18 ديسمبر، 2024 10:08 م

الصراع الامبراطوري على ارض العراق وأمته

الصراع الامبراطوري على ارض العراق وأمته

منذ الغزو الامريكي الذي حرر العراق من ظاهرة (الدولة) التي تميز بها على مدى قرن الا نيفا من الزمن ، أفرز خلالها رجال دولة حقيقيين .. بنوها بفكرهم النير وعراقيتهم الخالصة ، ومنهم اول واحرص وزير مالية على وطنه (العراق) .. العراقي الأصيل اليهودي ساسون حسقيل وهو واضع لأول ميزانية عراقية ، ومن حرصه على اموال بلده منعه البريطانيون من ولاية ثانية ، ونعاه الرصافي بقصيدة عصماء ، وبعده السياسي المخضرم نوري السعيد الذي استدعاه البرلمان يوما ليؤنبه على توجهه لعقد المعاهدة البريطانية ، فسألهم : ماذا تريدون؟؟ أتريدون مني ان اناطح بريطانيا العظمى بقرنين ، الأول من طين والثاني من عجين؟؟ ..ان وقعت الاتفاقية سيلغيها الشعب العراقي يوما ، وأن لم أوقعها فستذهب ولاية الموصل ، والموصل ان ذهبت فلن تعود الى الأبد . وذهب لواء الاسكندرون الى الابد وظلت الموصل عراقية الى الابد ان شاء الله ويبقى مستقبلها منوطا بحالات النزوع القومي الامبراطوري العثماني تحت غطاء اسلامي مذهبي سميك فالإمبراطورية العثمانية ( الأردوغانية) الناشئة تحتل واقعيا جزء من العراق وسوريا … ومعارضته ( حزب العمال التركي) تحتل جزء آخر ولدى الامبراطورية اليوم جيش من السوريين الذين قادهم حظهم العاثر كي يكونوا تحت رحمة الجنون الامبراطوري ليقاتل بهم وبلا حياء في سوريا وليبيا والمتوسط وكارا باغ وغيرها وكأنه الاسكندر المقدوني .. وقد تنبأت بخطر هذا التوجه في بحث لي عام 1991 في ندوة علمية بدأت مقدمته بالقول (( مثل تركيا كمثل حالم صحى من نومه ليجد ان كل احلامه قد تحققت دفعة واحدة فالعراق القوي تم اضعافه الى اجل غير مسمى وظهيره العربي الممزق بدأ الإمعان بتمزيقه واضعافه )) اما الامبراطورية الفارسية الناشئة فقد وضعت في دستورها (( مهمة جمهورية ايران الاسلامية توحيد (الأمة) الاسلامية ثقافيا واقتصاديا وسياسيا )) وطبعا من يوحد هو الذي يقود بموجب نظرية ولاية الفقيه أي انها تنهي الدور (العالمي الشيعي) للنجف الأشرف لصالح قم .

أن الذي يريد توحيد (الامة ) الاسلامية يقصد أن الامة العربية التي تظم 350 مليون مسلم ليست (امة) بل ستلتحق على شكل اجزاء ضعيفة مهترئة بالعالم الاسلامي الذي هو ليست (امة) بل عالم (عقائدي) الا اذا اقتنعنا بأن العالم المسيحي الذي نفوسه اضعاف نفوسنا يمكن ان نسميه (الامة المسيحية) ولا يوجد اي مشترك آخر عدا (العقيدة) يفهمها العربي الذي يتلوا القرآن العربي (( ان الله لا يستحي ان يضرب مثلا ..)) بغير الطريقة التي يفهمها بها التركي ( الله حياسز) باللغة التركية ، والمسيحي العراقي لا يلتقي مع المسيحي الالماني سوى بالعقيدة والتي تختلف بسبب البيئة التي عاش بها الاثنان فالبيئة المجتمعية العراقية مثلا جعلت المسيحي يرفض لحم الخنزير بينما المسلم الذي تفاعل مع بيئة اوربية قد يأكل لحم الخنزير . هذه الامبراطورية الفارسية الناشئة لديها اكثر من 40 فصيل عراقي مسلح تدعمه هي او موالي لها وتحت راية الولي الفقيه ، ومنها من يقول زعيمها جوابا على سؤال على التلفاز عن سبب تسمية سراياه بالخراساني يجيب ((تيمنا بالولي الفقيه لآنه من خراسان)) ، والثاني يجيب عن سؤال انه اذا نشبت الحرب بين العراق وإيران فمع من تكون؟؟ فيجيب (( مع ايران طبعا )) … ولعله من المفيد الذكر ان الامبراطوريتين جعلتا من العراق وأمته العربية مسرحا مناسبا لبناء الامبراطوريات او جزء اولي او ممر الى المسرح الكبير المفترض .. وأنا لا ألوم هذا النزوع ولا انتقده مطلقا لأنه ليس سنة الحياة فقط بل هو سنة الجيوبوليتكس من خلال نظرية المجال الحيوي التي تقول ان عناصر القوة كالماء يتدفق على الأراضي المنخفضة ، فالعرب عندما امتلكوا عناصر القوة بالإسلام تدفق مائهم (فكرهم) بقوة السلاح ليس على جيرانهم فقط بل وصلوا غرناطة وليون

