22 ديسمبر، 2024 11:49 م

الصدمة القادمة من الماضي والصدمة القادمة من المستقبل

الصدمة القادمة من الماضي والصدمة القادمة من المستقبل

الصدمة القادمة من الماضي والصدمة القادمة من المستقبل (٢) التحدي الأول: إعادة التموقع في خارطة الصناعة المسرحية.
تمهيد

لو تخيلنا أن الفكرة – أي فكرة – تمثل محمولا داخل الحامل adapter “الذهنية البشرية”، وتلك الفكرة باستناداتها تشبه طاولة لها أربع أرجل تستند عليها وتمثل الفكرة سطح الطاولة، وتمثل الإستنادات والمرجعيات أرجل الطاولة، وعندما نحاول أن نغير قناعات – مهارات – إمكانيات وقدرات شخصٍ ما فيجب أن نذهب إلى نفس المنطق في التعامل مع مهاراته وقناعاته أي نستبدل سطح الطاولة “الفكرة المحمولة” بسطح آخر ثم نسند هذا السطح/الفكرة بمرجعيات واستنادات تمثل أرجل الطاولة باستنادات ومرجعيات جديدة فيكون الناتج هنا تغيير القناعات و/أو المهارات و/أو القدرات والإمكانيات بشيء جديد يماثلها وكلما زادت تلك المرجعيات والاستنادات كلما صارت الفكرة قابلة للانتقال في سلم القناعات لتبلغ مرحلة العقائد.
وكما يبدو فإن هذا ما فرضه التحول التكنولوجي على العالم في كافة المجالات والقطاعات ولتحقيق مواكبة مع هذا التحول فيجب استبدال المهارات القديمة والمستهلكة بمهارات جديدة في كافة المجالات بما فيها الصناعة المسرحية وفنون الأداء التي نحن بصددها، ويحدث ذلك باعتبار نظرية التأقلم والتكيف وفي سياق الاستجابة للتحديات التي تفرضها معطيات التكنولوجيا، ويمكننا التفصيل في ذلك وفقا لمسار نظرية التحدي والاستجابة وفي سياق ما تفرضه متطلبات التكنولوجيا على الصناعة المسرحية، وسنتحدث عن المستويات الثلاثة للتحديات كلا على حدة.
وهنا سنتناول التحدي الأول: “إعادة التموقع” في خارطة الصناعة المسرحية،
مثلما فرضت مظاهر التكنولوجيا إعادة هيكلة وتخطيط لخارطة القوى العاملة من حيث الآليات الجديد لمنظومة الأعمال وإعادة تشكيل وصياغة لهوية المهن والوظائف، بما تفرض ذلك أيضا على المشتغلين في فلك “الصناعة المسرحية” والعاملين في فضاءاتها، وبدلا من هجرتهم إلى بيئات مهنية أخرى وتخليهم عن مواقعهم نتيجة التغيرات الحاصلة في بيئتهم يجدر بهم “إعادة التموقع” في خارطة الصناعة المسرحية، وهو ما يمثل أحد مستويات التحدي التي رسمتها أمامهم “صدمة الأتمتة” والتي عليهم الاستجابة لها.
ماذا يعني “إعادة التموقع”؟
يشير معنى “إعادة التموقع” (Repositioning) في قاموس كامبريدج البريطاني إلى أنه عملية تغيير الطريقة التي يفكر بها الناس بشأن منتج أو خدمة أو شركة، ويشير مصطلح “إعادة التموقع” كذلك في علم الإدارة والتسويق إلى استراتيجية تغيير المؤسسة الصورة الذهنية عن المنتج أو الخدمة لدى الجمهور المستهدف؛ لا سيما المواصفات والميزات، كما تشير إلى عملية تغيير المساحة الحالية التي تشغلها العلامة التجارية في أدمغة العملاء. إنها عملية تغيير كيفية إدراك السوق المستهدف للعلامة التجارية أو عرضها فيما يتعلق بـ -الميزات والمنافسين التي يحاول النشاط التجاري من خلالها تغيير الطريقة التي ينظر بها العميل إلى العلامة التجارية دون تغيير العلاقة دائمًا بين العميل والعمل. إنه ينطوي على تغيير وعد العلامة التجارية وشخصيتها من خلال تحديث أو تحديث: المزيج التسويقي، هوية العلامة التجارية، العميل المستهدف، وجوهر العلامة التجارية.
