إن مفهوم الصدفة يقابل مفهوم اللزوم….
والتقابل على أربعة أنواع هي:
1- تقابل النقيضين: كالوجود والعدم ، وإنسان ولا إنسان….
2- تقابل الملكة وعدمها: كالاعمى والبصير، والمجتهد والعامي….
3- تقابل الضدين: كالسواد والبياض،والحرارة والبرودة….
4- تقابل المتضايفين: كاﻷبوة والبنوة، والفوق والتحت….
والسؤال هنا: أي نوع من التقابل بين الصدفة واللزوم؟
أترك الجواب للسيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) حيث جاء في كتابه الرائع اﻷسس المنطقية للاستقراء ما نصه:
[{” إن الإتفاق بمعنى (الصدفة)، والصدفة تعتبر نقطة مقابلة للزوم، فإذا أستطعنا أن نفهم معنى اللزوم أمكننا أن نحدد معنى الصدفة، بوصفه المفهوم المقابل للزوم والنقيض له.”}] إنتهى
وجواب الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) واضح وصريح، حيث قال: والنقيض له.
أي أن الصدفة واللزوم تقابلهما تقابل النقيضين.
والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وهذا يعني أن اﻷقتران بين شيئين إما أن يكون عن لزوم بينهما، وإما أن يكون عن صدفة ( يعني عدم لزوم بينهما ).
فالنسبة بين الصدفة واللزوم هي نسبة التباين بحسب المصداق وهي أحدى النسب اﻷربعة التي تكون بين المفهومين المتغايرين، وهذه النسب اﻷربعة هي:
1- نسبة التساوي: كالضاحك والناطق، فإنهما بالرغم من كونهما مفهومين متغايرين إلا أنهما يجتمعان في كل المصاديق، فكل ما يصدق عليه أنه ناطقا يصدق عليه أنه ضاحكا وكل ما يصدق عليه أنه ضاحكا يصدق عليه أنه ناطقا…
فأنت عزيزي القارئ مصداق للضاحك ومصداق للناطق، ﻷن المصداق هو ما ينطبق عليه المفهوم على حد تعبير الشيخ المظفر في كتاب المنطق.
فكل ضاحك ناطق، وكل ناطق ضاحك، فهما متغايران مفهوما ومتساويان مصداقا.
2- نسبة العموم والخصوص المطلق: كالشكل الكروي والجوز، فإنهما بالرغم من تغايرهما بالمفهوم إلا أنهما يجتمعان في بعض المصاديق، بل أن كل مصاديق الجوز هي مصاديق الشكل الكروي وليس العكس، فإن الشكل الكروي يصدق على الجوز ويصدق على غيره ككرة القدم وكرة السلة وبعض أنواع الحلوى وهي ليست جوزا.
إن مفهوم الجوز ومفهوم الشكل الكروي يجتمعان في بعض المصاديق،وهذا يعني عدم إستحالة إجتماعمها.
3- نسبة العموم والخصوص من وجه: كالسواد والحصان، فإنهما بالرغم من تغايرهما بالمفهوم إلا أنهما يجتمعان في بعض المصاديق فالحصان اﻷسود هو مصداق لمفهوم للحصان، ومصداق لمفهوم السواد..
أما الحصان غير اﻷسود فهو مصداق للحصان دون السواد…
وأما القميص أﻷسود فهو مصداق للسواد دون الحصان….
فليس كل أسود حصانا، وليس كل حصان أسودا ، ولكن بعض الحصان أسود.
وهذه النسبة تقتضي عدم أستحالة أجتماع مفهوميهما كالحصان والسواد.
4- نسبة التباين: كالوجود والعدم، والمجتهد والعامي، والسواد والبياض، واﻷبوة والبنوة، والصدفة واللزوم،واﻷسد واﻹنسان، فكل هذه المفاهيم لا تجتمع في مصداق واحد، ﻹستحالة اجتماعها.نستنتج من ذلك أن المفاهيم التي يستحيل إجتماعها تكون النسبة بينها هي نسبة التباين، فهي متباينة مفهوما ومصداقا.