لنسأل انفسنا عن اولوية الانتماءات : اليست القومية هي الانتماء الاول (الماني ، فرنسي ،عربي) ؟؟؟ .. بعدها نزلت الاديان ( افكار وعقائد) (يهودي مسيحي، مسلم) وهذه الافكار كانت منسجمة الى حد ما مع البيئة القومية (العين بالعين والسن بالسن) في الاسلام الذي نزل على اهل الصحراء و(اذا ضربك احدهم على خدك الايمن فأدر له خدك الأيسر) في المسيحية ، ثم جاء الاجتهاد لتأت بعده المذاهب التي انحرفت في بعض الحالات لتصبح اديانا شبه مستقله لا يجمعها الا الإيمان بالله واختار كل منهم نبيه من نفس الدين ، ووصل الامر الى ان ابناء مذهب مسيحي لا يتزوجون من بنات المذهب الآخر. بل ان الغريب في الأمر ان طائفتان من دين واحد تصبح اشد عداء للطائفة الاخرى من الدين نفسه من عداءها للدين الآخر ، وهكذا جرى الامر في الامر في الافكار الدنيوية فالشيوعي السوفياتي كان اشد عداء للشيوعي الصيني من عداءه للأمبريالي الامريكي ، وهكذا كان الأمر بين حزب البعث السوري والعراقي امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة والوحدة والحرية والاشراكية ، وقضية الحزب المركزية فلسطين الا ان العداء كان في اعلى درجاته .

منذ الاف السنين كان الفارسي فارسيا والعربي عربيا والإنكليزي انكليزيا ولم يكن ممكنا تحول احدهم الى قومية الآخر ولن لأنها ليست انتماء فكري كي يتغير كما يحصل في حالات قليلة بالتحول من دين الى آخر

هنا سر العداء (للفكر القومي العربي) والذي هو ليس فكر وإنما هو واقع حي متجدد فأنا مثلا وأجداد اجدادي ولدنا عربا وهكذا ولد غيرنا من القوميات الجليلة الاخرى بعدها اعتنقنا الاديان (كعقائد) ولكننا بقينا عربا او كردا او غير ذلك ، ولذلك اكرر دوما ان القومية هي ليست فكر بل (واقع حي ) لا تنتطح به عنزتان . وهي – بعد العامل الاقتصادي- تعد المحرك الاساس للتأريخ ، وهو المصد الرئيسي لتغلغل الاجانب بلباس الدين او المذهب ، وكلما جاءنا من يحمل لواء الاسلام بلسان غير عربي فأنه يستهدف طمس عروبتنا والدليل اننا عشنا (الفترة المظلمة على ايام الاسلام العثماني ، وعشنا اللادولة الفاشلة على يد الاسلام السياسي في العراق . وخلاله بات القوميون (قومجية) . بل وشوفينيين .. تقول لهم نحن لا نريد ان نعلي العرب على الفرنسيين او على الالمان بل نريد ان نمارس حقنا في ان نكون مثلهم (امة واحدة) او على الاقل نتضامن مثلهم فالاتحاد الاوربي وصل حد ان تكون عملتهم واحدة ، وهم يمثلون اكثر من ستين قومية ودين ومذهب ، وسبق ان تحاربوا وخسروا في تلك الحروب عشرات الملايين من الضحايا ورغم ذلك جمعهم اليورو والمصالح الوطنية المشتركة .

