يقول الكاتب والروائي الكبير نجيب محفوظ، ان اصحاب المصالح لا يحبون الثورات، تلك المقولة تنطبق على جميع الازمان والعصور بعيدا عن الشخصيات او المسميات التي تتلائم طبيعتهم البشرية مع التناقضات وظهورها بين فترة واخرى، ولعل اقرب مثل لذلك، الطبقة السياسية التي وصلت للسلطة بعد العام 2003، ومنهم رجال الدين الذين تمسكوا بالسياسة على الرغم من ان اكثرهم لا يجيدون استخدام فنونها، فاصبحت تناقضاتهم تثير “السخرية والخجل” وفي الوقت ذاته، كونها باتت مكشوفة ولا يمكن التغاضي عنها.
لكن من بين تلك التناقضات والتي تميزت بانها قريبة جدا، هي مواقف زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر من احتجاجات تشرين التي دعا لتنظيمها شباب ليس لديهم ارتباطات سياسية وجاءت ضمن مفهوم ردة الفعل التي تولدت ضد السلطة وظلمها “لعباد الله”، لكن السيد الصدر حينما ادرك بان تلك الثورة بامكانها تغيير مجرى الاحداث، قدم نفسه وتياره بعنوان المتبرع لحماية الشباب بعد استهدافهم بنيران السلطة، ولكونه يمتلك قاعدة شعبية وجماهيرية، وبسبب “بطش” السلطة بالمتظاهرين من خلال استخدام جميع ادواتهم بالقتل، لم يجد المحتجون فرصة غير “القبول مرغمين” بمبادرة السيد الصدر، التي كانت خلفها نوايا مبيتة “لمصادرة” الاحتجاجات التي لم تنتظر طويلا حتى عقد السيد الصدر اتفاقا مع قيادات الفصائل المسلحة في مدينة قم الايرانية، بعد اكثر من ثلاثة اشهر على انطلاق التظاهرات وتحديدا في منتصف شهر كانون الثاني من العام 2020، لتكون بداية مرحلة التنازلات عن “كذبة” حماية الاحتجاجات، والتي ظهرت بصورتها الحقيقة حينما رفض المتظاهرون مرشح القوى السياسية لرئاسة الوزراء محمد توفيق علاوي، لينزل اتباع السيد الصدر من اصحاب القبعات الزرقاء، الى الساحات ويعتدون على المتظاهرين بالعصي و “التواثي”، لاجبارهم على القبول بمحمد علاوي، لكن سارت السفينة بما لا يشتهي السيد الصدر، وانتهت مسرحية محمد علاوي.
ليستمر بعدها زعيم التيار الصدري بمواقفه “المتباينة” مرة يحرض على المتظاهرين واخرى يوجه نصائح للمحتجين وينصب نفسهم مسؤولا وقائدا لهم “بطريقته الخاصة” حتى بعد اختيار مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء والذي وصل للمنصب بتزكية من السيد الصدر وتحالف الفتح، ليفضل بعدها ممارسة “سياسة الصمت” والمتفرج على عمليات اغتيال واختطاف الناشطين، لاسباب عدة ، منها الحصول على مناصب في حكومة الكاظمي كوزارتي الصحة والكهرباء، والتي اختتمت بمنصب محافظ البنك المركزي والوكيل المالي والاداري لوزارة الداخلية، لتنطلق بعدها سلسلة تغريدات مؤيدة للكاظمي وحكومته على الرغم من “الفشل” الذي لا تحتاج رؤيته سوى العين المجردة، ومع انقضاء عام على انطلاق ثورة تشرين وخلال استذكار الشهداء والجرحى وما حققته من ازاحة لحكومة عادل عبد المهدي، تفاجئ المتظاهرون بتغريدة للسيد الصدر يصف الاحتجاجات قائلا “ماتسمى انتفاضة تشرين” في “انتقاص” واضح للاحتجاجات التي استطاعت بوقف المرجعية الدينية معها “ازاحة” عبد المهدي وفريقه، ليضيف لتغريدته مجموعة نصائح جديدة يحاول من خلالها تقديم نفسه “القائد الاوحد” للاحتجاجات.
لكن.. السيد الصدر لم يكتفي بالتقليل من شأن “الثورة”، ليستغل ماحدث في مدينة كربلاء اثناء زيارة اربعينية الامام الحسين (ع)، من اعتداء على موكب ثوار تشرين ومنعهم من دخول مرقد الامام الحسين واخيه العباس (عليهما السلام) بالقوة، بعد تعرضهم للضرب بحجة محاولة اقتحام بوابة المرقد، لكن الحقيقة تقول بان الهتافات التي كان يرددها المشاركون بالموكب ضد امريكا وايران “ازعجت” بعض الجهات فكان الرد بالاعتداء، ليسارع السيد الصدر بتغريدة، ابلغنا فيها بان “المندسين في مايسمى بثورة تشرين لديهم افكار منحرفة او ميولات داعشية او بعثية وبعض المخربين عمدوا لاستغلال المناسبات الدينية في كربلاء لتجييرها لمصالحهم الضيقة وافكارهم المنحرفة المعادية للدين والوطن”، ليخير بعدها القوات الامنية بين التدخل لحماية المقدسات من مخططات “مشبوهة”، كما وصفها، او التدخل بصفته الشخصية وبطريقته الخاصة والعلنية، ليدعو الجميع الى التأهب وانتظار الاوامر، مهددا متظاهرين تشرين بالقول.. و”لعلهم لا يستطيعون التظاهر مستقبلا”.. وهذه لا يمكن تفسيرها بغير التحريض الواضح على قتل المتظاهرين من خلال الحديث عن مخطط خارجي، والتصرف بطريقته الخاصة التي اجاب عنها في لقاء متلفز سابق، حينما سُئل عن اعتداء اصحاب القبعات الزرقاء على المتظاهرين، ليرد انها “جرة اذن”.
الغريب… ان السيد الصدر بهذه التغريدة جعل نفسه قائدا عاما للقوات المسلحة، ويمتلك صلاحيات فرض العقوبات على المواطنين ومقاضاتهم، متجاهلا بان هذه الافعال لا يمكن ان تحصل لو كانت هناك حكومة قوية تحترم نفسها وتسعى لفرض “هيبة الدولة” كما تدعي، في وقت اتخذ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي موقف المتفرج ولم يخبرنا باي موقف “يحفظ” للدولة هيبتها بعد “مسرحية” الدفاع عن المذهب وال البيت (ع) التي قدمها السيد الصدر، متجاهلا بان اتباعه احرقوا عجلات الشرطة واعتدوا على القوات الامنية عند مرقد الاماميين خلال زيارة النصف من شعبان في العام 2007، فهل من يأتي بالعلم ويردد هتافات يعد “منتهكاً” لحرمة الائمة، ام من يحمل السلاح ويقتل القوات الامنية ويحرق الممتلكات العامة عند بوابة الضريح المطهر.
الخلاصة…. ان ثورة تشرين بدماء شبابها وصبرهم شكلت عقدة لدى الصدر وهو يحاول التخلص منها بين فترة واخرى بعد “الانتفاء” الحاجة لها، بمواقف تدعو لاسكات صوتها باي طريقة كانت حتى اذا تطلب الامر “خلق” فتنة تحرق الاخضر باليابس، لكن بيان العتبتين العباسية والحسينية، جاء في الوقت المناسب لتصف المتظاهرين “بالاخوة”، وتؤكد انما حصل كان بسبب عدم وجود التزام بالتنظيم وليس “لوجود مخططات خارجية”…. اخيرا…. السؤال الذي لابد منه… متى ينتهي التحريض على القتل؟..