أما المفاهيم التي لا يستحيل أجتماعها فإن النسبة بينها تكون احدى النسب الثلاثة(التساوي-العموم المطلق-العموم من وجه).
فاللزوم والصدفة هما متباينان مفهوما ومصداقا، وتباينهما بحسب المفهوم على نحو التقابل،ﻹن المفهومين المتباينين إما أن يكون تباينهما على نحو التنافر والتعاند ويسمى إصطلاحا (التقابل) وهو على أربعة أنوع وقد تمت الاشارة اليها في بداية البحث.
وإما أن لا يكون بين المفهومين المتباينين تقابل، فليس كل متباينين متقابلين،بل إن التباين بحسب المفهوم يشمل المتقابلين والمتماثلين والمتخالفين، فإن المفاهيم غير المتقابلة قد تكون متخالفة من جهة ومتماثلة من جهة أخرى، فاﻷنسان واﻷسد متخالفان من جهة نوعهما، ومن جهة أخرى فإنهما متماثلان من جهة الجنس المشترك بينهما، فاﻹنسان والاسد يشتركان بجنس واحد وهو (الحيوان)، والمراد من الجنس هنا، الجنس بالإصطلاح المنطقي وهو أحد الكليات الخمسة، فالجنس( هو تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالحقيقة)[المنطق للشيخ المظفر]والمراد من الحيوان أيضا المعنى الإصطلاحي المنطقي الذي هو( الجسم النامي الحساس المتحرك باﻹرادة)[المنطق للشيخ المظفر].
فالكثير من الناس حينما يسمع أن تعريف الانسان هو ( حيوان ناطق )، يستغرب أو يستنكر ذلك.
ﻷن هؤلاء الناس قد خطر في ذهنهم المعنى اللغوي لكلمة الحيوان، وهم يجهلون أن المراد ليس المعنى اللغوي العرفي بل المراد هو المعنى الإصطلاحي المنطقي وهو معنى دقيٌ وليس معنى عرفيا.
وأعتقد أن الذنب ليس ذنب هؤلاء الناس كما لا يخفى على كل منصف حكيم!
وخلاصة هذا الاستطراد العلمي كما يلي:
أولا: أن التباين بحسب المفهوم على ثلاثة أقسام:
1- التقابل.
2-التماثل.
3- التخالف.
ثانياً: أن النسب اﻷربعة تكون بين المفهومين المتباينين، وهي:
1- نسبة التساوي.
2- نسبة العموم المطلق.
3- نسبة العموم من وجه.
4- التباين.
ونعود الى الصدفة واللزوم وهما مفهومان متباينان متقابلان(نقيضان) وبينهما نسبة التباين ﻹستحالة إجتماعهما…
إن كل المفاهيم المتقابلة بينها نسبة التباين بحسب المصداق، ولكن ليس كل مفهومين بينهما نسبة التباين بحسب المصداق متقابلين، ﻷن نسبة التباين بحسب المصداق أعم من المتقابلين فهي تشمل المتماثلين كالانسان والاسد.
وبعد أن عرفنا النسبة بين الصدفة واللزوم مفهوما ومصداقا، ينبغي الان تسليط الضوء على مفهومي الصدفة واللزوم، حيث أعود مجددا تاركا الكلام للشهيد محمد باقر الصدر من خلال كتابه الرائع ” اﻷسس المنطقية للاستقراء” حيث جاء فيه ما نصه:
[{” إنّ الاتفاق بمعنى ( الصدفة ) ، والصدفة تعتبر نقطة مقابلة للّزوم ، فإذا استطعنا أن نفهم معنى اللزوم أمكننا أن نحدّد معنى الصدفة ، بوصفه المفهوم المقابل للّزوم والنقيض له . واللزوم على نحوين : اللزوم المنطقي ، واللزوم الواقعي .