ومن ذلك سنجد أن إعادة التموقع في خارطة الصناعة المسرحية يعني استراتيجية تغيير المؤسسة الفنية للصورة الذهنية عن منتجات الصناعة المسرحية و الخدمة التي تقدمها المؤسسة الفنية لدى جمهور التلقي؛ لا سيما المواصفات والميزات التي تتوافق مع معطيات التكنولوجيا ووفقا لها وحتى لا تصنف وفقا لتلك المعطيات ضمن الصناعات الفنية الهابطة وهي التقليدية التي لا تتعاطى مع التكنولوجيا.
و”إعادة التموقع” ليس ممارسة جديدة، لقد كانت موجودة منذ القرن الثامن عشر عندما أعاد الملك فريدريش الثاني وضع البطاطس لتكون طعامًا يوميًا، ومنذ ذلك الحين، قامت شركات لا حصر لها بتغيير مواقعها استجابة لتلك التغييرات. ومن بعض الأمثلة البارزة، إعادة تموقع شركة ماكدونالدز، فمنذ إطلاقها، وضع ماكدونالدز نفسه كمطعم منخفض التكلفة مناسب للعائلات، وحتى أوائل عام 2010، كانت الشركة تفتقر إلى الابتكار الرقمي وكانت معروفة بتطبيق نهج مقاس واحد يناسب الجميع في جميع منافذ بيعها؛ كما أنها تلقت الكثير من الانتقادات لوجود قائمة طعام كان لها تأثير سيء على الجسم؛ وكانت للعلامة التجارية أيضًا علاقات سيئة مع موظفيها.
هذا جعل العلامة التجارية أقل ثقة وجعل العملاء يجربون بدائل أخرى؛ كما جعل ماكدونالدز مسودة استراتيجية لتغيير مكانتها. وهكذا سارت الأمور إذ أعادت الشركة وضع نفسها كشركة برجر حديثة وتقدمية وغيرت فلسفتها من “خدمة المليارات” إلى “سماع المليارات”. وتضمنت أكشاكًا رقمية مختلفة داخل المتاجر وكشفت عن برنامج يسمى “ابتكر مذاقك” حيث يمكن للعملاء بناء البرغر الخاص بهم باستخدام الأكشاك الرقمية. حتى أنها أطلقت تطبيقًا للهاتف المحمول لتحسين تجربة العملاء الرقمية.
كل هذا كان مدعومًا بالتسويق القوي لاستهداف “الجمهور الأصغر سنًا”. وقد نفذت الشركة أيضًا استراتيجية “إعادة التموقع” في أواخر عام 2010 حيث أطلقت تنسيقًا جديدًا تمامًا لامتيازات ماكدونالدز. يُطلق على هذا التنسيق اسم موقع “to-go”، وهو نسخة مجردة من McDonald’s مخصصة لأوامر الشراء الخارجي. لا يشمل هذا الشكل الجديد الطاولات والكراسي ولكنه مليء بشاشات اللمس للعملاء لطلبها؛ ونظرًا لأن الطلب يتم رقميًا فقط، يعمل جميع الموظفين البشريين على تلبية الطلبات، مما يؤدي إلى معالجة الطلبات بشكل أسرع. حتى قائمة المأكولات مبسطة ولا تحتوي إلا على العناصر المفضلة مثل البطاطس المقلية وشرائح الدجاج والبيج ماك الكلاسيكي.
ومن الأمثلة أيضا “إعادة تموقع ستاربكس” فحين فشلت شركة ستاربكس بعد أن حاولت اختراق صناعة القهوة في أستراليا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. أطلقت الشركة أول متجر لها في عام 2000 وحاولت الاختراق من خلال نقل وعد علامتها التجارية الحالية بـ “القهوة كخدمة” إلى السوق الحالي الناضج.
