المقال الرابع والأخير في سلسلة:
الصدمة القادمة من الماضي والصدمة القادمة من المستقبل(٤)
التحدي الثالث: التأقلم والتكيف
يقول تشارلز داروين: “ليس أقوى أفراد النوع هو الذي يبقى، ولا أكثرهم ذكاء، بل أقدرهم على التأقلم مع التغيرات”.
كما في علم الأحياء نجد أيضاً في عالم الصناعة المسرحية إذ أن التأقلم عملية حيوية خبريّة قائمة على الممارسة العملية الممثلة في زيادة تحمّل الفنان بتعدد أشكاله للتغيرات الطارئة في بيئة العمل عبر عدّة مراحل.
ويمكن تعريف ما أرغب في أن أسميه التأقلم الحيوي المسرحي Theater acclimatization، بأنه العملية التي يتكيف فيها الفنان مع المعطيات التكنولوجية الجديدة والتغير الحاصل في بيئة العمل المسرحية، أي التأقلم مع متغيرات بيئة العمل، مما يسمح له بالحفاظ على التوازن عبر مجموعة من ظروف بيئة ذلك العمل.
ولابد من الإشارة إلى الفرق بين مفهوم التأقلم ومفهوم التكيف، إذ أن التأقلم يحدث في فترة قصيرة من الزمن وبالتدريج، وضمن حياة الإنسان ذاته، مقارنة بالتكيف، وهو تطور يحدث على مدى أجيال عديدة.
ويُعتبر التأقلم بالنسبة للصناعة المسرحية مجموعة التغيّرات الخاصّة بالتفاعلات الفيزيولوجية المساعدة على حياة الفنان خارج موئله العملي التقليدي والذي يساعده على التأقلم مع بيئة العمل الجديدة وأقصد هنا البيئة التكنولوجية التي تمثل نوع من التحدي للفنان وعليه الاستجابة له، وفي علم الاحيائيات يحدث الشيء ذاته، فالبشر الذين يهاجرون بشكلٍ دائم يتأقلمون بشكل طبيعي مع بيئتهم الجديدة من خلال زيادة تطور في عدد خلايا كرات الدم الحمراء لزيادة القدرة على تحمل الأكسجين من الدم، وذلك للتعويض عن انخفاض مستويات تناول الأوكسجين، وكذلك الأمر بالنسبة لبيئات العمل المسرحية المختلفة والتي تفرض على الإنسان التأقلم مع معطياتها، تساعده في ذلك التفاعلات الفيزيولوجية المانحة لخاصية القابلية وقدرة التأقلم.
أمّا التكيّف في الصناعة المسرحية فهو مجموعة التغيرات التطورية الشكلية المتلائمة مع العوامل البيئية التكنولوجية الطارئة على بيئة الصناعة المسرحية التقليدية.
ومثلما تأقلم الفنان في أول تغير مسرحي انتقل إليه من العصر المسرحي ذي الفضاء المفتوح إلى العصر المسرحي ذي الفضاء المغلق ثم الانتقال إلى العصر المسرحي التكنولوجي الذي نعيشه اليوم والذي نحن بصدد الحديث عن أهمية التأقلم مع معطياته وهو العصر المسرحي الثالث “مسرح عصر المعرفة”، مع ملاحظة أن عملية التأقلم مع كل تغيير وانتقال في العصور المسرحية الثلاثة تمت تدريجيا لإن التأقلم يفترض التدرج مثلما يتدرج الإنسان في تغير درجة الحرارة التي لو صادف أنها حدثت فجأة فإن الإنسان حينها يفقد خاصية التأقلم أو أنها تنعدم لديه ويمكن أن يفقد حياته بخلاف لو حدث ذلك التغير بشكل تدريجي فإن الإنسان حينها يتمكن من التعايش والتأقلم بشكل تدريجي حتى يصبح الأمر اعتياديا. ويستمر التأقلم مع الارتفاع التدريجي لمستويات الحرارة لعدة أشهر أو حتى سنوات. ويتيح في نهاية المطاف للبشر البقاء على قيد الحياة في بيئة يمكن أن تقتلهم إذا ما تم تغيرها فجأة. تماماً كما يحدث في عالم النبات فالعديد من النباتات، مثل أشجار القيقب، السوسن والطماطم (البندورة)، يمكن أن تبقى على قيد الحياة إذا انخفضت درجة الحرارة تدريجيا أقل وأقل كل ليلة على مدى أيام أو أسابيع. نفس الانخفاض قد يقتلهم إذا حدث فجأة. وقد أظهرت الدراسات أن نباتات الطماطم التي تأقلمت إلى درجة حرارة أعلى على مدى عدة أيام كانت أكثر كفاءة في التمثيل الضوئي عند درجات حرارة عالية نسبياً من النباتات التي لم يسمح لها بالتأقلم. وفي عالم الحيوانات بعض الخراف ينمو لها صوف سميك جداً وكثيف في المناخات الباردة، والأسماك لها القدرة على ضبط درجة حرارتها لتتوافق مع درجة حرارة الماء، والأسماك الاستوائية التي تباع في متاجر الحيوانات الأليفة غالباً ما تبقى لإن لها القدرة أيضاً على التأقلم(). ويتأقلم البشر مع ظروف بيئة العمل، وتتغير لديهم بعض الأشياء مثل اكتساب مرونة أعلى في تعاملاتهم.
ويكمن التحدي الذي يجابه الفنان اليوم في بيئة الصناعات الفنية بما فيها المسرحية أمام طفرة التكنولوجيا وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وموجة أتمتة الصناعة المسرحية، في قدرته على التكيف والتأقلم أولا مع معطيات التكنولوجيا ومتطلبات عصر المعرفة، ثم في قدرته على تحقيق غاية المشاركة مع المتلقي في ظل هذه المتغيرات، وهنا لابد من الحديث عن تحقيق الفنان لغاية المشاركة والاتصال مع المقارنة بين قدراته البشرية فيما يخص الاتصال وبين الروبوتات الصناعية الشبيهة بالبشر وامكانياته في مجال الأداء بفرضية مفادها احتمالية استبدال البشر في عالم الأداء بروبوتات صناعية، وهذا يلزمنا الحديث باستفاضة حوله في تناولات مستقلة قادمة.
منطقة المرفقات