واللزوم المنطقي : لون من الارتباط بين قضيّتين أو مجموعتين من القضايا ، يجعل أيّ افتراض للانفكاك بينهما يستبطن تناقضاً . كاللزوم المنطقيالقائم بين مصادرات هندسة إقليدس ونظريّاتها ، نتيجة لاستبطان التفكيك بين هذه النظريّات وتلك المصادرات للتناقض .
واللزوم الواقعي : عبارة عن علاقة السببيّة القائمة بين شيئين ، كالنار والحرارة ، أو الحرارة والغليان ، أو استعمال الأفيون والموت . وهذه السببيّة لا تستبطن أيّ لزوم منطقي بالمعنى المتقدّم ؛ لأنّ افتراض أنّ النار ليست حارّة ، أو أنّ الحرارة لا تؤدّي إلى الغليان لا يستبطن بذاته تناقضاً .
فهناك – مثلا- فرق كبير بين افتراض أنّ المثلّث ليس له ثلاثة أضلاع ، وافتراض أنّ الحرارة لا تؤدّي إلى غليان الماء ، فإنّ الافتراض الأوّل يستبطن داخل بنائه الذهني تناقضاً منطقيّاً ، بينما لا يوجد أيّ تناقض منطقي داخل الافتراض الثاني ؛ لأنّه افتراض لا يناقض نفسه ، وإنّما يناقض الواقع الموضوعي للحرارة ، ولهذا كان اللزوم بين المثلّث والأضلاع الثلاثة منطقيّاً ، وكان اللزوم بين الحرارة والغليان واقعيّاً فحسب لا منطقيّاً .
و ( الصدفة ) تعبير عن المفهوم المقابل للّزوم . فإذا قيل عن شي أنّه ( صدفة ) كان معنى ذلك : عدم كونه لازماً لزوماً منطقيّاً ، أو واقعيّاً . والصدفة قسمان : صدفة مطلقة ، وصدفة نسبيّة :
فالصدفة المطلقة : هي أن يوجد شيء بدون سبب إطلاقاً ، كغليان الماء إذا حصل دون أيّ سبب .والصدفة النسبيّة : هي أن توجد حادثة معيّنة نتيجة لتوفّر سببها ويتّفق اقترانها بحادثة اُخرى صدفة ، كما إذا تعرّض ماء معيّن لحرارة بدرجة مائة فحدث فيه الغليان ، وتعرّض ماء آخر في نفس الوقت لانخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر فحدث فيه الانجماد في نفس اللحظة التي بدأ فيها غليان الماء الأوّل .
ففي هذا المثال يعتبر اقتران انجماد هذا الماء وغليان ذلك الماء ووجودهما معاً في لحظة واحدة صدفةً . والصدفة هنا نسبيّة لا مطلقة ؛ لأنّ كلاً من الغليان والانجماد وجد نتيجة لسبب خاصّ لا صدفةً ، وإنّما تتمثّل الصدفة في اقترانهما ، إذ ليس من اللازم أن يقترن انجماد ماء بغليان ماء آخر ، فإذا اقترن أحدهما بالآخر كان ذلك صدفة .
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ الصدفة المطلقة : هي أن توجد حادثة بدون أيّ لزوم منطقي أو واقعي ، أي بدون سبب . والصدفة النسبيّة : هي أن تقترن حادثتان بدون أيّ لزوم منطقي أو واقعيّ لهذا الاقتران ، أي بدون رابطة سببيّة تحتّم اقتران إحداهما بالاخرى .
والصدفة المطلقة مستحيلة من وجهة النظر الفلسفيّة الأرسطيّة ، أو أيّ وجهة نظر فلسفيّة اُخرى تؤمن بمبدأ السببيّة بوصفه مبدأً عقليّاً قبليّاً ؛ لأنّ الصدفة المطلقة تتعارض مع مبدأ السببيّة ، فمن الطبيعي لكلّ من يؤمن بمبدأ السببيّة أن يرفض الصدفة المطلقة . “}] إنتهى.
————————————