ستاربكس لم تناسب أذواق الاستراليين. كانت الشركة تتقاضى أكثر من المقاهي المحلية وتقدم خيارات قهوة أكثر حلاوة مما يفضله السكان المحليون. ونتيجة لذلك، شهدت الشركة ارتفاع خسائرها إلى 105 ملايين دولار في السنوات السبع الأولى، وكان عليها إغلاق 70 في المائة من مواقعها ذات الأداء الضعيف بحلول عام 2008. وقد سبب عدم نجاحها مع العلامة التجارية كان السوق مشبعًا بالفعل ولم تقدم الشركة شيئًا جديدًا – تم توفير المفروشات والمجلات والموسيقى والواي فاي في المتاجر بالفعل من قبل العلامات التجارية المحلية الأخرى. وتم بناء عرض القيمة الفعلية للعلامة التجارية على الود ولكن الشركة تباعدت عنها من خلال التركيز بشكل أكبر على توليد معدل دوران ثابت للعملاء. استخدم الموظفون آلات آلية وكانوا مشغولين جدًا بالعمل لدرجة أنهم بالكاد تحدثوا مع العملاء أو قدموا لهم تجربة مختلفة.
واتبعت ستاربكس نفس القائمة والاستراتيجيات في أستراليا التي اتبعتها مع البلدان الأخرى، متجاهلة ما هو مطلوب بالفعل في السوق. حتى أنها اتبعت استراتيجية عدم الإعلان التي جاءت بنتائج عكسية. وهذا دعا إلى “إعادة التموقع”. وكان ذلك في عام 2014، عندما اشترت عائلة ويذرز (التي تمتلك متاجر 7-Eleven) الترخيص الأسترالي لستاربكس، فقاموا بتغيير مكانة العلامة التجارية لتصبح “أسترالية” أكثر. وتم تغيير القائمة وفقًا للأذواق الأسترالية، وصُنعت القهوة أكثر من تجربة، وأعيد فتح المتاجر بشكل استراتيجي مع التركيز على تلبية احتياجات السياح أكثر من السكان المحليين.
ومن الأمثلة أيضاً على ذلك، فقد فشلت شركة Java في أيامها الأولى حيث قامت بتصميم اللغة في الأصل للتلفزيون التفاعلي، ولكنها كانت متقدمة جدًا بالنسبة لصناعة تلفزيون الكابل الرقمي في عام 1991، كان موقعها خاطئًا، وقد أدرك المؤسسون ذلك في وقت مبكر جدًا و”أعادوا تموقعهم” بوضع العلامة التجارية لخدمة متصفحات الويب في عام 1996، والباقي هو التاريخ. وأيضا بدأت شركة كولجيت ببيع الصابون والشموع والنشا، ثم أعادت بعد ذلك وضع نفسها كعلامة تجارية معجون أسنان؛ كما بدأت Nintendo كشركة للعب الورق في عام 1889 قبل أن تصبح رائدة ألعاب الفيديو كما نعرفها اليوم؛ وبالمثل أيضا بدأت Google كمجرد محرك بحث قبل أن تعيد وضع نفسها كشركة إنترنت عملاقة. وغير ذلك من الأمثلة هناك الكثير فمثلا شركة نوكيا NOKIA التي تأسست عام 1865 كمصنع للأوراق ثم أعادت تموقعها لاحقا وصارت شركة للإتصالات وتكنولوجيا المعلومات وهناك أيضا شركة ويسترن يونيون التي تأسست عام 1851 كشركة لطباعة التلغرافات ثم أعادت تموقعها وأصبحت شركة خدمات مالية، وهناك شركة سامسونج التي تأسست عام 1938 كشركة للمواد الغذائية ثم أعادت تموقعها لاحقا وصارت شركة صناعات متعددة أبرزها الإلكترونيات.
إذا اعتبرنا العلامة التجارية على أنها شخص، فإن إعادة تموقع هذا الشخص هي عندما يفقد وزنه، ويغير تسريحة شعره، ويحدث خزانة ملابسه، وحتى يغير اسمه، ومع ذلك، فإن إعادة التهيئة هي عندما تغير العلامات التجارية قيمها أو موقفها أو شخصيتها أو سلوكها أو أي شيء مطلوب لتغيير التصور الحالي للعلامة التجارية. يمكن أن تتضمن إعادة التهيئة أيضًا تغيير هوية العلامة التجارية لدعم التصور الجديد.

