق العرب والمسلمين للسلام والإتفاق، غاية ما في الأمر هم يقبلون بالاتفاقات المؤقتة التي تسمح لهم بتقسيم بتشتيت إرادات دول المنطقة، وإضعافها من أجل عزل الجهات المقاومة للمشروع الاستيطاني لتسهيل عملية القضاء عليها، فقط وفقط.