هناك من سيسألنا وهو محق الى حد ما : هل توجد تجربة قومية ناجحة ؟؟ فنجيبه ونحن محقين بسؤال : هل توجد تجربة اسلامية ناجحة في الحكم ؟؟ شرط ان لا يجيبوا ماليزيا مثلا لأن استراتيجيتها لم تكن اسلامية رغم انها دولة مسلمة .

اخيرا نقول ان لكل حال لبوسها ، ولكل مرحلة تأريخيه استراتيجيتها ، ولعل في النزوع الامبراطوري القومي للترك والفرس ما يجعل العراقي ينتمي لأمته العربية فالأمة هي الأم التي لا يمكن طلاقها حتى ولو كانت عاهر ، ولكن في ضرفنا الحالي علي كل القوميات العراقية ان تعطي الأولوية للوطن اي للانتماء العراقي قبل كل شيء لأن وحدته كانت ولا تزل مهددة ، ويأت الانتماء القومي بالدرجة الثانية الى حين . مع ملاحظة ان الفكر القومي بات يعني الانحياز لقوميتك ضد قوميات الوطن الواحد بينما القومي هو ليس قومي ان لم يؤمن بحقوق وخصوصيات كل القوميات في الوطن الواحد او خارج الوطن فالفرس ليسوا مجوسا بل اعزهم الله بالإسلام ، وأن كانوا مجوسا فالعرب كفار يعبدون الاصنام وأعزهم الله ايضا ، وأذكر مقولتي بأن العربي العراقي الذي يؤمن بعروبته ومستعد للتضحية في سبيلها لن يكن عروبيا حقا الا اذا آمن بقومية الكردي والتركماني العراقي وخصوصيته ، وينبغي ان يكون مستعدا للتضحية في سبيل تلك الخصوصية كونه قومي والقومي لن يكون قوميا الا اذا آمن بقومية الآخرين . ويبقى الوطن اولا خصوصا اذا كان هذا الوطن كلفه الله ان يكون مركزا للتوازن ضمن الامة العربية . أمة القرآن العربي والنبي العربي وآله وصحبه العرب الأمة التي لديها عدد المسلمين يساوي ضعف اكبر دولة مسلمة ونزل الاسلام عليها ، وهي مصدر التسنن والتشيع بل ان حتى الموحدين الدروز كمذهب اسلامي اسسوا فكرهم فيها ومنها وهي التي حملت الرسالة الثقيلة واوصلتها الى باقي الامم فحري بهذه الامة وليس بغيرها ان تكون هي من يحمل الاسلام مرة اخرى متى ما كان ذلك متاحا.

أخيرا اروي لكم اني اضفت محاضرة بعنوان اثر الشريعة الاسلامية على المجتمع العراقي الى منهاج جامعة الدفاع الوطني ، واختير الشيخ الدكتور احمد الكبيسي لإلقائها فبدأ محاضرته موجها كلامه لي (( اقترح على السيد اللواء تغيير عنوان المحاضرة الى اثر العراق على الشريعة الاسلامية وليس اثر الشريعة على العراق فالبصرة والكوفة كان لهما دورا كبيرا في بلورة الشريعة الاسلامية فضلا عن ان مذهبين من المذاهب الاربعة نشأت في العراق ولم يقل احد يوما انها تطورت في الباكستان او تركيا او ايران ف((العراق جمجمة العرب وكنز الرجال ومادة الأمصار ورمح الله في الأرض وحربة الاسلام وحصن الثغور)) وأضيف لذلك ان اول حضارة ودولة مدنية هي السومرية في العراق ، بل ان اول امبراطورية كانت الأكدية في العراق ايضا وأول امبراطور في العالم كان سرجون والتي معناها (ملك الكون) كل ذلك كان في العراق الذي هو مركز الخلافة الاسلامية لقرون خمس

.فأرض العراق تضم عشرات الاضرحة لأنبياء الله وأوليائه الصالحين مثل ضريح أنبياء الله آدم ونوح ويونس وصالح وهود وناحوم وأيوب وإبراهيم وذو الكفل، وأضرحة نصف أئمة آل بيت النبوة (ع) وهم أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوطن الجريح . فمن يريد التعاون معنا من العالم الاسلامي فأهلا وسهلا به شريطة ان يعي قيمة العراق وأمته والله ولي التوفيق,