*أسباب “إعادة التموقع” في الصناعة المسرحية:
لو قمنا بمقاربة فن الصناعة المسرحية في سياق نظرية “إعادة التموقع” سنجد أن جملة الأسباب التي تفترض بالصناعة المسرحية بما فيها فنون الأداء على “إعادة التموقع” لا تختلف كثيرا بل هي ذاتها التي تجعل الشركات تفعل ذلك ويمكن رصدها بسهولة، فحين ترغب الصناعة المسرحية في تغيير تصور المتلقي بسبب عدد لا يحصى من الأسباب المتعلقة بالصناعات الفنية، والمتعلقة بالصناعة المسرحية، والمستقبلية، والتنافسية، والأسباب المتعلقة بالجمهور المتلقي. البعض من تلك الأسباب هي كما يلي:
1-زيادة المنافسة
في كثير من الأحيان، تؤدي المنافسة المتزايدة في السوق الفنية إلى عدم وجود تمايز ملحوظ لمنتجات الصناعة المسرحية مقارنة بمنافسيها من منتجات الصناعات الفنية الأخرى، فيتطلب هذا من المشتغلين بالصناعة المسرحية إعادة تموقعهم من أجل إبراز المزايا الخاصة بالمنتج الفني المسرحي.
2-تحديد المواقع الخاطئة
هناك حالات أخرى تتطلب “إعادة التموقع” عندما تكون الصناعة المسرحية فيها، ومنها:
الوضع المنخفض: وهو عندما يكون الوضع الحالي الخاص بالمنتجات المسرحية ضعيف جدًا أو غامض بحيث لا يجعل الجمهور المتلقي يربط به بين العواطف والسمات والمشاعر ولا يحقق غاية المشاركة.
3-المنتجات المتطورة
عندما تستثمر المؤسسة الفنية في تحسين أكبر للمنتج الفني، فمن المرجح أن تقدم مزايا إضافية وتلبي احتياجات جمهور عريض. هذا غالبًا ما يتطلب من الصناعة المسرحية إعادة تموقعها.
4-التغييرات في بيئة الماكرو
تتضمن البيئة الكلية للأعمال الفنية عوامل ليست في أيديها، مثل التغييرات على مستوى الصناعة، التغييرات في سياسات الحكومة، الظروف الاقتصادية، التقدم التكنولوجي ولعل هذا السبب تحديدا هو ما يوجب في الوقت الراهن “إعادة التموقع” في خارطة الصناعة المسرحية.
ومما يجدر ملاحظته والانتباه له أنه غالبًا ما تجبر مثل هذه التغييرات المذكورة وغيرها المؤسسات الفنية على “إعادة تموقعها” وتغيير مبادئها ونظرياتها الفنية بما يتوافق مع التغيرات والتطورات الحاصلة والمستحدثة، وليس فقط لسبب مستجدات التكنولوجيات ومعطيات عصر المعرفة.
وفي سياق الحديث عن فنون الأداء واستجابتها لتحدي “إعادة التموقع” يجب الإشارة إلى أن تحقق استجابته مرهونة بتحديث أدواتها وخبراتها ومهاراتها بما يتوافق مع متطلبات التحول التكنولوجيا الذي فرضه عصر المعرفة على كافة القطاعات بما في ذلك قطاع الصناعة المسرحية. وهنا لابد من الإشارة كذلك إلى اضطلاع المؤسسات الثقافية والفنية بجزء مهم من تحقق الاستجابة الكاملة لفنون الأداء لتحدي “إعادة التموقع” من خلال دورها الذي يتحدد في توجهها نحو إعادة صياغة مهارات المشتغلين بالصناعة المسرحية ككل والمؤدي بوجه خاص فتواكب المتغيرات بتمكين المعرفة التكنولوجية في أوساط المشتغلين بالصناعة المسرحية وذلك من خلال زراعة تلك المعرفة في هذه الأوساط ويتحقق ذلك باستقدام الخبراء والكوادر سواء من خارج البلاد أو من داخلها فتمكن هذه العملية من نقل المعرفة إلى المشتغلين ككل والمؤدي بشكل خاص وتعمل على تحديث معارفه وخبراته وتنمي قدراته وإمكانياته مع متطلبات عصر المعرفة وأدوات التكنولوجيا.