22 ديسمبر، 2024 11:57 م

كان صباح اليوم الاول من شهر تشرين الثاني عام 1981 هو اليوم الاول لدخولي ساحة عرضات مدرسة ضباط صف المشاة في الموصل لخريجي الكليات في العراق. خمسة وتسعون جنديا خريجاً يقفون بأنتظام ينتظرون إشارة العريف حازم للأنطلاق بأتجاه ميدان الرمي الذي يبعد عن مكان التدريب أكثر من مئة متر. كلما غضب العريف لأتفه الأسباب يصدر صوته الجهوري للركض بأقصى سرعة للأستدارة حول ميدان الرمي والعودة الى نفس المكان الذي إنطلقنا منه. الظروف التي كنا نمر بها من أقسى الظروف فيما يتعلق الأمر بالتدريب البدني طيلة ساعات النهار. كانت الحرب في بدايتها والجميع خائف من المستقبل المجهول . مرت أشهر التدريب القاسية وتم توزيعنا الى وحدات مختلفة تشمل كل العراق من أقصاه الى أقصاه. كنت الوحيد الذي تم توزيعي الى قيادة القوة البحرية والدفاع الساحلي. شاهدت العذاب الحقيقي في تلك الوحدات المختلفة هناك. حالفني الحظ في عام 1983 حينما تم نقلي الى أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية كمدرس لغة إنكليزية في المدرسة البحرية ومعهد الرادار اللاسلكي ودورات الضباط ونواب الضباط . خمس سنوات مستمرة قضيتها في البصرة والحرب تزداد ضراوة يوما بعد آخر وعذاب الطريق من بغداد الى البصرة والعكس صحيح. عشرات الأحداث المأساوية التي حدثت في ذلك الزمن لازالت تزور ذاكرتي كلما خلدتُ الى النوم. مات أخي الصغير في الحرب وأعداد كثيرة من زملائي وصديقي المقرب جدا الى قلبي. عند منتصف عام 1986 لا أعرف كيف تخلصت من الخدمة القاسية بناءاً على قانون خاص يشملني. حينما ذهبت الى الكلية التي تخرجتُ منها لأرى أين مكاني في التعيين- كان مركزيا في ذلك الزمن- وجدتُ أنني مُنسب الى وزارة المالية – الكمارك العامة . حينما وقفت أمام المدير العام أشرح له كتاب تنسيبي من الكلية الى الوزارة التي يعمل فيها ذلك المدير المتغطرس. راحت نظراته تدرس كل كلمة مدونة على تلك الورقة الرسيمة التي نطلق عليها – أمر التعيين . بعدة فترة وجيزة رفع نظراته اليَّ وراح يدقق النظر في وجهي كأنني قادمٌ من جزر القمر. بلا مقدمات صاح بتعجب ” …أين كنت كل هذه الفترة..أنت غائب عن الدوام الرسمي لوزارتنا.” لم أفهم أي كلمة من كلماته التي كان يوجهها إليّ . حينما شاهد إرتباكي قال بطريقة غاضبة ” ..أنت معفي من الخدمة العسكرية منذ خمس سنوات وقد بعثنا رسائل الى جهات رسمية عسكرية لتعلمنا بمكان وجودك لكننا لم نحصل على أي جواب. ” بقيتُ صامتاً كأن الطير على رأسي لا بل كأنني تلقيتُ ضربة شديدة على رأسي أفقدتني قابلية النطق. حينما إستعدت توازني صرخت بأعلى صوتي ” ..ماذا؟ هل تقصد أنني منتدب من الخدمة العسكرية كل تلك السنوات العجاف بألامها وعذابها؟ يا إلهي لا أصدق هذا!!!” . شرح لي كل شيء وعن ضرورة الذهاب فورا للعمل في كمارك أبو غريب كمفتش. أقسمتُ له أنني لن أعمل في الكمارك وأرغب في تحويلي الى الأعلام الخارجي في وزارة الأعلام. نظر إلي كأنني مجنون لا أفقه من الحياة أي شيء. أكد لي أن الجميع يحلمون بالعمل في الكمارك وأنا أرفضها هذا شيء عجيب. بعد ثلاثة أشهر بدأت العمل في دائرة الأعلام الخارجي وظلت الصدمة الكبرى تلاحقني طيلة السنوات اللاحقة لا بل حتى لحظة كتابة هذه المأساة.